دولة الدين أو المذهب تقضي على لبنان!
عاب المسلمون في لبنان إجمالاً، قبل قيام دولته المستقلة عام 1943، أي في أثناء كونه جزءاً من السلطنة العثمانية لنحو أربعة قرون وربما قبل ذلك، على مسيحييه علاقتهم بدولة فرنسا التي كانت تعرّف بأنها "الابنة البكر" للمسيحية، إذ اعتبروها رفضاً لتحوّلهم إلى الإسلام الطاغي شعبياً في المنطقة كلها، واعتبروا معتنقيها تابعين لها ومتمتعين بحمايتها. وفي ذلك نقص في الولاء للدولة (الوطن؟) وإعطاء فرنسا الدولة العظمى في حينه موطئ قدم في لبنان تستغله عند الحاجة لإقلاق راحة السلطنة، فيدفع ويدفعون ثمن حمايتها "الزائفة" مجازر واضطهادات، فيما يرتّب هؤلاء مصالحهم. وعاب المسلمون أيضاً على مسيحيي لبنان منذ قيام الدولة التي أسّستها فرنسا وكان لها دورٌ مباشر ومميّز في صوغ دستورها وفي إعطاء هؤلاء موقعاً مميّزاً داخلها، عابوا عدم مبادرتهم بعد إنشاء لبنان الدولة إلى جعل نظامه السياسي أكثر عدلاً ومساواةً بين المواطنين المسيحيين والمسلمين، علماً بأنهم كانوا يعرفون أن قسماً مهماً من هؤلاء كان يطمح إلى أن يكون جزءاً من دولة سوريا يوم قامت برئاسة الأمير فيصل بن الحسين التي لم تدم طويلاً، ثم يوم حلّت مكانها دولةٌ سورية جديدة لا تزال قائمة حتى اليوم رغم تبدّل الأنظمة فيها. انطلق المسلمون من ذلك لتبرير المحاولات غير السلمية التي قاموا بها لإصلاح الواقع المجحف بحقهم أو لتغييره جذرياً. كانت أولاها "ثورة" 1958 ثم اصطفاف المسلمين مع الفلسطينيين المقيمين في لبنان منذ 1948، الذين هجّروا إليه من الأردن عام 1970، بعد "اتفاق القاهرة" الذي وقّعته دولة لبنان بموافقة رئيسها شارل حلو 1969. وكانت ثانيتها الحرب الأهلية التي تقاتل فيها مسلمو لبنان على تنوّع مذاهبهم مع معظم مسيحييه مدة 15 سنة، وشاركتهم فيها جهات سورية وفلسطينية وإسرائيلية، وراقبها العرب الفاعلون من بعيد وكذلك كبار المجتمع الدولي. أنهى "اتفاق الطائف" بعرّابيه اللبنانيين والعرب والدوليين الحرب وأسّس لدولة جديدة ضمُر فيها الدور المسيحي على نحو ملحوظ.
هل قام بعد لبنان المسيحي لبنان الوطني؟ طبعاً لا. وهذا تاريخٌ جديد لا ينساه اللبنانيون. فسوريا حافظ الأسد التي أوكل إليها الأميركيون بموافقة عرب الخليج والمغرب مساعدة اللبنانيين على تنفيذ "اتفاق الطائف" في نزع السلاح وحلّ الميليشيات وبناء الدولة الجديدة الأكثر توازناً، نزعت سلاح أعدائها المسيحيين وأعادت الفلسطينيين إلى مخيماتهم مهزومين بعد اجتياح إسرائيل لبنان عام 1982، وحدّت من دور المسلمين السنّة، وفتحت أمام الحليف اللبناني الوحيد الباقي لها أي الشيعة أبواب الإدارات الرسمية المتنوّعة والأسلاك العسكرية والمؤسسات الدستورية. طبعاً اعترض المسيحيون على ذلك لكنهم لم يعالجوا المشكلة بحكمة ولا سيما بعدما بدأ عددهم بالضمور. ولم يُفد استشهاد الرئيس رفيق الحريري في تكتيل السنة والمسيحيين والدروز وعملهم لإقامة دولة جدية لكل أبنائها رغم خروج الجيش السوري منه. كان السبب أن "ملائكته" المحليين كانوا جاهزين للاستمرار في الحفاظ على مصالحه ولا سيما بعدما حلّت الجمهورية الإسلامية الإيرانية مكان سوريا الأسد في الإمساك بلبنان مع المحافظة في الوقت نفسه على مصالح دمشق.
