السّلطات لا تزال تُلاحق شباب "الثورة": استدعاءات وأحكام غيابية
من مشهدية احتفالية، شبه كرنفالية، عابرة للطوائف والأحزاب والجغرافيا، إلى معركة صدامية مع السّلطة.. شهدت "انتفاضة" السابع عشر من تشرين الأول 2019، مراحل تحوليّة جمّة اقترنت بتصاعد طردي لمعدلات العنف، عنف الدولة البوليسية من جهة، وعنف الشارع من جهة أخرى. ولما كان شغل الطغمة الحاكمة الشاغل خلق ثغرات لتجريد الشارع المنتفض بشيبه وشبابه على وجه التخصيص من الشرعية والقبول الشعبي، مُدّت "شماعة" الشغب وتخريب الممتلكات العامة والخاصة، لتكون مفتاح الشيطنة للمنتفضين والمتظاهرين وتأديب الشارع وحثّه على الانصياع. وعليه عملت السّلطة على ملاحقة وتوقيف عدد من المتظاهرين/ات فضلاً عن نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي منذ بداية التظاهرات عام 2019 حتى الآن، بموجب دعاوى القدح والذم حينًا، وبتهم التخريب والشغب في غالبية الأحيان. وآخرها كان توقيف طالب الجامعة اليسوعية في بيروت، محمد عجوز (21 سنة، لبناني) نهار الأربعاء الفائت وبصورة اعتبرها البعض تعسفية واعتباطية.
توقيف اعتباطي
وفي التفاصيل، نشرت صفحات عدة تابعة لمجموعات حراك 17 تشرين على وسائل التواصل الاجتماعي، خبر توقيف الطالب، وذلك نهار الأربعاء الفائت، بُعيد توجهه إلى مخفر المصيطبة في ثكنة الحلو، لتقديم بلاغ بشأن فقدانه لبطاقة هويته، ليُكشف بعد البحث عن اسمه، أن حكمًا غيابيًا بالسّجن لمدّة ستة أشهر صادر بحقه، منذ كانون الأول الماضي، لمشاركته في "تكسير وشغب" خلال الاحتجاجات. وقد أوقف الشاب يومين في ثكنة الحلو ليتم نقله لاحقًا صباح الجمعة 24 من شباط الجاري، إلى المحكمة العسكرية، ذلك بعد تواصل عائلة الشاب مع لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين/ات، وبانتظار حضور قاضٍ للبت بإخلاء سبيله، راجت على وسائل التواصل الاجتماعي حملات للتضامن معه ومطالبات بإطلاق سراحه.
وفيما استنكر الناشطون/ات قمع السّلطات اللبنانية وانتهاكها لحريّة الرأي والتعبير وملاحقتها للمشاركين بالانتفاضة، أُخلي سبيل الطالب بعد برهة من الزمن من دون تفاصيل أخرى عن الحكم. وفيما حاولت "المدن" التواصل مع الطالب محمد عجوز وعائلته، للتحقق من معطيات التوقيف، اعتذر الطالب وغالبية المقربين منه عن الاستطراد بأي تفاصيل. الأمر غير مفاجئ، فعدد لا يستهان به من الحالات المشابهة، غالبًا ما تتحفظ عن الاستفاضة أو التصريح، ما ينمّ مباشرةً عن ترهيب السّلطة الممنهج لهؤلاء باستغلال خوفهم وتوجسهم من أن يكونوا في معرض الإدانة مجددًا.
بالإضافة إلى محمد عجوز، مَثل عشرات المدنيين أمام المحكمة العسكرية في آخر 8 سنوات أي منذ حراك عام 2015، الأمر الذي يستنكره الحقوقيون ونشطاء التحركات على امتدادها. فبصرف النظر عن عشوائية هذه الإدانات، فإن المحكمة العسكرية نادرًا ما تعلل أحكامها. وبالرغم من ذلك، وببالغ التعسفية والإهمال لشروط المحاكمة العادلة، تستأنف النيابة العامة فضلاً عن المحكمة العسكرية إصدار مذكرات توقيف بحق مشاركين/ات بالتظاهرات أو إصدار أحكام غيابية اعتباطية.
