القطار السعوديّ وصل إلى الأردن... ولبنان ليس في الانتظار
بإمكان أيّ مسافر أن يدخل إلى موقع شركة القطارات السعودية اليوم ليحجز تذكرة من الرياض إلى القريّات على الحدود الأردنية، في رحلة تمتدّ لـ 1,200 كيلومتر. خطّ القطار هذا دُشّنت آخِرة محطّاته قبل سنوات، في إطار عملية التحديث الكبرى لشبكة نقل الركّاب والبضائع والمعادن في شمال المملكة المتّصلة بموانئها على الخليج العربي.
هكذا أصبح بالإمكان نقل البضائع والركّاب من الدمّام على ساحل الخليج العربي شرقاً، إلى القريّات غرباً، في نصف يوم أو أقلّ.
من مفارقات التاريخ أنّ خطّ القطار يوازي إلى حدّ ما خريطة أنبوب "تابلاين" الذي كان في يوم من الأيّام أكبر خطّ لأنابيب النفط في العالم، من الدمّام إلى الزهراني جنوب لبنان.
حين أُعلنت دولة "إسرائيل" عام 1948، كان العمل جارياً في إنشاء ذلك الخطّ من السعودية إلى الأردن فسوريا فلبنان. وقد أُنجز بالفعل عام 1950، بطول 1,650 كيلومتراً، وكان في مرحلة من المراحل ينقل ثلث النفط الخام السعودي إلى أوروبا عبر البحر المتوسّط. لا حاجة إلى التذكير بظروف خروجه من الخدمة تدريجياً، إلى أن تحوّل إلى أثر تاريخي، وانتهى الأمر بتفكيكه وإزالته داخل الحدود السعودية مطلع العام الحالي، ليبقى في ذاكرة السردية اللبنانية للدور المشتهى كصلة وصل بين الشرق والغرب.
العالم تغيّر
تغيّر العالم كثيراً منذ ذلك الحين. لم تعُد السعودية بحاجة إلى أنبوبها العابر إلى لبنان. فعلى مدى العقدين الماضيين بنت أنبوباً عملاقاً داخل حدودها بين الشرق والغرب، يكفي لنقل خمسة ملايين برميل من النفط يومياً، أي ما يعادل نصف إنتاجها، من حقولها في الشرق قرب الخليج العربي، إلى ينبع على البحر الأحمر غرباً. وأغناها ذلك عن أيام من إبحار الناقلات من الخليج عبر مضيق هرمز، إلى خليج عمان فبحر العرب فخليج عدن فمضيق باب المندب فالبحر الأحمر. وأحدث ظهور الناقلات العملاقة تطوّراً في تجارة النفط قلّل من أهمية الأنابيب نسبياً.
لكنّ الممرّ البرّي بين مياه الخليج ومياه البحر المتوسط ما يزال حاجة عالمية، وربّما بات أكثر أهمية من أيّ وقتٍ مضى، لأسباب أخرى غير نقل النفط، أهمّها التنافس العالمي على رسم خطوط التجارة وسلاسل الإمداد اللوجستية، وحاجة الغرب إلى توفير خطّ أسرع للتجارة بين الهند وأوروبا، في ظلّ البحث عن بدائل للحدّ من الاعتماد الغربي على الصين.
ربّما الحاجة المستقبلية الأهمّ لأوروبا هي إمدادات الطاقة النظيفة الضرورية لمستهدفات خفض الانبعاثات الكربونية في الغرب. ومن قدر السعودية أنّ شمسها الحادّة ستشغّل أكبر مشروع في العالم لإنتاج الهيدروجين الأخضر في مدينة نيوم المستقبلية، شمال غرب المملكة. وهذا النوع من الوقود النظيف تعوّل عليه أوروبا كثيراً في مزيج الطاقة المستقبلي، إلا أنّ مشكلته تكمن في صعوبة تصميم شبكات تخزينه ونقله من مواقع الإنتاج إلى مواقع الاستهلاك، وهو ما يجعل شبكات الربط اللوجستي عنصراً أساسياً في الخرائط الاقتصادية - الجيوسياسية.
للقطار السعودي فرع آخر يربطه بمنطقة "وعد الشمال"، حيث الطفرة المعدنية الكبرى التي تشهدها المملكة لمناجم الفوسفات والذهب ومصانع الألومينا والصلب. هذه الثروة المعدنية ترتبط حالياً بشبكة تصدير من خلال ميناء رأس الخير شمال الخليج، وسيكون تطوّراً استراتيجياً توفير منفذ غربي لتصديرها إلى الأسواق الأوروبية والعالمية.
