مضاعفة رواتب القطاع العام "مُسَكِّن منتهي الصلاحيّة"
هل ما أقرّه مجلس النواب من زيادة للرواتب والمعاشات التقاعدية للعاملين في القطاع العام ثلاثة أضعاف، والمؤجّل تنفيذها حتى إقرار الموازنة، يحلّ الأزمات المالية والاقتصادية والمعيشية الخانقة والمذلّة للأساتذة والمعلمين والموظفين والعسكريين والمتقاعدين والقضاة والمتعاقدين؟
الجواب: كلا كبيرة. إنّ الفشل في إقرار الموازنة كان بسبب التخبّط السياسي واختلاف الرؤى والمقاربات للقوى السياسية من بنود الموازنة وأولوياتها، والتجاذبات التي رافقت نقاشها سببها افتقار مشروع الموازنة لرؤية واقعية تعالج الأزمات المتمادية على الصعد كافة، وما ينتج عنها من تضخم للدين العام، وتدهور مريع للنقد الوطني أوصل أكثر من 90% من الشعب اللبناني إلى ما دون خطر الفقر، غارقين في عتمة وفقر وعوز، في حين أن بحرنا يعوم على آلاف المليارات من الأمتار المكعّبة من الغاز والنفط، والسلطة عاجزة، إن لم نقل متخلية، عن حماية هذه الثروة بسبب عدم حسمها ترسيم حدودنا البحرية انطلاقاً من الخط 29 كحق مشروع والتفاوض على أساسه.
الحلّ لأزمة الرواتب والمعاشات التقاعدية ينطلق من استعادة القدرة الشرائية لها كما كانت عليه قبل الأزمة، وتصحيحها على هذا الأساس. أما ما أقرّه مجلس النواب، فليس سوى مسكّن مؤقت لمرض عضال اسمه الفقر والجوع، فزيادة الرواتب ثلاثة أضعاف توازي أقل من 20% من الخسارة التي لحقت بهذه الرواتب والمعاشات التقاعدية. مع التقدير لأوضاع البعض، الذين بسبب ظروفهم القاهرة جداً، قد يجدون في هذه الزيادة مدخلاً لسدّ رمقهم وإنقاذاً لهم من موت محتم، أو تحوّلهم إلى متسولين للقمة عيشهم المفقودة أصلاً.
ولكن استعراض الوقائع والأرقام لتكاليف المعيشة بحدّها الأدنى يدحض كل المبرّرات لقبول زيادة هزيلة كهذه لا تسمن ولا تغني، إذ يبلغ معدل الراتب الشهري لمن هم في الخدمة والمتقاعدين نحو مليونين ونصف مليون ليرة لبنانية شهرياً، فيما تفوق تكاليف بدل النقل والمحروقات قيمة راتب شهرياً، ويوازي اشتراك الكهرباء والمولّد أكثر من راتب ونصف راتب شهرياً، فيما تزيد أكلاف الطبابة والدواء والاستشفاء عن راتب شهرياً (عدا أكلاف دخول المستشفى ومتطلبات الحمل والولادة والحليب واحتياجات المولود الجديد)، رغم الزيادات التي طرأت على تعرفة تعاونية موظفي الدولة والصناديق الضامنة. إلى ذلك، تفوق الأقساط المدرسية «المدولرة» والكتب والقرطاسية والنقل المدرسي راتباً ونصف راتب شهرياً، وتتجاوز المواد الغذائية راتباً ونصف راتب شهرياً. أضف إلى أن المواد الاستهلاكية والخدماتية وتكاليف اللباس واشتراكات الهاتف والمعاملات الإدارية وصيانة المنزل والسيارة التي تزيد كلفتها عن راتب ونصف راتب شهرياً أيضاً. عدا فاتورة الهاتف النقال الذي تضاعفت اشتراكاته أكثر من سبعة أضعاف، وأكلاف التدفئة والتبريد إذا توافرت، وغيرها الكثير.
هذا يعني أن الحدّ الأدنى المطلوب لتصحيح الرواتب يتخطى ثمانية أضعاف الرواتب الحالية، ويتجاوز 25 مليون ليرة شهرياً. لذا فإن ما أقرّه مجلس النواب، والمعلّق حتى إقرار الموازنة، ليس سوى مسكّنات منتهية الصلاحية لا تعالج ولا تستأصل المرض الحقيقي. فالحل الفعلي لرواتب المعلمين والموظفين والعسكريين والمتعاقدين وأجورهم، والمعاشات التقاعدية يكمن بإعادة القدرة الشرائية التي كانت عليها قبل 17 تشرين 2019.
الموظفون والمتعاقدون والمتقاعدون لم يكونوا يوماً مسؤولين عن السياسة النقدية والمالية، والهدر والصفقات وتحويل الأموال وتهريبها، والفوائد الباهظة، وسياسات الدين العام، وسياسات المصرف المركزي والمصارف وحجز أموال المودعين، وتعدّد سعر الصرف والسوق السوداء، بل كانت ولم تزل مسؤولية السلطة التنفيذية والتشريعية مجتمعة.
