الكسارات تأكل لبنان... جبال تُسحق وأطفال يختنقون بالغبار
في بلد تتهاوى فيه القوانين كما تتهاوى جباله، تحولت الكسارات والمقالع إلى آلة طحن مزدوجة، تطحن الطبيعة وتطحن معها صحة الناس ومستقبلهم. فمن الشمال إلى الجنوب، ومن السواحل إلى أعالي الجبال اللبنانية، تنتشر هذه المنشآت كندوب غائرة في جسد الطبيعة، فالمئات منها تعمل من دون ترخيص قانوني أو خارج الأطر البيئية المعتمدة، ما يفاقم الأضرار على النظم البيئية والمجتمعات المحيطة. وقد أظهرت تقارير رسمية وبيئية أن أكثر من 70% من المقالع والكسارات تعمل بطريقة غير قانونية، فيما الدولة تغط في سبات إداري مريب.
منذ عقود، تشكل الكسارات والمقالع في لبنان ملفاً شائكاً ومعقداً، فعلى الرغم من الدور الذي تلعبه هذه المنشآت في تأمين مواد البناء والأسمنت والبنى التحتية، إلا أن آثارها البيئية والاجتماعية، جعلت منها أحد أبرز رموز التعدي على الطبيعة والقانون في البلاد.
فرغم المحاولات المتكررة، فشلت الحكومات المتعاقبة في وضع خطة وطنية شاملة لإدارة المقالع والكسارات. فمنذ أكثر من عشر سنوات طرح ما يعرف بـ"المخطط التوجيهي" الذي حدد مواقع يسمح فيها بإنشاء المقالع بشروط بيئية صارمة، لكن هذا المخطط بقي حبراً على ورق، بسبب غياب الإرادة السياسية، وانعدام الجدية في فرض القانون.
لمخطط توجيهي
مؤسس ورئيس "جمعية الأرض- لبنان" والمنسق والمدرب في مجال التربية البيئية بول أبي راشد أكد لـ "الديار" أن "الاثر السلبي يقع على المناطق السكنية المجاورة للكسارات ومجاري المياه الجوفية والينابيع ،خاصة عند استخدام المتفجرات التي ينتج عنها تشققات خطيرة في الطبقات السفلية للأرض، إضافة إلى اثر الغبار على الاراضي المزروعة المجاورة للكسارات والمقالع، ناهيك عن اثر الشاحنات على طرقات البلدات وخطرها على السلامة العامة". وشدد على دور الدولة اللبنانية في "تحديد مخطط توجيهي للمقالع حديث، يأخذ بعين الاعتبار الأثار السلبية على المياه الجوفية والاراضي الزراعية والمناطق السكنية".
ودعا إلى "ايقاف كافة المقالع والكسارت اذا كانت خارج المخطط التوجيهي للحد من تفاقم الاضرار، والتشدد بعدم اعطاء اذونات غير شرعية"، رابطاً عودة نشاط الكسارات بملف التحضير لإعادة الاعمار بعد الحرب في لبنان وسوريا.
سرطان ... وأمراض تنفسيّة وجلديّة
من الناحية الصحية، أكد مصدر طبي إلى "أن الآثار السلبية لهذه الأعمال التي دمرت التنوع البيولوجي والحياة البرية، تتعدى المنظر المشوَّه للطبيعة ، فالغبار الناجم عن تفجير الصخور وسحقها يخلف آثارا صحية خطيرة، أبرزها أمراض الجهاز التنفسي، الربو، التهابات مزمنة، إذ إن بقايا نيترات الأمونيوم قد تتوغل إلى جوف الأرض وتختلط مع المياه الجوفية، بكميات نجهل حجمها وهذه الرواسب لا تؤذي المياه فقط بل التربة أيضاً، وترفع من نسب الإصابات بمرض السرطان"، مضيفاً "هناك تقارير متخصصة وثقت ارتفاع معدلات الأمراض التنفسية والجلدية في المناطق القريبة من المقالع والكسارات، بسبب الغبار والمواد السامة المتطايرة".
بدأت فوضى الكسارات بعد الحرب المشؤومة (1975-1990)، وتفاقمت مع خطط إعادة الإعمار التي بلغت ذروتها بين عامي 1994 و2000. وتشير بعض الدراسات إلى ارتفاع عدد المقالع من 711 في عام 1996 إلى 1278 في عام 2005، حيث ينتشر 32.4 % منها ضمن الأحراش والمناطق العشبية، و21.5 في المئة منها في الغابات والأراضي الخصبة، بينما يوجد 3.2 % منها داخل مناطق مدينية، ووفقا للبنك الدولي تحتل محافظة جبل لبنان المرتبة الأولى في مساحة وعدد المقالع والكسارات لا سيما في أقضية عاليه والمتن وجبيل وكسروان حيث تبلغ المساحات المتضررة أكثر من 15 مليون متر مربع، بينما تبلغ المساحات المتضررة على كامل الأراضي اللبنانية نحو 65 مليون متر مربع.