تفتح جهوزية البنية التحتية السعودية شهيّة كلّ الأطراف لطرح مشاريع الوصل معها. القطار الممتدّ من الدمّام إلى القريّات جاهز، تماماً كما كان خط "تابلاين" جاهزاً في مطلع الخمسينيات. لكنّ ما بين 1950 و2023 تغيّر العالم ما بعد القريّات. بيروت التي ضمّتها فرنسا إلى خريطة التجارة الأوروبية أواخر القرن التاسع عشر، بمرفأ حديث وسكّة قطار تربطها بدمشق، خرجت من خرائط التجارة إلى محور الحروب الإيرانية. وفي عقدة الوصل، تحوّلت سوريا من ممرّ للترانزيت وخطوط الأنابيب إلى مركز إقليمي لتجارة الكبتاغون العابرة للحدود.
التاريخ يغيّر الجغرافيا
في المقلب الآخر، أعادت إسرائيل تدشين خطّ قطار حيفا - بيسان عام 2016، بعد 64 عاماً على تفجيره على يد العصابات الصهيونية. ثمّ رصدت الحكومة الإسرائيلية في موازنة 2019 اعتمادات لاستكمال الوصلة الأخيرة إلى الحدود الأردنية بطول 15 كيلومتراً، باسم "قطار المرج". وقال وزير المواصلات الإسرائيلي حينها يسرائيل كاتس (يشغل حالياً منصب وزير الطاقة والبنى التحتية) بصريح العبارة إنّ ذلك المشروع جزء من رؤية استراتيجية لربط الدول العربية بأوروبا عبر ميناء حيفا.
في الإمارات، تزداد الموانئ جهوزية منذ عقود، ومشروع القطار العابر للإمارات السبع اقترب من الإنجاز وأن يصل الفجيرة بالحدود السعودية، ولم يبقَ سوى أقلّ من 300 كيلومتر لتصبح الإمارات كلّها متّصلة بشبكة القطارات السعودية من الجنوب إلى الشمال.
في شمال الخليج، تحرّك العراق في أيار الماضي، وعقد رئيس وزرائه محمد شياع السوداني مؤتمراً دولياً في بغداد حضرته وفود من دول الخليج وتركيا، طرح فيه مشروع "طريق التنمية"، وهو عبارة عن خطّ برّي للتجارة بتكلفة 17 مليار دولار، يشمل طرقات وقطاراً من ميناء الفاو جنوباً إلى تركيا شمالاً، ومنها إلى أوروبا.
كان ذلك قبل الإعلان الأكبر لتوقيع مذكّرة تفاهم لإنشاء ممرّ تجاري بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا على هامش قمّة العشرين في نيودلهي في التاسع من أيلول الجاري.
في اليوم نفسه وفي القمّة نفسها، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تبنّيه لمشروع "طريق التنمية" العراقي، طارحاً إمكانية ربطه بالسعودية والإمارات، ليصبح ممرّاً عالمياً للتجارة بين الجنوب والشمال. المهمّ في الإعلان التركي أنّه يتخطّى الخلاف المستمرّ منذ أشهر بسبب شروط استئناف ضخّ النفط في خطّ الأنابيب من كركوك إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط، وهو الخطّ الذي استعاض به العراق في السبعينيات والثمانينيات عن خطّ كركوك- دير عمار في شمال لبنان.
تبدو المنطقة في غمرة التأهّب. الكلّ يجهّز نفسه للخرائط الجديدة للتجارة والطاقة وكوابل الاتصالات. وحده لبنان لا يجهّز قطاره، ولا ينتظر في أيّة محطة. عاش اللبنانيون خمسين عاماً على شعور باطن بأنّ الجغرافيا ستظلّ في انتظارهم إلى أن يملّوا حروبهم الصغيرة ويعودوا في صباح اليوم التالي للعب الدور المنذور لهم بين أوروبا والعمق العربي. للمرّة الأولى يشعر اللبنانيون أنّ التاريخ يغيّر الجغرافيا من حولهم. وهذه المرّة يسير قطاره أسرع من قدرتهم على استيعاب حركته.
عبادة اللدن - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|