قام موظفو القطاع العام ويقومون بواجباتهم المهنية والوظيفية، ولكنّ السلطة تاجرت وتلاعبت بحقوقهم وكراماتهم ورواتبهم، وهي سبب فقرهم وإذلالهم وإبقاء احتساب رواتبهم لثلاث سنوات متتالية على أساس سعر صرف 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد، بينما لامس سعره الفعلي الأربعين ألفاً، كما أن السلطة مجتمعة مسؤولة أولاً وأخيراً عن ممارساتها وتجاوزاتها وارتكاباتها، ما أدى إلى انتفاضة الموظفين، رافضين إبقاءهم كبش فداء لتلك السياسات المدمرة.
إن احتساب مجلس النواب الرواتب على أساس سعر صرف الدولار بـ4500 ليرة يبقي على تراجع القدرة الشرائية للرواتب بنسبة تتجاوز تسعة أضعاف، وقد تزيد هذه النسبة في ظلّ استمرار تراجع قيمة الليرة اللبنانية وفي ظلّ مثل هذه الحلول والسياسات المالية والنقدية والاقتصادية التي تعتمدها السلطة. لذا، نحن اليوم مطالبون بممارسة حقنا المشروع دفاعاً عن حقوقنا ومصالحنا ولقمة عيشنا، واللجوء إلى كل أشكال الضغط المشروعة من إضرابات وتظاهرات واعتصامات لانتزاع الحقوق كاملة.
لا يمكن إعادة الاعتبار إلى رواتبنا ومعاشاتنا التقاعدية بالرهان على صدق نوايا المسؤولين الذين أثبتوا بالتجربة أنهم بعيدون كل البعد عن همومنا لثلاث سنوات عجاف، ذقنا خلالها مرارة العوز والحاجة والفقر والإذلال، وأحياناً الموت على أبواب المستشفيات بسبب عجزنا عن تأمين كلفة استشفائنا، ولطالما تصبّب جبيننا عرقاً وخجلاً أمام أطفالنا لعجزنا عن توفير الحد الأدنى من احتياجاتهم البديهية، وكم من مرة وقفنا أذلاء أمام المصارف نستجدي جزءاً من ودائعنا من دون طائل، وأمام الصيدليات عاجزين عن دفع قيمة فاتورة دوائنا، وأمام بائعي الخُضر والمواد الغذائية ومحطات البنزين وأصحاب المولدات، حتى بتنا نخشى الخروج إلى الشارع كي لا نصادف من يطالبنا بدين، أو أن نقف بذلّ أمام طفل من أطفالنا يشتهي حبة فاكهة نعجز عن تأمينها له ولإخوته.
ثبت فعلاً أن الحق لا يضيع ما دام وراءه مطالب، وهذا ما ظهر جلياً عندما رضخت الحكومة والمجلس النيابي أمام الضغوط الميدانية التي مارستها مجموعات المعتصمين أمام المجلس النيابي لأيام ثلاثة متواصلة تلازمت وجلسات مناقشة مشروع الموازنة، إذ تمكنت من فرض تصحيح جزئي لا يغطي عشرين بالمئة من القدرة الشرائية للرواتب التقاعدية، وذلك بإقرار زيادة راتبين على الرواتب الحالية.
وفي هذا المجال، لا بد من الإشارة إلى ما جاء في تقرير لجنة المال والموازنة بنص مكتوب «إن الليرة اللبنانية لم تعد تساوي أكثر من 4% من قيمتها الفعلية وإن الرواتب والمعاشات فقدت 95.5% من قدرتها الشرائية».
وبناءً عليه، جميع المتضرّرين من الموازنة والمطالبين بتصحيح عادل وحقيقي للرواتب والمعاشات التقاعدية مطالَبون بالنزول إلى الشارع مجدّداً وإلى الاعتصام أمام المجلس النيابي في 26 الجاري وطيلة أيام مناقشة مشروع الموازنة، من أجل استعادة الحقوق المهدورة، وإسقاط البنود الضريبة الواردة فيها، ومن أجل موازنة إنتاجية قادرة على مواجهة متطلّبات واحتياجات الشعب اللبناني وقادرة على تأمين واردات فعلية واقتصاد متوازن، واستعادة الأموال المهرّبة والمنهوبة والفوائد الباهظة واستعادة الأملاك البحرية والنهرية، وتنفيذ التدقيق الجنائي وقانون مكافحة الفساد، وتكون موازنة صناعة وطنية غير خاضعة لإملاءات وشروط تزيد من العجز ومن تراكم الدين العام. موازنة تنهض بالاقتصاد الوطني وتحدّ من تدهور العملة الوطنية وتقفل السوق السوداء وتوحّد أسعار الصرف وتؤمّن حصول المودعين لأموالهم، وتوفر الخدمات الأساسية للشعب اللبناني كي لا يضطر للهجرة بالزوارق في رحلات أبدية توصله إلى أعماق البحار ليسجل في سجلات المفقودين هرباً من أهوال الموت جوعاً في وطنه.
وللإنصاف، ولإعطاء كلّ ذي حق حقه، لا بد من التنويه بالهيئات والمجموعات الأهلية والنقابيين، وقدامى القوات المسلحة، الذين اعتصموا ثلاثة أيام متواصلة أمام المجلس النيابي، مواكبة لجلسات مناقشة مشروع الموازنة من أجل إسقاط البنود الضريبية الواردة وتصحيح عادل للرواتب والأجور التقاعدية واستعادة قدرتها الشرائية. مسؤولية الحركة النقابية والأهلية والشعبية أمام المحكّ. فإلى الشارع مجدداً لاستعادة كرامتنا ورفع الذلّ المفروض علينا.
محمد قاسم - الأخبار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|