"طبخة البحص" ورغم ما تخلفه من دمار بيئي وصحي طويل الأمد مستمرة، تقدم كوجبة دسمة لأصحاب النفوذ والمصالح، فيما يدفع اللبنانيون الثمن من صحتهم وبيئتهم ومستقبل أجيالهم.
يذكر أن الكسارات في بلدة التويتة تم إيقاف العمل فيها عدة مرات، وكان آخرها في 13 كانون الثاني من هذا العام، حيث استيقظ أهالي بلدة التويتة، على انفجار كبير عند الساعة الرابعة و١٩ دقيقة فجراً مترافقاً بهزة، تبين أنه صادر عن تفجير في احد المقالع غير القانونيّة في نطاق البلدة، وتم ختم الكسارات من قبل القضاء المختص بالشمع الأحمر، وتوقيف المخالفين بحسب "جمعية الأرض".
"المنفعة الاقتصادية"
يدافع البعض عن استمرار عمل الكسارات، تحت ذريعة "المنفعة الاقتصادية" وتوفير فرص العمل، غير أن هذا الخطاب غالباً ما يتجاهل الكلفة البيئية والصحية الباهظة التي تتحملها الدولة والمجتمع. فالعديد من هذه المقالع والكسارات تعمل من دون أي خطط لإعادة تأهيل المواقع، مما يؤدي إلى تدهور التربة وتلوث المياه، وينعكس سلباً على قطاعات حيوية كالسياحة والزراعة، وعلى قدرة الأجيال المقبلة على الاستفادة من موارد طبيعية منهوبة، وتعزز الأرقام هذا الواقع المقلق. فبحسب دراسة أعدها فريق من البنك الدولي، تبين أن المقالع تخفض من قيمة الأرض المجاورة بنسبة تتراوح بين 16% و17%، ومن قيمة الشقق السكنية بين 16% و45%، ويقدر هذا التدهور الاقتصادي بما يعادل 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 34.5 مليون دولار سنوياً.
ورغم هذا الأثر السلبي الواسع، لا تزال الأرباح الطائلة تتكدس في أيدي أصحاب الكسارات، فيما لا تحصّل خزينة الدولة إلا على "الفتات" من الرسوم والضرائب، وغالباً ما تهدر هذه الإيرادات بالكامل بسبب ضعف الرقابة وغياب الشفافية.
قرار بإلغاء شرعنة المقالع والكسارات
غير أن السنوات الأخيرة شهدت تحركات خجولة لمحاولة ضبط هذا القطاع، فبعد سنوات من التراخي الرسمي، اتخذت حكومة الرئيس نواف سلام قراراً بإلغاء شرعنة المقالع والكسارات، في خطوة وصفت بالمفصلية، تبعها صدور أوامر تحصيل بحق عدد من المخالفين من وزارة البيئة في حكومة تصريف الأعمال السابقة.
يذكر أن وزارة البيئة في حكومة تصريف الأعمال السابقة، أطلقت في حزيران من العام الماضي دراسة هي الأولى من نوعها مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لحساب مستحقات قطاع المقالع والكسارات والمرامل للخزينة. ووفق الدراسة قدرت مستحقات الخزينة من هذا القطاع بنحو 2.394 مليار دولار أميركي كحد أدنى، مع الإشارة إلى أنها استندت الى مسح أجراه الجيش وشمل أكثر من 1,230 مقلعاً.
من جهتها، أعلنت وزيرة البيئة تمارا الزين لاحقا أن الوزارة طلبت من وزارة المالية التريث في تنفيذ أوامر التحصيل، بسبب وجود مغالطات جوهرية تتعلق بتقدير الأثر البيئي وصلاحيات الجهات التي أعدت الدراسة، كما أثيرت إشكالات قانونية تتعلق بهوية الأشخاص الموجهة إليهم الأوامر، وآلية تبليغهم التي تمت عبر شركات خاصة، بدلا من اعتماد الآليات الرسمية للدولة.
يشار إلى أن تحديد رسوم وبدلات استثمار المقالع المنصوص عليها في المرسوم الرقم 8803 تاريخ 4/10/2002 وتعديلاته (تنظيم المقالع والكسارات) لا سيما أحكام المادة الثالثة والعشرين، تتم على اساس تحديد الرسم السنوي لاستثمار المتر المربع الواحد من مساحة ارض المقلع أو الكسارة للمساحة المحددة في قرار الترخيص، وقد نصت المادة 61 من القانون 144 الصادر في 31 تموز 2019 على ملاحقة كل شخص استثمر عقاراً كمقلع أو مرملة أو كسارة، من دون ترخيص قانوني أو خالف الترخيص الممنوح له حتى سداد كل الضرائب والرسوم والبدلات المتوجبة عن كل سنوات الاستثمار ابتداءً من العام 2004 وإنجاز كل الموجبات الملقاة على عاتقه لرفع الضرر البيئي الذي سبّبه ويعتبر هذا القانون قاطعاً لمرور الزمن.
