إقتصاد

موازنة 2024 الذكورية: اللامساواة بين شفرة الحلاقة والفوطة الصحية

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

إنها المرّة الأولى التي يصار فيها إلى إقرار موازنة بمواعيدها الدستورية منذ موازنة عام 2002. كان تحقيق هذا الشرط كافيا بالنسبة لرئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، لوصف موازنة 2024 بـ"الإنجاز الكبير جداً والبطولي". لكن هذه الموازنة التي سجلت عجزا بنسبة 13.8%، لم تختلف عن سابقاتها من الموازنات، إن على صعيد أنها "موازنة بنود" وليس "برامج ومشاريع"، أو لناحية عدم استجابتها لعدالة النوع الاجتماعي، لتسجل عجزاً آخر على مستوى أبرز أهداف التنمية المستدامة العالمية، وهو تحقيق "المساواة بين الجنسين".

والموازنة هي الرؤية والسياسة العامة للحكومة. وغياب البرامج عنها اليوم، مرده ليس للانهيار وحسب، بل لمقاربة السلطة لها كمصدر للضرائب والأموال، بعيداً عن أي خطة إصلاحية للدولة والمواطن، في حين أن غياب البرامج أو البنود المتحسسة للنوع الجندري، هو امتداد للسياسات التشريعية للأحزاب الحاكمة ذات البعد الأبوي الذكوري في سياساتها، والتي تبدأ بحرمان المرأة حقها بمنح جنسيتها لأبنائها، وصولاً لإبعادها عن مراكز القرار في السلطة، مع الإبقاء على صانعي سياسات، رجالاً ونساء (إن وجدن)، غير متحسسين/ات لعدالة النوع الاجتماعيّ.

إلا أن أخطر ما في موازنة 2024، هو ضربها للشفافية وإمكانية المساءلة على مستوى تمويل الجهات المانحة لمشاريع مخصصة للنساء. وهي سمة موازنات البنود عموماً.

مرآة المشرّعين
لننطلق من ثابتة أن الموازنات حول العالم تهدف لتحقيق أهداف التنمية المستدامة الـ17 التي وضعتها الأمم المتحدة، المعروفة بـ"الأهداف العالمية" وعلى رأسها الهدف رقم 5، وهو المساواة بين الجنسين.

ونماذج الموازنات المتحسسة للنوع الاجتماعي، انعكست مؤشرات تطبيقها زيادة في معدل النساء في مراكز القرار، كما في المغرب.

أما في لبنان، وفي أوج الانهيار الاقتصادي وسياسة الدعم الحكوميّ، فقد تشكلت لجنة في حكومة الرئيس حسان دياب، دعمت شفرات الحلاقة للرجال، وهي من الكماليات، في حين لم تدعم الفوط الصحية للنساء، رغم أنها تدخل في صلب أساسيات صحة النساء، واللواتي عانت الفئات الأكثر منهن فقراً حينها بالفعل للوصول إليها في ظل ارتفاع الدولار. والمفارقة هنا، أن اللجنة كانت جميعها من الرجال. وهكذا تتضح العلاقة الطردية بين الموازنات والنساء في مراكز القرار وقابلية قياسها.

وفي لبنان، يبدأ عدم المساواة بين الجنسين من البرلمان ويستكمل في الحكومة، فمن التحفظ  عن بنود الجنسية والأحوال الشخصية في "اتفاقية سيداو"، ما يحرم المرأة اللبنانية حقها بمنح الجنسية لأبنائها، إلى موازنات الحكومات كاستكمال لهذه المظلومية. فالأولاد من أب غير لبناني وأم لبنانية، ينتظرون تسجيل جميع الطلبة اللبنانيين في المدارس الرسمية ليتمكنوا من التسجيل، عدا عن حرمانهم الحقوق الكاملة للبنانيين بالعناية الصحية كالضمان الاجتماعي، وكذلك التمييز في قوانين العمل والتملك.

الانهيار وترحيل البرامج
وتتلطى الحكومة اليوم بتغييب البرامج الانمائية خلف ضعف إيرادات الدولة وقدرتها على الإنفاق. فالناتج المحلي وصل منذ سنوات لقرابة 54 مليار دولار، واليوم بات أقل من 20 مليار دولار.

يقول الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، معلقاً على تغييب المشاريع في موازنة العام 2024 والاكتفاء بموازنة الإيرادات والنفقات: أبرز تجليات تداعيات الأزمة الاقتصادية وانهيار الليرة، وهي العملة الوطنية التي تتقاضى الدولة فيها ضرائبها وتخصص منها مشاريعها، هو تغييب المشاريع الانمائية والبرامج الاستثمارية، والاكتفاء بالنفقات التشغيلية، لا سيما رواتب موظفي القطاع العام، مستخلصاً أن الدولة ليست بوارد زيادة نفقاتها اليوم، بل هي بوارد التخفيض قدر المستطاع، وهي لذلك تتبع سياسة "ترحيل البرامج" و"تصفيرها" منذ العام 2019، فترحّل برامجها عاماً بعد عام، لخمسة موازنات متلاحقة، عدا البرامج الملحة التي لا يمكن تأجيلها كصيانة شبكات الكهرباء لضمان تأمين الخدمة.

بنود لا برامج
موازنة لبنان هي "موازنة بنود"، انحصرت بعد الانهيار بالرواتب والإيجارات والنفقات التشغيلية. لكن هذا لا يلغي حقيقة أن المشاريع تاريخياً، لم تكن تراعي عدالة النوع الاجتماعي.

