اقتصاد الاستيطان يختبر هجمات المقاومة: نزف الرساميل
في حزيران الماضي أصدرت بعثة صندوق النقد الدولي إلى الكيان الصهيوني، في إطار البعثة الرابعة، تقريراً يتحدّث عن مخاطر اقتصاد قوي لديه احتياطات بالعملة الأجنبية تصل إلى 200 مليار دولار وفائض في الحساب الجاري بنسبة 3.7% من الناتج البالغ 522 مليار دولار، وأن المخاطر المحدقة بهذا الاقتصاد تقتصر على إصلاحات داخلية قضائية تتم مناقشتها بين قوى سياسية إسرائيلية. لكن لم يطل الأمر حتى أظهرت كتائب القسّام أن هشاشة هذا الاقتصاد مصدرها أنه اقتصاد قائم على الاستيطان الذي سرعان ما بدأ يتخلّى عن مستوطناته عند أول هجوم حقيقي يتعرّض له. فقد رصد المصرف المركزي للكيان الإسرائيلي 30 مليار دولار دفاعاً عن «الشيكل»، وتبيّن أن مساحات واسعة من الأراضي المستوطنة ضمن الغلاف لن تعود قريباً لتسهم في النشاط الاقتصادي لقطاعات الزراعة والصناعات المرتبطة بها. السياحة في الكيان تلقّت ضربة قاسية على وقع عمليات الفلسطينيين، والمغادرين توافدوا إلى مطارات العدو في ظل إرباك مركزي في قلب الكيان.
قبل بضعة أسابيع، كان المشهد الاقتصادي في الكيان الإسرائيلي يعكس وضعاً متيناً. اقتصاد لم تهزّه كل الحروب السابقة والخسائر التي نتجت منها، ولا الاضطرابات السياسية التي أصابته في السنوات الأخيرة ولا سيّما في الأشهر الأخيرة عندما بدأ الترويج لموجة تعديلات قضائية كان يعتزم القيام بها رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو والتي كان يقدّر أن كلفتها على الاقتصاد ستصل إلى 27 مليار دولار خلال العقد المقبل، بحسب وكالة التصنيف الدولية «موديز». ففي الواقع، لم تظهر انعكاسات كبيرة على الأداء الاقتصادي، بل تردّد أن العجز في الموازنة العامة للسنة الماضية سينقلب إلى فائض في نهاية السنة الجارية نسبته 0.6% من الناتج المحلّي (3.1 مليارات دولار)، بالإضافة إلى فائض في الحساب الجاري بنسبة 3.7% من الناتج المحلّي (19.3 مليار دولار).
هذا كله لم يعد ثابتاً بعد العملية الهجومية التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية السبت الماضي. فرغم أن الجولات العسكرية السابقة مع قطاع غزّة ألحقت خسائر كبيرة بالاقتصاد الإسرائيلي، قد تكون الخسائر هذه المرّة أكبر بكثير. فما حدث في الأيام الأخيرة لا يُقارن بما حدث في أيار 2021 حين بلغ حجم الخسائر الناجمة عن جولة عسكرية دامت نحوَ 11 يوماً ومارست فيها القوى الفلسطينية الدفاع كالعادة، نحو 368 مليون دولار. سلوك المقاومة الفلسطينية تخطّى ردود الفعل التقليدية، إذ قامت بهجوم عسكري براً وبحراً وجواً على منطقة مساحتها 380 كيلومتراً مربعاً فيها مستوطنات يتركّز فيها النشاط الزراعي والصناعي. وهذا الأمر يتعلق بجوهر وجود الكيان، وليس فقط عبارة عن عملية إحصائية للخسائر والأضرار المادية في المنازل والسيارات والبنى التحتية، ولا يتعلق فقط بالأضرار غير المباشرة عن توقّف زمني في النشاط الاقتصادي والفرصة الفائتة لاستعادته وهروب الاستثمارات والرساميل... المسألة تتعلق بنسف هذا النشاط الاقتصادي من أساسه. فالميزات التي كان يحصل عليها المستوطنون للإقامة في مناطق غلاف غزة، لن تعوّضهم عن حالة الرعب والقلق اللذيْن سيعيشونهما في ظل احتمال حصول هجمات متواصلة. الأنشطة التي كان يقوم بها هؤلاء قد تتوقّف لفترة زمنية طويلة. قطاعات الصناعة والزراعة تنشط في مستوطنات غلاف غزّة. فعلى سبيل المثال، تشير تقارير إلى أن منطقة عسقلان وحدها مسؤولة عن نحو 18% من الإنتاج الصناعي الإسرائيلي، وإذا ضُمت منطقة بئر السبع إلى هذه الحسبة، تُصبح حصّة المنطقتين من الإنتاج الصناعي الإسرائيلي نحو 25%. ويُذكر أن هاتين المنطقتين معرّضتان بشكل مباشر للعمليات التي تقوم بها المقاومة الفلسطينية.
