المجتمع

أيها الوحش الذي لا يرحم متى تموت؟!

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

كلوفيس الشويفاتي

 

 

الحرب وحش بغيض كريه، يمتص الدماء ويبتلع الجثث، يدمر الاحياء والبيوت والذكريات والوجدان، يزلزل المنازل يجّرح، يدمي، يبكي ويميت الاحياء قبل الجثثث.
أيها العصف الخالي من كل رحمة ومن اي احساس، يا خاطف الاطفال والضحكات. يا صابغا الحياة بلون الدم والظلام، بالاحمر القاني والاسود القاتم...
لقد رافقنا هذا الوحش الذي لا يرحم في كل مراحل حياتنا، وما زال قابعا في قلوبنا وفي عمق اعماقنا، نحن كما يسموننا جيل الحرب.
قصتي مع الوحش شبيهة بقصص كثيرين من أترابي وأبناء جيلي، وربما قد تنفع محاولتي استعادة بعض ذكرياتي مع هذا الوحش لإيقافه عن التوغل في بعض القلوب وفي بعض الروؤس الحامية.
فمشاهد اليوم عشتها كلها وعايشها الكثيرون من ابناء وطني في مراحل سابقة مع كل جيوش الاحتلال ووحوش الحرب..
كنت في السابعة من عمري عندما بدأ وحش الحرب يقدم وجباته المميتة، وربما لحسن حظ الكثيرين ان المشاهد لم تكن متوافرة الا لم يعيشها مباشرة ويتلمسها بيديه واحاسيسه.
لا أنسى وانا الطفل الصغير، دفن جارنا مطانيوس سعيد طراد الذي ادمى استشهاده قلوبنا في العام 1976، واوجعني صراخ والدته ودموع نساء ببرحليون وهنّ ينثرن الارز والورد على نعشه امام بيتنا.
لا انسى وانا في التاسعة من عمري كيف دكّ الجيش السوري براجماته ودباباته بلدتي بلا رحمة في العام 1977، فدمرت وهجرت واستشهد قسم من اهلها...
وهل لي أن انسى كيف انتزعت فرقة من الجيش السوري والدي من بيتنا في برحليون وانا في حضنه، فعاش جلجلته عذابا ووجعا الى حد الموت، وتمكن من الهرب ببطولة نادرة فأصبح بطلي كل العمر. وقد رايته سرا لاول مرة بعد سنة من عذابه، بعد ان اخذتني والدتي في رحلة لم اكن اعرف وجهتها، وبمرور محفوف بالخطر على حواجز السوريين الى دير يسوع الملك، لاشاهد والدي المتخفي هناك على عكازين، فغمرني وبكى، ولم أكن أريد لعينيه البكاء وهو بطل في عيون كل من عرفوه...
انخرطنا في الحرب وشاهدنا كل ويلاتها، وشاركت لاعوام في جنازات أصدقاء لعائلتي ورفاق أخي...
توجعنا لاستشهاد ريشار في قنات العام 1980 ولدمار بلدة نعرفها ونعرف أهلها وابطالها...
كانت اخبار حرب زحلة وبطولاتها في العام 1981 تصلنا بصعوبة، من دون مشاهد وكاميرات ونقل مباشر ووسائل تواصل واتصال... وكانت مآسيها كغزة اليوم وان تغير اسم مطلق النار والدمار...
عشنا حرب المئة يوم مع مهجريها ودمارها وشهدائها بالقصف السوري المجنون ومعنا مهجرو بلدة الدامور واخبارهم عن مجازرها في دير يسوع الملك، بعد ان انتقلنا للانضمام الى والدي هناك، وكانت كل عائلة تتكور في غرفة واحدة مهما كان عدد افرادها...
لقد عشنا كل ما يعيشه من تزوره حرب اليوم ...
عشنا اجتياح إسرائيل في العام 1982، مع كل مشاهد الدمار والاشلاء والقتل والشهداء والنعوش...
عشنا حرب الجبل وكل اوجاع الفراق والقلق والابتهالات والصلوات لعودة الأخوة والرفاق المحاصرين، ولم يعودوا كلهم...بقيت في الذكرى ضحكة آدي الاسمر، وقامة جورج ابراهيم، ورسالة طوني العنداري، ووسامة جوزيف حداد وجوزيف زريعي، ووقفة جوزيف مطر وطوني وردان...