نمط سائد
وقد عملت الأجهزة الأمنية على توقيف وملاحقة عدد من المشاركين/ات منذ أيام التظاهرات وحتى اليوم. فبالتوقيت نفسه لاعتقال عجوز، كان قد نشر "المرصد الشعبي لمحاربة الفساد" على صفحاته الافتراضية، دعوات لوقفة تضامنية مع كل من" أنطوان دويهي، إبراهيم البسط، مايلين سركيس، عبد الرحمن زكريا ومحمد رستم"، بُعيد استدعاء تحري بيروت في محلة فردان لهم، على خلفية تظاهرة أهالي ضحايا المرفأ بتاريخ 26 كانون الثاني الماضي، حين قام عدد من المعتصمين آنذاك بخلع بوابة العدلية وضرب بعضهم عنصرًا في قوى الأمن الداخلي. وبحضور عدد من محامين المرصد، تم التحقيق معهم وأخليّ سبيلهم بسند إقامة.
وفي هذا السّياق يشير المحامي والناشط في المرصد الشعبي لمحاربة الفساد، جاد طعمة، لـ"المدن"، أن معظم الذين يتم استدعاؤهم أو توقيفهم بتهم تخريب الممتلكات العامة والخاصة أو معاملة القوى الأمنية بالشّدة أو إقامة تجمعات شغب، تكون إدانتهم على أساس غير مفهوم ومشتت، والتهم نفسها توجهها النيابة العامة لجميع المتظاهرين (الطلب ذاته في النيابة العامة)، وفي حالة عجوز صدر الحكم الغيابي من دون أن يتمكن العجوز في الدفاع عن نفسه، لخلل ما في التبليغ. وقد تم إخلاء سبيله فورًا. وهنا يُمكن القول إنّ عدم كفاية الدليل ضدّه وضدّ المتظاهرين المتّهمين بمعاملة قوى الأمن بالشدّة وغيرها من التهم، هو الدافع لتبرئتهم. والملفت أنّ مجمل هذه المحاكمات انتهتْ إلى أحكام بإبطال التعقّبات لانتفاء النيّة الجرمية. وأضاف المحامي: "ببداية التظاهرات كنا نتابع الملفات أول بأول. اليوم خفت وتيرة هذه الملفات. وهذا الواقع معطوف طرديًا على تضاؤل وطأة التحركات على الأرض والتجمهر، نسبةً للأزمة الاقتصادية وصعوبة التنقل، وصولاً لترهيب السّلطة وعنفها وأخيرًا قمع الميليشيات التّي واجهها المشاركون في 17 تشرين 2019".
قمع وترهيب السّلطة
وفيما لا تزال السّلطة اللبنانية تلاحق المشاركون/ات في التظاهرات.. لم تقم هذه السّلطة بالمقابل بالتحقيق في الاعتداءات المشهودة التّي تعرض لها عشرات المتظاهرين. وفيما تقاعست عن تلبية مطالب الشارع المحقة، لجأت في هذه التظاهرات وبشكل متزايد لقمع الحق في التجمع السّلمي وحريّة التعبير، عبر الاستخدام المفرط للقوة ضد المحتجين، عن طريق الضرب المبرح والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والرصاص الخلبيّ، فيما استخدمت أحيانًا الذخيرة الحيّة، أدّت لمقتل العديد من المتظاهرين وجرح العشرات وإصابتهم بجروح بالغة في العيون والرأس والجسم. وبينما تعامت السّلطة عن حق المحتجين بالحماية من هجمات أنصار الأحزاب السّياسية المسلحة (ثنائي حزب الله وحركة أمل خصوصاً) الذين نزلوا بأسلحتهم وعصيهم لقمع المحتجين إلى جانب مكافحة الشغب، استشرست السّلطة في قمع حركة التظاهر عبر اعتقال واستدعاء ومحاكمة الصحافيين والنشطاء بتعسف ووحشية، علاوةً عن محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.
وإلى الأزمة الحقوقية الضاربة، هناك بُعد آخر لموضوعنا: حق سكان لبنان وحريتهم في التعبير والرأي، وتحصيل حقوقهم كافةً وبالأسلوب الذي يتطلبه هذا التحصيل بمعزل عن الشحن البروباغندي لإعلام السّلطة ومناصريها، وقمع أجهزتها وإمعان المنظمة الحاكمة بقمع الشارع وتأديبه لإسكاته. حق شباب لبنان بالدفاع عن أنفسهم والتعبير عن آرائهم في الشارع أو على مواقع التواصل الاجتماعي وحقهم بالطموح والحلم بمستقبل واعد لهم في هذا البلد المنكوب. حق الضحايا بالعدالة. وحق المواطنين بمعيشة كريمة، وغيرها من الحقوق. من دون أن توجه لهم تُهم فضفاضة لا تدل سوى على فراغ المتهِمين من المعنى والدليل.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|