ترفض مديرة فرع المعهد العربي لحقوق الإنسان ببيروت، جمانا مرعي، الانهيار كـ"حجة" للتملص من برامج النساء وتطبيق عدالة النوع الاجتماعي على "بنود" الموازنة في ظل غياب "المشاريع"، فطالما أن هناك مبالغ "دنيا" خصصت للصرف، وميزانية رصدت لكل وزارة، فعلينا ضمان كيفية توزيعها بشكل يلبي احتياجات الجنسين، علماً أن هناك تفاوتاً كبيراً بالاحتياجات وطريقة تلبيتها، ومهمة الحكومة تحليل الفروقات بين الاحتياجات، وضمان استفادة النساء كما الرجال من الموازنة.

حجم استفادة الجنسين.. فوارق جمة
موازنة لبنان 2024 بعيدة كل البعد عن الموازنة المتحسسة للنوع الاجتماعي، تقول مرعي "فلو نظرنا إلى حجم استفادة النساء من الموازنة على مستوى مقدمي الخدمات (موظفات القطاع العام) وعلى مستوى المستفيدات من الخدمات (المواطنات)، مقارنة بالرجال على المستويين، نرى أنه لا مساواة بالاستفادة ودوماً على حساب النساء.

فالموازنة غير عادلة جندرياً، بدءاً من مداخيل النساء مقارنة بمداخيل الرجال في القطاع العام والبلديات. فالنساء غالبا في المواقع الدنيا ومبعدات عن مراكز القرار، وبالتالي، فإن اجمالي مداخيلهنّ أدنى من الرجال، ما يعني أن نسبة استفادة الذكور من الموازنة وأموالها المخصصة لرواتب القطاع العام، أعلى.

أما على مستوى المستفيدات من الخدمات، فلا برامج خاصة بالنساء، والأمثلة تطول. فعندما نسأل عن معونة قضائية للنساء المعنفات، يقال لنا "لا تمويل" ما يحرم المرأة المعنفة محدودة الدخل بمحاكمة مجانية عادلة.

وهذا مرده برأي مرعي إلى أن الدولة اللبنانية لا تحلل حاجيات النساء. والتحليل، يأتي في صلب التحول لموازنة البرامج المتحسسة للنوع الجندري. فلا دراسة مثلاً للدولة عن كلفة العنف الجنسي، ولا كادر متخصص للعنف الجنسي في الوزارة يتابع ضحايا الاغتصاب والتحرش، ما يجعلهنّ تلجأن للجمعيات لتقوم بملئ غياب دور الدولة.

تمويل الجهات المانحة: باب للهدر
الأخطر من كل ما سبق، هو عدم شفافية موازنة البنود والهامش الذي تفتحه للفساد والهدر. فالدولة تعيش منذ ما قبل الانهيار على منح وقروض ومعونات للفئات المهمشة وعلى رأسها النساء اللواتي زاد تهميشهن بعد الأزمة. وبالتالي، زادت مشاريع دعمهنّ، وواضعو السياسات في لبنان، يدركون ذلك جيداً.

المفارقة هنا، أنه عندما تتقدم الجهات الممولة لوزارة ما بقرض أو هبة، فهي تقدمها وفق "بنود" ميزانية الوزارة في ظل تغييب "البرامج". في السياق، تلفت مرعي إلى خطورة ذهاب غالبية التمويل هنا للكادر الوظيفي والنفقات التشغيلية أي مصاريف الدولة الثابتة المذكورة في البنود، في حين أن "بضعة ملاليم" فقط تصل للمشروع موضوع الدعم، وهو ما نراه مثلاً بالاكتفاء بحملات توعية مع وزارة الصحة لفحوص سرطان الثدي، في حين تغيب برامج المتابعة طيلة العام للحالات المصابة، جراء عدم وضع الوزارة نفسها لبرامج متخصصة مسبقة يسهل تمويلها.

نحو "العدالة" بين الجنسين!
كفئة مهمشة، دفعت النساء في لبنان كلفة باهظة للانهيار، لكنهنّ تدفعن منذ عقود ثمن موازنات بنود غير متحسسة للعدالة الجندرية، والخوف اليوم يكمن بتغييبهنّ عن مرحلة الإصلاح الاقتصادي.

فارتفاع حصة الأموال المرصودة للوزارات السيادية، وتحديداً وزارة المالية، على حساب وزارات الخدمات، على الرغم من تحول ثلثي سكان لبنان إلى "فقراء"، مرده إلى هاجس السلطة بتأمين رواتب القطاع العام.

مارديني من جهته، يشدد على إصلاح اقتصادي مالي شامل ومتحسس للنوع الاجتماعي، بدءاً من ترشيد القطاع العام كإصلاح لا مفر منه. فرواتب القطاع العام هي أبرز ما يثقل كاهل الميزانية اليوم، والعدالة تقضي بترشيده بتوازن جندري يراعي معايير الكفاءة.

من جهتها، ترى مرعي بأن الإصلاح الاقتصادي الحقيقيّ يؤمن عدالة للنساء من خلال إشراكهنّ بالقرار، والعمل على موازنات تقدم الخدمة للنساء وفق احتياجاتهنّ الخاصة المختلفة عن الرجال. وهذا برأيها لن ينجح إلا بعقلية سياسية حساسة للنوع الاجتماعي من قبل واضعي السياسات. إذ لا يمكننا انتظار وعي الناس لتحقيق السياسات، بل لا بدّ من التدخل المقصود لتحقيق التغيير.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا