دخان أبيض رئاسي و3 مرشحين بعد قائد الجيش وسفير سابق لدى الفاتيكان
الفساد و"الفيل الأبيض" الذي أطاح بـ"البقرة الحلوب"
كارين عبد النور- "نداء الوطن"
إحتفل العالم السبت الماضي باليوم العالمي لمكافحة الفساد. وعلى سلّم مؤشّر مدركات الأخير، نتدحرج، هنا في لبنان، في مسار إنحداري. فمن المرتبة 138، بين 180 دولة، في 2018 إلى المرتبة 150 في 2022. وها هي «غلوبال ريسك» تخبرنا قبل أيام عن احتلالنا المركز 168 هذا العام. الفساد، بجذوره سياسية، يستشري بيننا بـ»وقاحة». فالحكومات المتلاحقة همُّها الاستحواذ على السلطة وتوجيه الموارد مصلحياً بعيداً من أطُر النزاهة وآليات مكافحته. وهذه مناسبة متجدّدة لنسأل عمّا تخبّئه هذه الدوامة الهدّامة في السنوات المقبلة؟
معاناة لبنان مع الفساد منذ زمن، وفي كافة القطاعات، ليست سرّاً يُباح. وقد حلّت الأزمة الاقتصادية الأخيرة لتشكّل عاملاً إضافياً مغذّياً لهذه الظاهرة. نتكلّم على وجه الخصوص عن الفساد الذي ينخر بنية القطاع العام. الأسباب والنتائج متشابكة. من ارتفاع نسبة الدين العام والعجز في كافة القطاعات، إلى الأزمة النقدية وتهريب السلع المدعومة، إلى التهرّب الضريبي وعوامل أخرى – اللائحة تطول. كان يُفترض بثورة تشرين أن تدقّ أجراس الإنذار في أذُن أصحاب القرار لاقتناص فرص متاحة (على ندرتها) لمحاولة الخروج من الأزمة. غير أن المعنيين فشلوا، كالعادة، في إحراز أي تقدُّم متعمّدين سياسة «غضّ النظر» عن استئصال جذور الفساد. لا بل ثمة إمعان في هدر الهبات والقروض والمساعدات خدمة لمصالح فردية يكسوها النَهَم على حساب المصلحة العامة. وبحسب الأرقام، تقارِب كلفة الفساد على لبنان سنوياً الـ4.5 مليارات دولار. فعلى سبيل المثال لا أكثر، بلغ الهدر في وزارة الاتصالات بين عامَي 2011 و2022 حوالى 6 مليارات دولار (بحسب تقرير لديوان المحاسبة)، في حين تخطّى الهدر في صفقات الفيول والديون المتراكمة من جرّائها الـ40 مليار دولار.
«طارت» الوزارة
وزير الدولة السابق لشؤون مكافحة الفساد، نقولا تويني، أشار في حديث لـ»نداء الوطن» الى أنه، مع تأليف حكومة جديدة نهاية العام 2016 وبداية العام 2017، تمّ استحداث تلك الوزارة من دون ملاك ولا موازنة. لكنها شاركت في وضع خمسة قوانين أساسية كأداة قانونية مطلقة لمكافحة الفساد. وتمحورت حول حرية الوصول إلى المعلومات؛ حماية كاشفي الفساد؛ تعديل قانون الإثراء غير المشروع؛ إنشاء الهيئة العليا لمكافحة الفساد؛ وتنظيم وتعديل قانون الشراء العام بهدف حصر المناقصات بهيئة المناقصات (كما كانت تُعرف يومها). أما من الناحية العملية، فقد تمكّنت الوزارة من التدخّل القانوني والوزاري بعدّة مناقصات، منها، مثلاً، مناقصة سجن مجدلايا، حيث تمّ تخفيض كلفة المشروع بنسبة 50% تقريباً، بواقع 30 مليون دولار. كذلك كانت الحال بالنسبة لمناقصة المنطقة الحرة وإعادة أموال ميناء بيروت التي كانت مجمَّدة في الهيئة المؤقّتة لإدارة الميناء. ليس هذا وحسب، فقد تمكّنت الوزارة من إعادة أموال البنوك اللبنانية في العراق كما متابعة ملف الصناعيين/التجّار هناك. وتقدّمت بشكاوى ضد شركات توزيع البترول بتهمة احتساب مبالغ جمركية لم تسدَّد إلى الدولة، إضافة إلى تهريب البترول إلى سوريا، وغيرها من القضايا.
