إدمان سوري على الخارج.. تنمّر في الداخل
لا مبالغة في القول إن دروس إسقاط الأسد باقية، بعد مضي أكثر من تسعة شهور على هربه، والخشية من آثارها المستدامة ماثلة من دون وعي يضعها على سكّة الخلاص منها. نعني هنا بالدروس كيف كان الأسد على شفا السقوط حقاً في العديد من المناسبات، بدءاً من التضعضع أمام الثورة السلمية وآفاق تحوّلها إلى عصيان شامل، وصولاً إلى تحييد الخطر العسكري تماماً بتوافق روسي-تركي ورعاية أميركية-إسرائيلية غير رسمية.
فرَضَ الخارج مشيئته بعدم إسقاط الأسد الذي كان مستحقاً، ثم بتركه يواجه مصيره بعد تسويف ارتبط بملفّات إقليمية، وانتهى مع قرار الإجهاز على المحور الإيراني. هذا واحد من أقسى الدروس، لا فقط بسبب الثمن الباهظ للإبقاء على الأسد، والسنوات الدموية بحصيلتها من القتال، ومن عمل نظامه المخابراتي الإبادي، بل هو درس قاسٍ لأن آثاره المديدة قد لا تزول في الأمد المنظور.
الدرس الذي يكاد يعرفه كل سوري هو: لا قيمة لإرادات السوريين، طالما لم تحظَ بسند خارجي مؤثّر. هذه الخلاصة، التي صارت بديهية، تبدو بغنى عن التكرار وعن التفكير فيها، إلا أن التسليم بها أبعد من التبسيط الذي يتوارد إلى الأذهان مباشرة. أول الآثار المدمّرة يتجلّى في الاستهانة المستمرة بإرادات السوريين، والفصل بين إراداتهم والتغيير، وهو ما تستبطنه السلطة على نحو أعمق مما يفعل الذين هم خارجها بحكم علاقاتها الخارجية.
في العموم، السلطة التي لا تأتي أصلاً بإرادة معبَّر عنها في مناخ من الحرية هي سلطة لا تدين للسوريين بوجودها، ما يجعلها في الحد الأدنى لا تقيم اعتباراً حقيقياً لتلك الإرادات. الأمر ليس انقساماً بين سلطة ومحكومين فحسب، فأنصار السلطة أيضاً لا يقيمون أدنى وزن أو احترام لمنتقديها أو معارضيها، ولا يقصّرون في إظهار ذلك بلا أدنى رادع قناعةً منهم بأن معارضة هؤلاء غير مؤثّرة، إذا لم تكن مسنودة بدعم خارجي مؤثّر.
وكان السوريون قد اختبروا ذلك مع إظهار أنصار الأسد لامبالاة تامة إزاء معارضيه، أيضاً لقناعة منهم بأن مصيره مرتبط بإرادات دولية، والتركيز على المؤامرة الخارجية المزعومة كان جزءاً من عدم احترام فكرة المعارضة، ومن النظر إليها كتابع للخارج لا أكثر. أيضاً، ليس الأمر في أن موالي اليوم يكررون سلوك موالي الأمس، فالعبرة هي في القناعة المولِّدة للسلوك ذاته؛ القناعة التي لم تتغير بين عهدين.
من الدرس ذاته يبرز درس شديد القسوة، مفاده أن الغرب لا يغيّر في سوريا إلا على توقيت مصالحه، وبصرف النظر عمّا يحدث في سوريا. يُستنتج من هذه القاعدة عدم اكتراث القوى الدولية الفاعلة بما تفعله السلطة طالما أنه لا يتعارض مع مصالح الخارج، أي أن الأخير لا يبالي باضطهاد السوريين، أو حتى بإبادتهم. في الواقع، شاهد العالم بالصورة والأدلة القاطعة إبادة السوريين ومختلف أنواع التنكيل بهم، من دون إبداء رد فعل متناسب، باستثناء العقوبات التي تتضرر منها الشرائح الأضعف أولاً، وبعد كل ما حدث كان ثمة استعداد لإعادة تدوير الأسد والإبقاء عليه، لولا المستجدات في المنطقة. عدم الاكتراث إزاء المجازر والتنكيل بالخصوم يستند، بمعظمه إن لم يكن كله، إلى عدم تأثيرهما على العلاقات الخارجية على نحو يهدد وجود السلطة.