في السابعة عشرة من عمري استقبلت جثمان اخي مستشهدا بمواجهة فلسطينيي مخيم عين الحلوة، في نفس المناطق التي تعيش المآسي اليوم، في بلدة المية ومية وبلدة درب السيم وقرى شرق مدينة صيدا.
لا يمكن أن أصف الشعور الغريب العجيب الذي انتابني، شعور يترنح بين القهر والفخر، بين الغضب والانكسار، بين الهزيمة والانتصار وبين الانتقام والعجز... ووحده شعور الحزن بقي يعتصر قلبي حتى اليوم...
وهل يمكنني انا انسى البكاء والصراخ في بيتنا الذي تحول ثكنة على مقتل رزوق العتيق، والخوف والصلوات لينجو عصام خوري وخليل ابو عبدو وغيرهم كثر بعد اصابتهم في ١٥ كانون الثاتي 1986...وتحسر والدي على إصابة خازن ابن صديقه يوسف الخازن من قنات إصابة حرجة ونجاته من الموت...
في ربيع العام 1987 ركضت نحو كيلومتر على صرخات اختي منى وجارتنا ميمي جرجس المصابتان بطلقات نارية, في اشتباك بين مسلحين لصوص ورفاق، (هذه الاعمال من مخلفات الوحش ومن آثاره ايضا) لاجد شقيقتي تختلج بين الحياة والموت, مصابة برصاصة اخترقت أعلى كتفها قرب عنقها واستقرت في جسمها. حملتها ومعي شربل ابو جودة, شاهدت الموت في عينيها المبيضّتان، وانا اتحسس دماءها الساخنة، وأشد على جرحها وادعوها الى الصمود، محاولا طمأنتها بأنها ستنجو، واحدثها انا وميمي بكلمات وكلمات...
وصلنا من أدما حيث اصيبت الى مستشفى باستور في جونيه بسيارة شربل المترنحة القديمة,حملناها انا وشربل ليدخلوها بسرعة غرفة العمليات وهي في الرمق الاخير.. وبعد ساعات طويلة كأنها دهر، كان خلالها ضباط معهد بشير الجميل في غوسطا يضخون وحدات دم كثيرة لانقاذها... خرج الاطباء ليقولوا انها نجت من الموت...لتنهمر دموع الاهل ويطول العناق...
الا تعيدنا مشاهد اليوم الى حرب التحرير في العام 1989، ومشاهد الدمار والموت والاشلاء والنعوش، وإن بأعيرة وقذائف جيوش مختلفة؟
كيف ننسى حربا أبكتنا وأوجعتنا وأدمتنا في العام 1990، نزفنا في كل لحظة فيها، فقدنا اسماء لا يمكن نسيانها، حملنا جثث ونعوش رفاق شهداء... واختبرنا وجع المصابين والجرح.. أليست هذه مشاعر اليوم؟
كيف ننسى اجتياحا كالذي يحصل اليوم، وفي مثل هذه الايام من العام 1990، ومجازر واعدامات ودمارا ونفيا وسجونا ومعتقلات ورهائن، لم يعرف مصيرهم بعد ... أليست هذه مشاعر اليوم؟
لقد عشنا عناقيد الغضب في العام 1996 ومواجهات الاحتلال الاسرائيلي. وكنا ايضا نعيش قهر السجون والقمع والاستدعاءات والتعذيب في مواجهة الاحتلال السوري ونظامه...
لقد اختبرنا ايضا كل هذه المشاهد في حرب تموز 2006، وسقط صديقي سليمان الشدياق بصاروخ مماثل لصواريخ اليوم، والمبكي اننا لم نكن نعلم... أليست هذه مشاعر اليوم؟
فمع كل جثة وشهيد ونعش وجرح ومشهد وقذيفة وبيت مدمر... وفي أي مكان يزوره الوحش تستيقظ كل ذكرياتنا الحزينة وتنفطر القلوب، تستيقظ آلامنا واوجاعنا وآهاتنا وغضبنا... نتذكر وجوه أحبة غابوا.
فاليوم اليوم اريد واحتاج كل التضامن والتعاطف، وبمفعول رجعي مع كل جراحي وجراح جيلي وجراح ابناء وطني، جراح تستفيق في قلوبنا وضمائرنا مع كل طلقة وقذيفة واصابة...
فأيها الوحش الذي لا يرحم ولا يبالي بوجع وإنسان وأحاسيس ووجدان، متى تتوقف، متى تنتهي، متى تموت؟!

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا