عن متلازمة “الانتصار شو ما صار”!
بعد كل الهزائم التي مُني بها “حزب الله” منذ عام وحتى اليوم، يُصاب اللبنانيون الذين يستمعون إلى كلمات الأمين العام الجديد لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم، بالذهول، وخصوصاً عندما يتكلم عن الانتصارات، فيما يتعرّض “الحزب” لهجمات اسرائيلية متواصلة أدت إلى اغتيال أمينه العام حسن نصر الله ورئيس مجلس الشورى هاشم صفي الدين وقُتِلَ معظم مسؤولي وحدة “الرضوان”، ودُمّر عدد كبير من مخازن الأسلحة والصواريخ، وهُدم بعض التحصينات والأنفاق في القرى الحدودية.
أمام هذه النكبة، لا يزال قاسم يتكلّم عن الانتصارات، وكأنه يعيش على كوكب آخر، وقد ختم كلمته الأخيرة بهذه العبارة “ولى زمن الهزائم وسننتصر ولو بعد حين”، علماً أن اللبنانيين لا يشعرون بأي رابط مع انتصارات قاسم التي لا علاقة لها بلبنان والمأساة التي حلّت بالشعب اللبناني وتحديداً بيئة “الحزب” وأبناء الطائفة الشيعية الكريمة التي نزح منها ما لا يقل عن مليون شخص إلى المناطق الأكثر أماناً.
لكن في الواقع، لا يعيش قاسم على كوكب آخر، ويعرف جيداً حجم النكبة، إلا أنه يتكلّم إنطلاقاً من عقيدته الدينيّة، وهذا ليس صعباً إكتشافه، فهو كتب مقالاً شهيراً منذ فترة بعنوان “كربلاء والنصر”، ويكفي أن نستعرض هذه العبارة من المقال لنفهم معنى الانتصار الذي يرتجيه قاسم: “الانتصار يكون بالإستشهاد الذي يفضي إلى جنان الخلد والى رضوان الله تعالى، وكل واحد منا يسعى كي يتقبله الله تعالى، فيعمل لتحقيق رضوانه. إنَّ شهادة الحسين، وشهادة من معه أوصلتهم إلى رضوان الله تعالى وجنته، فهم فازوا كأفراد، وغادروا الحياة الدنيا مأجورين مشكورين، ووصلوا إلى الرفيق الأعلى في أعلى مقامات الجنة وفي أرقى مستوياتها التي خصصت للأنبياء والأئمة والشهداء”. وهكذا يكون علينا جميعنا في لبنان، كي لا نشعر بالاستغراب، أن نعتنق عقيدة قاسم الدينية بإرادتنا، وإلا سيفرضها علينا كما يفعل اليوم في خيار الاستمرار في الحرب العبثية التي يخوضها “الحزب” منذ 8 تشرين الأول 2023، وهو يغيّر لها عناوينها بحسب الظروف، إذ كانت “حرب اسناد” وأصبحت “حرب مواجهة”، وإذا انتظرنا قليلاً بعد قد تُصبح “حرب استشهاد جميع اللبنانيين”!
لكن ما يعيشه قاسم وما تبقّى من حزبه، يفسّره الخبير العسكري حنا لبّس على نحو علمي إنطلاقاً من تحديد مفهوم الإنتصار، ويلفت إلى أن “الإنتصار العسكري في معركة أو حرب لا يشكّل، انتصاراً نهائياً أو استراتيجياً وطنياً. في بعض الدول والمجتمعات تأخذ عبارة النصر مدلولات معنوية أكثر منها مادية، وتحمل بعداً وجدانياً وعاطفياً، مرتبطاً مباشرة بالتضحيات والبطولات وإرادة الصمود، فتتجه بذلك إلى المثالية وتبتعد نوعاً ما عن البعد المادي. وهذا المفهوم يطبّق عادة في الدول التي يغلب على طريقة حياتها وثقافتها الطابع الإيديولوجي، حيث يصبح الإنتصار حاجة معنوية جماهيرية مرتبطة بالعديد من المكوّنات الخاصة بهذه الجماهير، مثل، الدين، التاريخ، طريقة الحياة، النظام الاجتماعي، النظام السياسي، التحالفات الدولية أو التبعية… أمّا في الدول المتقدمة والمتحررة من الإيديولوجيا، فالنصر يكون بتحقيق الأمن والحرية والرفاهية للشعب، أي المصلحة المادية والمكتسبات الملموسة. ومن هنا نرى أنّ لكل بيئة انتصارها الخاص المرتبط بمدى الوعي والإدراك لمفهوم الانتصار الحقيقي”.
وأهم ما قاله لبّس وينطبق على قاسم و”حزبه” أن “كثيرين من القادة وأصحاب القرار يتوهون في مفهوم الإنتصار الحقيقي، أو أنهم بهدف تحقيق استمرارية السيطرة على الجماهير والتمسّك بالسلطة، يخدعونها بإنتصار وهمي، ويحرصون على أن يتحوّل هذا الإنتصار إلى حالة وجدانية ترضي عواطف جماهيرهم ونزوات قادتهم. وعادة ما يتم التسويق لهذا النوع من الانتصارات بصورة فورية بعد الحرب أو المواجهة، وعلى الرغم من الغموض الذي قد يشوبها، يتمّ تكريسها كانتصار لا يقبل الشكّ، وهذا ما يفسر عدم الاعتراف بالهزيمة عند الكثير من القادة”.