لماذا إثارة هذا الموضوع اليوم؟ لتذكير اللبنانيين بأن المسلمين السنّة كان "ولاؤهم" للعروبة والإسلام وفلسطين أكثر من ولائهم لـ"لبنان المسيحي" في رأيهم رغم فترة "الطائف" والرئيس الحريري، وأن الشيعة صاروا تابعين لإيران الإسلامية بواسطة "حزب الله" وقوته ونجاحه في مواجهة إسرائيل وإخراجها من لبنان عام 2000، وفي إفشال هجومها عليه عام 2006، وتحوّل طائفته دولة أو الدولة بعدما انهارت دولة لبنان الرسمية. طبعاً بقي الشيعة لبنانيين لكنهم صاروا في ساحة الحرب وجزءاً من نظام ولاية الفقيه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ينفّذون سياستها ويحافظون على مصالحها بعد "اقتناعهم" بأن مصالح الفريقين صارت واحدة. ولا يُقنع "الاستشهاد" من أجل لبنان، وهو حقيقي ومقدّر، أحداً داخل لبنان وخارجه بأن الولاء الأول للشيعة، انطلاقاً من الدين الإسلامي والمذهب الشيعي الاثني عشري فيه صار لإيران النظام والدولة. وباهى قادتهم وشعبهم وشهداؤهم بذلك. طبعاً يعترف لبنان غير الشيعي بإيجابية إيرانية واحدة هي تحرير لبنان من إسرائيل وجعله قادراً عسكرياً وبوجوده في الدولة وكل مؤسساتها على مواجهتها وإيذائها. لكن لبنان "غير الشيعي" يعتبر أن لبنان الشيعي صار حقيقةً واقعة حتى الآن على الأقل. وربما تكرّس الدول الكبرى ذلك مستقبلاً انطلاقاً من مصالحها. لكن هذا اللبنان لن يكون حقيقياً إذ سيكون ملحقاً بإيران بل جزءاً منها وانطلاقاً من إيديولوجيا دينية ومذهبية واحدة هي الشيعية الاثنا عشرية على الطريقة الخمينية. وستكون شعوبه الأخرى جزءاً غير مقرّر منها. وفي ذلك تناقض كبير، إذ عاب المسلمون كلهم على المسيحيين اللبنانيين في الماضي اعتمادهم على فرنسا والغرب المسيحي. لكنهم ذهبوا بدايةً بقيادة السنّة إلى الالتحام بالعرب السنّة المؤمنين بالقومية العربية وقضية فلسطين وزعيمهم في ذلك الحين رئيس مصر جمال عبد الناصر. لكنهم الآن بقيادة الشيعة صاروا علانية جزءاً من نظام ديني إسلامي إيراني يقوده الولي الفقيه.
المُضحك المبكي أن بعض قادة الموجة الإيرانية الخمينية في لبنان كانوا يحاولون تخفيف خوف المسيحيين منها بالقول إنها مثل علاقة الموارنة والكاثوليك في لبنان بمرجعيتهم الدينية العالمية أي الفاتيكان. وكان في ذلك شيءٌ من "الخداع"، مع الاعتذار من هذا التعبير، إذ إن العالم كله يعرف أن الفاتيكان ليس دولةً لها جيوش عسكرية ومصالح اقتصادية وأمنية و... وأنه ينصح ويسعى مع الدول الكبرى لكنه لم ينجح إلا نادراً في مسعاه في محاولة مساعدة مسيحيي لبنان ولبنان ومسيحيين آخرين في العالم باستثناء دولة بولونيا. والسبب أن بولونيا كانت دولة تابعة للاتحاد السوفياتي وأن بابا الفاتيكان كان بولونياً، وأن أميركا احتاجت إلى البابا الكاثوليكي البولوني لزيادة تثوير البولونيين ضد السوفيات.
خلاصة القول أن على اللبنانيين، إذا وصلوا إلى مرحلة الحوار بين بعضهم بعضاً لإقامة دولة جديدة، أن يأخذوا في الاعتبار كل ذلك، وإن لم يفعلوا فإن بلدهم سيبقى في حال من الصراع الداخلي، ومن التصارع الخارجي عليه. ولا يعيد إليه الوحدة القادرة على الصمود إلا نظام غير ديني وغير طائفي وغير مذهبي عماده المواطن الحر من كل القيود. والدين ليس قيداً لكنه لا يصلح أن يكون دستوراً لدولة مسيحية أو مسلمة في العالم كله في ظل وجود مجموعات من ديانات وطوائف ومذاهب مختلفة ومتناقضة يعيش بعضها مع بعض في دولة واحدة وجاهزة دائماً للتقاتل.
شاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|