بالمثل، يكون احتقار نقد السلطة أو معارضتها نابعاً من عدم تأثيرهما على وجود السلطة وبقائها، وتالياً يكون هناك احتقار للنقد بمجمله، ولأية عملية نقدية حتى إذا كانت تهدف إلى تصويب عمل السلطة لا تقويضها. يصحّ القول إن السياسة بمجملها تغيب بسبب عدم وجود اقتناع بها كوسيلة للصراع، ولتسوية النزاعات الداخلية، بما أن الجميع محكوم بعلاقات القوة الخارجية. الوضع الحالي مثال شديد الوضوح على توسُّل رضا الخارج إما للهيمنة على الداخل، أو خوفاً من الهيمنة وهروباً منها.
سبب رئيسي للفجور في الخصومات بين السوريين ذلك الاعتماد المفرط على الخارج، فهو (يُغْني) عن مخاطبة الآخر المختلف في الداخل، وعن محاولة التوصل معه إلى تسويات، أو محاولة استمالته ضمن مناخ من التنافس السياسي. بالأحرى، التسليم المطلق للخارج يلغي الداخل بالمطلق أيضاً، ويقضي على السياسة بوصفها أداة التحول الموعود من منطق التسلط والهيمنة إلى منطق التداول والصراع السلمي.
وقد سبق للخارج تقديم نموذج على احتقار السياسة في سوريا، من خلال تغليب عوامل الانضباط، والخوف من فوضى تتعدّى الحدود. منذ انطلقت الثورة كان سؤال الخارج عمّن يستطيع ضبط البلد إذا رحل الأسد، ولم تُخْفِ دوائر صنع القرار تفضيلها الانضباط الذي يمكن التفاهم معه، بصرف النظر عن ماهيته، على الفوضى التي قد تخرج عن السيطرة. وفي مثال جليّ، كانت هيئة تحرير الشام قد قدّمت نموذجاً عن انضباط أشدّ ضمن الفصائل التي قاتلت الأسد، وهو عامل طغى على التخوف الدولي من أيديولوجيا الهيئة.
تعاطي الخارج على هذا النحو تسبب داخلياً في احتقار السياسة، وفي الإعلاء من شأن العسكرة المرهوبة الجانب. حدث هذا طوال السنوات الماضية، بعدما كانت السياسة ممنوعة منذ انقلاب البعث، وبقي المنع مستمراً في العقول، بل ازداد بحيث تُشتم كل محاولة جديدة (ولو متواضعة) للعمل السياسي، ويُسفَّه أصحابها فقط لتجرؤهم على تقديم اقتراحات سياسية، خصوصاً لأن المبادرين لا يحظون بمباركة ودعم دوليين يجعلان السياسة مجرد واجهة لمشروع خارجي.
إذا كانت السياسة، في جانب منها، تعتمد على التحالفات التي تتغيّر حسب الظروف، فإن الشراكة مع الخارج أصبحت بديلاً عن الشراكة مع الداخل. هذا لا يقتصر على الانقسام الديني أو المذهبي، لأن الحالة الطائفية ليست سوى مظهر فاقع من حالة أعمق، لكن لا بأس في أخذها مثالاً، خصوصاً عندما يتباهى أنصار كل طرف بعلاقاته ونجاحاته الدولية، على سبيل النكاية بالعدو الداخلي.
تفاقُم حضور الخارج في سوريا يشير إلى أن السوريين لم يمتلكوا بلدهم، والسبب لا يُعزى إلى مؤامرة خارجية تمنعهم من ذلك، بقدر ما هو موجود في تخلّيهم عن الداخل، أي بقدر ما أصبحوا هم خارجيين. ربما لا جديد في القول إن السوريين يعبّرون يومياً عن عدم احترام كلّ منهم للآخر وخياراته وإرادته، وأنهم يحتقرون إلى حدّ كبير جوهر العيش المشترك، ولا يكنّون التقدير للمؤسسات والقوانين بمفهومها المعاصر، إلا إذا ارتبطت بالخارج المرهوب الجانب. هم في الواقع استوعبوا درس عدم إسقاط الأسد ثم إسقاطه، لكن على نحو مذهل من الامتثال باهظ الثمن
عمر قددور - المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|