وإذا أردنا التسليم جدلاً بأن “الحزب” حقق انجازات بسيطة في الميدان اختصرها قاسم بقتل 90 جندياً اسرائيلياً و750 جريحاً و38 دبابة و4 مسيرات! إلا أنه يصرف النظر بوقاحة عن أكثر من 3500 شهيد لبناني و14 ألف جريح! وبلغ عدد الغارات الاسرائيلية ما لا يقل عن 11،478 منذ حوالي الشهر، مقابل مئات الصواريخ والمسيّرات المحدودة الفعالية التي أرسلها “الحزب” إلى شمال اسرائيل وتل أبيب، علماً أن الأضرار التي ألحقتها بالمجتمع الاسرائيلي لا تقارن بما ألحقته آلة الدمار الاسرائيلية بالمناطق اللبنانية وخصوصاً في الجنوب الذي أُزيلت فيه قرى نهائياً.
واللافت أن قاسم ومستشاريه ومرجعيته الايرانية، يتشابهون إلى حد كبير مع الأنظمة العربية القديمة التي كانت تمارس الطقوس الكاذبة والوهمية لمفهوم الإنتصار، بحيث يحوّلون، كل الهزائم الفعلية، من خلال الأكاذيب والخداع والوهم، إلى انتصارات.
يُمارس قاسم وحزبه الإنكار، بل يعيش في قمقم عقيدته، وما تمليه عليه مرجعيته الايرانية، فيما طفح كيل الشعب اللبناني من استيعاب هذا التنظيم “غير القانوني” وأداء قادته “غير المنطقيين” وتكرار “أوهامهم” وتعزيزها والمبالغة في التباهي بهذه الانتصارات “المزعومة” كما فعلوا في تمثيليّة التحرير عام 2000 ثم حرب تموز 2006. وما يؤلم الشعب اللبناني أن “الحزب” اتخذ قراراً أحادياً لشن الحرب على إسرائيل من دون استشارة دولة لبنان والالتفاف على مؤسساتها، بل أنشأ دولته الخاصة داخل الدولة واستبدل مؤسساتها بآليات التبعية الخاصة به ومنع الجيش اللبناني وقوات الأمن من ممارسة مهامهم والدور المنوط بهم.
يرتكب “الحزب” جريمته المتمادية بحق اللبنانيين عبر استمراره في هذه الحرب، وهم وحدهم يدفعون ثمن حسابات “الحزب” الخاطئة، وهذا الثمن هو دم أولادهم وممتلكاتهم واقتصادهم ومستقبلهم.
تَعِد الممانعة جماهيرها بالكرامة والعنفوان والإنتصار، وهي لم تجلب لها سوى الذلّ، فالكرامة تبدأ من تأمين مستلزمات الحياة الكريمة والبديهية لأي مواطن من قبيل الاستشفاء والتعليم والمسكن والعمل ورفاهية الحياة، ولا تنتهي بالدفاع عن حريته، ولكن المواطن العاجز عن الدخول إلى المستشفى وغير القادر على دفع إيجار منزله وتعليم أولاده، وهو يعيش في حالة فقر ما بعدها فقر، إنّه يعيش الذلّ لا الكرامة والانتصار، والسبب هو سياسة الممانعة التي لا تقيم لا وزناً ولا اعتباراً للإنسان ومصلحته، إنّما تتعامل معه كأداة في خدمة استراتيجيتها.
لم تجلب الممانعة لشعوب المنطقة سوى الذل والعتمة والفقر والموت والعذاب، وما زالت تعتقد أنّها قادرة على تضليل بعض الناس بخطابات أيديولوجيّة، كما يفعل الشيخ نعيم قاسم ومرشده علي خامنئي، تُنسيها واقعها المزري بالكلام عن العنفوان، ولكن عن أي عنفوان تتحدّث الممانعة في ظلّ الموت والفقر والتهجير والدمار والخراب؟
ما ينتظر “الحزب” هو هزيمة تلو الأخرى، بسبب غياب الواقعية عن قيادته والتبعية لإيران من دون أي اكتراث بمصلحة لبنان وشعبه، والطريق الوحيد إلى الحل هو تطبيق القرار 1701 كاملاً ومن دون مواربة، وتسليم “الحزب” سلاحه سعياً إلى سلاح واحد بيد الجيش اللبناني، بدليل أن “الحزب” فشل في منع اختراق إسرائيل للأجواء اللبنانية، وفشل في حماية كوادره من الاغتيالات الاسرائيلية المتواصلة، وفشل في حماية مخازن أسلحته، وفشل في حماية ناسه في مناطق نفوذه، وفشل في الردّ على الاغتيال باغتيال، وفشل في تفجير مخازن الأسلحة الاسرائيلية مقابل تفجير مخازنه، وفشل في ردع اسرائيل ومنعها من تدمير القرى وتهجير الناس.
في المحصّلة، ان سلاح “الحزب” لا علاقة له بإسرائيل ولا بالدفاع عن لبنان، ويتعلّق حصراً بمشروع عقائدي-سياسي إيراني، وفاعليته الوحيدة تكمن في إبقاء اللبنانيين في حالة الفوضى الدائمة، ومنع الدولة من أن تستعيد مقوماتها الاستراتيجية. لذلك، ويا للأسف، ستستمر الحرب حتى تتحقق نظرية الشيخ نعيم قاسم العقائدية وهي “الانتصار يكون بالإستشهاد الذي يفضي إلى جنان الخلد”، وهكذا سيكون “الحزب” أقلية في الأرض، وأكثرية في جنان الخلد! انها متلازمة “الانتصار مهما صار”.
جورج حايك-لبنان الكبير
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|