ولا تقتصر الأضرار على ذلك، إذ إن الضرر يمتدّ إلى مناطق أخرى في الكيان، وهو ما يعني أن الأضرار، المباشرة وغير المباشرة، تطاول نسبة أكبر من 25% من الناتج الصناعي في الاقتصاد الإسرائيلي. مع العلم أن القطاع يشكّل نحو 17% من الناتج المحلّي الإجمالي. بالإضافة إلى ذلك، تشمل الخسائر الاقتصادية أيضاً قطاع السياحة، الذي يساهم في نحو 3% من الاقتصاد الإسرائيلي. وهذا القطاع هو أكثر القطاعات تعرّضاً للضرر، بسبب اعتماده الكبير على عامل الأمان، وهو عامل تمّ مسحه في الأيام الأخيرة.
المشكلة الكبرى ستكون في القطاع المالي الإسرائيلي. عملياً، وبحسب تقرير صندوق النقد الدولي، يعتمد الفائض في الحساب الجاري على تدفّق الاستثمارات من الخارج، إذ إن صافي تصدير البضائع يعاني من عجز. هذا يعني أن أيّ مشكلة في التدفقات الرأسمالية إلى الكيان، تعني تدهور الأوضاع المالية والنقدية فيه. والفكرة هي أن التدفقات الرأسمالية هشّة بطبيعتها، وهي تعتمد على متغيّرات عدّة، خارجية وداخلية. وبما أن الوضع الأمني في إسرائيل لا يبدو أنه سيستقرّ في أي وقت قريب، فهذا يعني أن التدفقات الرأسمالية مهدّدة بالتوقّف. بحسب مركز «مجلس السياسة الخارجية الأميركي»، أدّت الاضطرابات السياسية إلى خروج استثمارات بقيمة 4 مليارات دولار حتى شهر أيار الماضي. ما يعني أن الاضطرابات الأمنية ستزيد من هروب الرساميل من اقتصاد الكيان إلى أسواق أكثر أمناً. هذا الأمر ظهر بعدّة أشكال، فانخفض مؤشّر سوق الأسهم في تل أبيب بنحو 6.5%، ما يعني حصول عمليات بيع جماعية للأسهم في السوق. وهذا الأمر يعني أيضاً، هروب الرساميل من السوق الإسرائيلية، ما يترتّب عليه تحويل الأموال من الشيكل إلى عملات أجنبية أخرى، وهذا يسهم في انخفاض قيمة العملة الإسرائيلية، وتُرجم ذلك في انخفاض قيمة الشيكل التي بلغت يوم أمس أسوأ مستوياتها منذ 8 سنوات، ما اضطر المصرف المركزي في الكيان للتدخّل بإعلانه تخصيص 30 مليار دولار للدفاع عن العملة. من الطبيعي أن ينعكس هذا الأمر على معدلات التضخّم، التي تعني تآكل القدرات الشرائية وبالتالي سوء الأوضاع.
قد يعوّض الدعم الغربي للكيان بعضاً من الخسائر المادية المباشرة، لكنه لن يستطيع تعويضه عن الخسارة العميقة والندوب التي ستتركها الهجمات على منطقة غلاف غزّة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|