التجربة كانت فريدة من نوعها. إلّا أن الوزارة ما لبثت أن «طارت» مع ولادة آخر حكومات الرئيس سعد الحريري في العام 2019. فما السبب؟ يجيب تويني: «لقد شكّل عمل تلك الوزارة عائقاً أمام عمليات النهب والسرقة والفساد. وما حصل بعد العام 2019 من إضرابات وسرقة لأموال المودعين وغيرها من الفضائح الكبرى خير دليل على أن المطلوب كان إلغاءها، وهكذا حصل. وللتاريخ، لقد حذّرت مراراً وتكراراً من بشاعة ما سوف يحصل لو فشلنا في الحدّ من توسّع رقعة الفساد والسرقات، غير أن الرقعة استمرّت بالتمدّد بشكل غير مسبوق». أبرز مكامن الفساد في لبنان، وفق تويني، تتلخّص في قناعة كل شخص تقريباً بأن لا عدالة تُلاحِق الفاسد وأن القوي يفرض قوّته وظلمه على الضعيف. أضف إلى ذلك ابتزاز الدولة عبر العقود الحكومية والمناقصات التي تصبّ في مصلحة المجموعات المغانمية من رجال دولة واقتصاد.
الحلول بعيدة بعيدة. لكن نسأل عنها، مع ذلك، لنسمع من تويني ختاماً أن الفساد حالة جدلية قائمة بين الحاكم والمحكوم. لكن «تبدأ المعالجة انطلاقاً من السلطة لإحقاق الحقّ ورفْع الظلم وكفّ يد القوي عن الضعيف وضرْب الطغمة المغانمية المتحكّمة بالقرارين الاقتصادي والسياسي. علماً أن هذه الطغمة بالذات دمّرت نفسَها بنفسِها لأنها قضت على كافة المصادر وحوّلت البلد من بقرة حلوب إلى وطن منهوب».
في حضرة فساد المسؤولين
من جهتها، لفتت الباحثة والخبيرة في شؤون مكافحة الفساد والأستاذة في الجامعة اللبنانية (كليّة الحقوق والعلوم السياسية) الدكتورة لور أبي خليل، إلى متلازمات أربع رئيسية للفساد: أسواق النفوذ؛ كارتيلات النُخب؛ حكْم العائلات؛ والمسؤولون الحكوميون. «يمكن القول إن الشكل الرابع من الفساد هو المستشري في لبنان كونه يَظهر بشكل علني وهو الذي مكّن السلطة من السيطرة على الحياة السياسية، ما انعكس بشكل كارثي على مفهوم التنمية. فقد أدّت الحرب الأهلية منذ العام 1975 إلى استهداف الاقتصاد اللبناني والعيش المشترك، ما أضعف نظام الحكم كما الإدارة. ثم هناك تفشّي الميليشيات والحركات السياسية التي قبضت على الموارد الاقتصادية. من هنا، ظهر الفساد بصورة مختلفة عمّا سبق، حين كان يقتصر على الرشاوى لا سيّما في الإدارات العامة». وانتشار هذا النوع من الفساد في أوساط المسؤولين جعلهم يتّجهون نحو مشاريع وصفقات تفتقر إلى الجدوى الاقتصادية، والمعروفة بإسم مشاريع «الفيل الأبيض» حيث تغيب الأهداف التنموية ويُستنزَف المال العام لأهداف غير استثمارية. كلّ ذلك أدّى، بما لا يدعو للاستغراب، إلى زيادة أعباء الدين العام وانعدام الإنتاجية بالمقابل.
