من خدعة الحوار إلى دوامة الانتحار
المتابع لوقائع الجولة الثالثة وربما الأخيرة للموفد الرئاسي الفرنسي وزير الخارجية الأسبق، جان إيف لودريان، ربما يصاب بالحيرة أو الدوخة لكثرة التعقيدات والالتفافات والمناورات المعقودة والأفخاخ المنصوبة، والمقررة من أصحاب الحكم والتحكم والسيطرة، والتي على الأرجح لم ولن تبدل في الوقائع والمعطيات المقررة شيئاً، والتي ستسفر على الأغلب الأعم عن فشل مدو وصارخ لما يسمى الحوار قبل الانتخاب، الذي ابتكره الثنائي حركة أمل وحزب الله، وتبناه بشدة وقوة ممثل الكتلة التجارية المصلحية موفد الرئيس إيمانويل ماكرون، ممثل الأغنياء المأزوم، كما يوصف في بلده.
الحوار الذي يحض عليه ويتمسك به الثنائي أمل وحزب الله جوهره: تعالوا يا أحبتي لكي نتحاور، لكي نقنعكم بمرشحنا سليمان فرنجية، الذي لا يطعن المقاومة في الظهر.
يخرج المراقب للمبادرة والحركة الفرنسية تجاه لبنان بشعور متعدد الاتجاهات، والتي تجمع عدة عناصر مع بعضها البعض. وهي، الشفقة المغلفة بالحيرة للحال التي وصلتها أم ووالدة لبنان الحنون، أي الدولة الفرنسية بأفضل تجلياتها الحالية الماكرونية، الماكرة والضعيفة في الوقت عينه.
لمن فاتته متابعة التفاصيل الكثيرة والمتعددة والمملة، فقد بات الهم والاهتمام الفرنسي في لبنان والمنطقة في الوقت والعصر الراهن، إضافة إلى النوستالجيا التاريخية عن التسبب في ولادة بلد يسمى لبنان، منذ ما قبل نظام المتصرفية، ينحصر في الاستحواذ على أكبر قدر من الثروات والمكتسبات والعقود والصفقات المادية والاقتصادية. وما تبقى من العملية، هو لزوم مستلزمات الديكور والهندسة الخارجية الشكلية لجوهر الموضوع، وهو جمع فتات الموائد بعد الاستحواذ الكبير للولايات المتحدة والصين وروسيا ودول الإقليم المؤثرة على الثروات والحصص الاقتصادية في المنطقة.
الموضوع الأساس، أين حصة فرنسا في لبنان والمنطقة، وكم هي؟
لقد سبق للرئيس الفرنسي أن قفز ببراعة تمثيلية قوية تسجل له على ظهر مشهد انفجار مرفأ بيروت الدرامي، للدخول إلى لبنان وحفظ موقع وحصة بلاده من نفط وخيرات حوض شرقي المتوسط.
ولهذه الأسباب، فإن الدبلوماسية والدراما الفرنسية عملت من أجل خدمة هذه الأهداف من دون مواربة أو عواطف. حتى لو اقتضى الأمر في بعض الأحيان تقبيل أيادي آيات الله في إيران وكل من له ذرة نفوذ في المنطقة، من أجل حفظ دور فرنسا المتراجع في أوروبا والعالم. وقد أتت أحداث الانقلابات المتتالية في إفريقيا وقبلها ما جرى مع استراليا، لكي تزيد في طين الإحراج والانحشار الفرنسي بلة.
وصل الأمر بالموفد الرئاسي الفرنسي الميمون وصاحب مبادرة الترويج لإيصال سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية في بعبدا، إلى أن تخلى ورمى جانباً وبسرعة مدهشة أوراق الأجوبة المكتوبة التي تلقاها من الأطراف اللبنانية، وسارع للقفز مباشرة لتبني مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه برّي في الدعوة إلى الحوار، أو أي أمر قد يوصل إلى رئيس.
لقد أوحى الدبلوماسي العتيق والمخضرم أن مبادرته هي الشقيق التوأم السيامي الملتصق بمبادرة الرئيس برّي من دون تردد أو تأخير. بل بات في زيارته الأخيرة يعمل للترويج لمبادرة الرئيس برّي، وكأنها مبادرته ومن بنات أفكاره. وقد كشف النائب ياسين ياسين "الطبّة" -كما يقال في العامية- و"الستر المغطى" حين قال: "حاول لودريان إقناعنا بحوار رئيس مجلس النواب نبيه برّي. وقلت له شخصيًا إن هذا الحوار غير دستوري. وهو أجابنا بألّا حلّ إلّا به، فإمّا الحوار أو خطر وجودي على لبنان".
الهدف الفرنسي من بداية الأزمة الرئاسية حتى اليوم، حجز دور في حل الأزمة اللبنانية، للحفاظ على دور ووجود فرنسا في المنطقة. وكان أولاً عبر الترويج لوصول مرشح حزب الله وإيران سليمان فرنجية إلى قصر بعبدا، باعتباره الرئيس الممكن الجاهز والمدعوم إقليمياً ومحلياً بقوة. والآن، لا يستبعد كما يبدو أن تميل فرنسا إلى تبديل في المقاربة، لكي تضمن حفظ الدور في الحل.
القصد واضح، وهو فتح مجال الاستفادة من العقود والصفقات والمنافع الاقتصادية في لبنان والمنطقة في النفط والغاز والأعمال التجارية.
هذا ما وجدت الدولة الفرنسية أنه يصب في تثبيت مصالحها في لبنان والمنطقة، من الزاوية المصلحية والنفعية الاقتصادية والمالية لا أكثر ولا أقل.
في لبنان اليوم، لم يقتصر أمر الاهتمام على عارض دوار ودوخة الحوار الفاشل مسبقاً لأكثر من سبب، بل انشد حول الاشتباكات المسلحة التي يشهدها مؤخراً مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان، والطرف الجنوبي لمدينة صيدا، التي تشهد أكبر كارثة مستحدثة ومبتكرة للسيطرة على البندقية الفلسطينية في لبنان. فسارعت هذه التطورات لتراكم من المصائب التي تصيب قضية الشعب الفلسطيني، الذي شرد من أرضه ليسكن ويعيش في منازل عشوائية وشبه أكواخ. ويقوم الآن عبر منظماته الميمونة المسلحة بتدميرها وتدمير البيئة المساندة لها في صيدا، التي احتضنت كغيرها من مدن لبنان الشعب الفلسطيني في نكبته، لتكون النتيجة انتحار فلسطيني ما بعده انتحار، ونكبة لبنانية في مدينة صيدا ما بعدها نكبة.
شاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|