أدوات تدمير مُمنهج
وفي ضوء هذه الثغرات ولتنظيم القطاع واحتواء تداعياته التاريخية ، يدعو خبراء بيئيون إلى تحديث المرسوم 8803/2002 ليواكب التغيرات الواقعة منذ أكثر من 20 سنة، وإقرار قانون أكثر تشدداً من المرسوم، من دون السماح للمخالفين بالإفلات من العقاب، منع الاعتباطية في الاستثمار، من خلال تحديد حاجة لبنان الحقيقية من القطاع وفتح باب الاستيراد، التسريع بإقرار وتنفيذ خطة لتحصيل مستحقات قطاع المقالع لخزينة الدولة، فرض رقابة مشددة على "التأهيل"، وعدم ربط الاستثمار بالتأهيل، حيث يعاد فتح المقالع بحجة تأهيلها، وإن وفق الشروط البيئية ولكنها حجة قديمة- جديدة لتشغيل الكسارات مع كل تداعياتها المدمرة، واخيرا حصر الاستثمار في المقالع والكسارات في أملاك الدولة اللبنانية، أو "مصرف لبنان"، وهي بمثابة "الذهب الأبيض"، لما تدره من أرباح سنوية بملايين الدولارات.
في بلد تستباح فيه الطبيعة كما تستباح حقوق الناس، تتحول المقالع والكسارات من مشاريع إنمائية إلى أدوات تدمير ممنهج، وامام هذا الواقع لم يعد السكوت مقبولاً ولا التراخي مبرراً، فملف المقالع والكسارات لم يعد قضية بيئية فحسب، بل قضية قانون وحقوق وعدالة، والمسار الإصلاحي الحقيقي يبدأ من تطبيق القوانين القائمة دون انتقائية، وتحديث الأطر التشريعية والتنظيمية، ومحاسبة كل من تسبب بهذا الدمار البيئي والمالي. فدولة لا تحترم قوانينها، تفقد شرعيتها، وتهدر ما تبقى من حق المواطن في بيئة سليمة وعدالة متساوية.
يشار إلى أن صحيفة "الاندبندنت" البريطانية نشرت عام 2018 تحقيقاً للكاتب روبرت فيسك بعنوان "جبال لبنان تمسَح عن الخريطة – لكن هل يكترث احد"؟ ووصف فيسك التحقيق ما يجري بـ"مجزرة الجبال"، مشيراً إلى تدمير جبال بكاملها واقتلاع عشرات آلاف أشجار الصنوبر وتغيير جغرافية لبنان، فهل يكترث المسؤولون بهذه المجزرة البيئية المستمرة؟
المعاهدات والاتفاقيّات الدولية والمبادئ
ومن أهم المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي التزم بها لبنان:
- اتفاقية فيينا لحماية طبقة الأوزون، التي تهدف إلى حماية طبقة الأوزون من خلال تقليل انبعاث المواد المستنفدة للأوزون.
- اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ ،(UNFCCC)والتي تهدف إلى تحقيق استقرار تركيزات غازات الدفيئة في الغلاف الجوي، لمنع التدخلات البشرية الضارة على النظام المناخي.
- بروتوكول مونتريال الذي يهدف إلى القضاء التدريجي على إنتاج واستهلاك المواد المستنفدة لطبقة الأوزون.
- قانون حماية البيئة رقم 444: يضع الإطار القانوني لحماية البيئة في لبنان، ويتبنى العديد من المبادئ الدولية.
ومن أهم المبادئ التي تبناها لبنان في قانون حماية البيئة:
- اعتبار حماية البيئة ذات مصلحة عامة: هذا المبدأ يضع حماية البيئة ضمن الأولويات الوطنية.
- مبدأ الاحتراس والوقاية: يشجع على اتخاذ التدابير الوقائية لتجنب الأضرار البيئية المحتملة.
- مبدأ الملوث يدفع: يلزم الملوث بتحمل تكاليف معالجة الأضرار البيئية التي يسببها.
- مبدأ حق المواطن بالحصول على المعلومات البيئية: يضمن حق المواطنين في الحصول على معلومات حول البيئة لاتخاذ قرارات مستنيرة.
وتؤكد هذه المعاهدات والاتفاقيات والمبادئ على التزام لبنان بحماية البيئة واتباع أفضل الممارسات الدولية في هذا المجال.
الديار - ربى أبو فاضل
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|