فلماذا «يفرّخ» الفساد في لبنان كالنار في الهشيم؟ تقول أبي خليل: «يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى فقدان الثقة بالنظام اللبناني وعدم تمكُّن الدولة من بسْط سلطة القانون ما هدّد (وقوّض) شرعيّتها. كذلك، هناك ضعف منظومة القِيَم والمبادئ وغياب الوازع الديني لدى موظفين كُثر ممّن يعتبرون أن الراتب لا يكفي وأن الرشوة، بالتالي، محلَّلة. ناهيك باعتماد المحسوبيات والزبائنية والمحاصَصة الطائفية في التوظيف في ظلّ غياب شبه تام للرقابة الداخلية والإجراءات بحقّ المخالفين». وكأن أسباباً كالهدر التاريخي للثروات الوطنية وغياب الإرادة السياسية للتغيير، كما خرْق النصوص القانونية في العديد من القضايا وفرْض نفوذ الزعامات الدينية والعائلية وعدم الاستقرار الأمني، لا تكفي. فيبرز غياب ثقافة المواطَنة من ضمن قائمة المسبّبات أيضاً.
تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام ٢٠٢٢
نوايا وخيار
ويبقى السؤال المحيّر: أيّهما أفسدْ - الحُكم الفاسد أم الرعيّة الفاسدة؟ تردّ أبي خليل بأن الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية تعتبر الفساد خليطاً بين الاجتماعي والتنظيمي والسياسي والهيكلي والاقتصادي. فبَعد اتفاق الطائف، أصبحت المؤسّسات الرقابية مرتبطة بشكل مباشر برئاسة الحكومة. كذلك، ونظراً للظروف الاستثنائية التي لا تنتهي، لم يَعُد دور مجلس النواب الرقابي بالمستوى المطلوب. «وكأننا نقول لرئيس الحكومة: «قدّم مشروعاً وراقِب نفْسَك». هذا الارتباط يجعل الرقابة مستحيلة ويُضعف قدرة القضاء على مراقبة عمل السلطة التنفيذية كما ينسف مفهوم الحوكمة والنزاهة والمحاسَبة. مسؤولو لبنان اغتنوا بسبب الفساد بعد أن حوّلوا الهيئات الحكومية إلى مؤسّسات ربحية لبناء إمبراطوريات خاصة بهم وتوظيف حاشياتهم وتحقيق المزيد من المكاسب».
احتلالنا المرتبة 168 ضمن مؤشّر الفساد العالمي لا يسرّ. بيد أن ركوب سفينة «الحوكمة الرشيدة وتفعيل دور القضاء وأجهزة الرقابة وإشاعة ثقافة الشفافية والنزاهة والمساءلة» ما زال ممكناً لانتشالنا من القعر، يأمل البعض. وهنا ثمة دور للمدارس والجامعات كما الإعلام والجمعيات والنُخب الثقافية، بالتعاون مع وزارتَي الإعلام والتربية والتعليم العالي لتحقيق تنشئة اجتماعية تضيء على مخاطر الفساد. ولا يقلّ تجريم الإثراء غير المشروع وتفعيل دور الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أهمية. ذلك أن القيادة الرشيدة وإعادة تنظيم الدولة في ظلّ انتشار البرامج التوعوية كفيلتان بالتأسيس لإصلاح سياسي واجتماعي وإداري وقانوني. وهذه، بالمناسبة، من سمات بناء دولة مدنية حديثة يوماً ما. وإلّا لا عجب إن بقيت أبواب الفساد وسرقة المال العام مشرَّعة على قاعدة «الشاطر ما يموت». فالقرار (من القاعدة صعوداً) نوايا وخيار.
حول المؤشّر
مؤشّر مدركات الفساد (Corruption Perception Index) هو مؤشّر سنوي تقوم جمعية الشفافية الدولية بنشره منذ العام 1995. ويهدف إلى تصنيف الدول بحسب مستوياتها المتصوّرة من الفساد في القطاع العام على مقياس من صفر (فاسد للغاية) إلى 100 (نزيه للغاية)، وذلك استناداً إلى تقييم الخبراء واستطلاع الرأي. ويسجّل المؤشّر نتائج 180 دولة حول العالم باستخدام بيانات من مصادر خارجية منها البنك الدولي، الشركات الخاصة للاستشارات وحساب المخاطرة، المنتدى الاقتصادي العالمي والمجمعات الفكرية وغيرها.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|