هل يُهدّد التسرّب الوظيفي أمن السجون؟
وصلت برقيّة إلى أمانة سرِ فصيلةٍ تابعةٍ لإحدى وحدات الدرك تأمر بنقل رقيب أول إلى سرية السجون المركزيّة. حصل ذلك منذ عدّة شهور. جمع المعني أغراضه الشخصيّة، أخفى بطاقته العسكريّة ومسدّسه الحربيّ داخل خزانته الخاصّة، تركها من دون قفل، وغادر في استراحة قصيرة قبل الالتحاق بمركزه الجديد. للقصة تتمة، ومثلها عشرات لا بل مئات القصص عن عسكريين تخلّفوا عن الإلتحاق بمراكزهم واعتُبروا في عداد الفارّين. فماذا في تتمّة القصة؟
غادر الرقيب أول مركزه، لكنه لم يعُد إلى السلك ثانيةً. كان يخدم في فصيلة قريبة من مكان سكنه، و ينظّم دوامه بشكل غير رسميّ مع زملائه ورئيسه المباشر بما يتوافق مع عمله الإضافيّ في أحد المحال التجاريّة في المنطقة ذاتها.
لا يُخفي أنه كثيراً ما فكّر قبل ذلك بترك السلك العسكريّ والتفرغ لأعمال حرّة، بسبب عجزه عن تأمين متطلبات الزواج المنتظر، والذي بات ملحّاً بعد خطوبة تخطّت العام وسبعة أشهر. لكنّه كان يُذعن لرغبة الأهل بالبقاء في وظيفته، وانتظار تغيُّر الأحوال الاقتصادية في البلاد.
برقيّة النقل شكّلت القطرة التي جعلت كأس الصبر يفيض. يقول إن ما شجّعه أكثر على الفرار هو تهاون المسؤولين في التعامل مع الحالات المماثلة، والتي سنتطرق إليها في سياق الموضوع.
أخبرنا بأنه يعمل في تجارة التبغ الخام (الذي يُباع بالكيلو)، والذي أصبح أكثر رواجاً بعد الأزمة الاقتصاديّة، بالإضافة الى بعض أنواع التنباك، والفحم ومستلزمات التدخين، وأن أرباحه الأسبوعية جرّاء هذه التجارة باتت تتراوح بين 200 و300 دولار أميركي، بحسب وضع السوق. فيما راتبه الشهريّ لم يكن يتخطى الـ 200 دولار أميركيّ.
هو متأكد من صدور بلاغ «بحث وتحرٍّ» بحقّه، لكنه في جميع الأحوال لا يقارب المراكز الأمنيّة والعسكرية. يقول، لا يهمّه إذا قُبض عليه، ففي أسوأ الحالات يُسجن لشهر أو لشهرين ثم يعود مبرّأ الذمة الى عمله في التجارة.
يعيش الآن «كلّ يوم بيومه» من دون إشغال بالمستقبل المجهول.
يقول مصدر أمنيّ لـ»نداء الوطن» إن نسبة الفرار من السرايا المتخصّصة بالسجون تفوق نِسَبَ الفرار المسجّلة في السرايا الأخرى، فالذي يتركها (بأي طريقة كانت: تقاعد، تشكيل، فرار...)، يترك شغوراً يصعب ملؤه، فإما «بالواسطة» أو بالفرار يمتنع البديل عن الالتحاق بمراكزها، مما أدى، في خلال العام 2023، الى نقص مخيف في عدد عناصرها، ويَفتَرِض أن عديدها وصل الى نصف العدد المطلوب في كثير من المراكز. كل ذلك حدا بالمسؤولين للتعامل مع التشكيلات منها وإليها بحذر كبير، آخذين بالاعتبار الوضع الاجتماعي وسنوات الخدمة للعناصر المراد نقلهم.
أما على الصعيد العام، فأكّد المصدر أن عدد المتسربين من الجهاز لا يكاد يصل الى نسبة 5% من العدد الإجمالي مع نهاية العام الحالي، بعكس ما يُشاع عن نسبة تفوق الـ 10%. لكن في جميع الحالات، لم يصدر عن قوى الأمن الداخلي أي تأكيد أو نفي رسمي بهذا الخصوص.
يتابع المصدر ذاته، أن أحد الأسباب الملفتة للتَهَرُّب من الخدمة في السرايا المتخصّصة بالسجون، لا سيما سرية السجون المركزيّة، هو التفاوت الواضح بين الوضعين المعيشيين للسجين وللعنصر الأمنيّ. فبخلاف ما تتناقله وسائل إعلام كثيرة عن الأوضاع المعيشية السيئة التي يعانيها السجناء، تجد في الواقع أحوالهم أفضل من أحوال العناصر الأمنية. باستثناء أولئك الذين يقبعون في نظارات لا تستوفي أدنى شروط العيش. وللإضاءة على أحوال السجناء سنأخذ سجن رومية كمثال، كونه السجن المركزيّ الأكبر في لبنان والذي طالما حاز على اهتمام المجتمعين الدولي والمحلي.
ففي سجن روميه، يحصل كل سجين على التالي: الطعام الكافي والصحّي (تشكّل البقوليات مواده الرئيسية)، التحلية المقبولة والفواكه بحسب مواسمها، المياه الصالحة للشرب، التغذية شبه الكاملة بالكهرباء (22 ساعة في اليوم)، الطبابة والاستشفاء المجانيان، سخانات للطعام، وسائل تسلية وترفيه، وسائل تثقيف.
في المقابل، يشتري العنصر الأمني من ماله الخاص أثناء خدمته طعامه وشرابه وتحليته. يدفع فاتورتي مياه، وفاتورتيّ كهرباء عن منزله ليحصل على 12 ساعة تغذية في اليوم كحدّ أقصى، تترتب عليه مصاريف إضافية عند كل حالة استشفاء. أضف الى كل ذلك المصاريف المرتفعة للنقل (من والى العمل)، فراتبه لا يكاد يكفي في أفضل الأحوال حتى منتصف الشهر.
تقول الأخصائية الاجتماعية سوزان أبوشقرا، والتي عملت جنباً الى جنب مع القوى الأمنية في سجن روميه لمدة ثمانية أشهر، إن رجل الأمن فقد المقومات الثلاث الأساسيّة التي طالما كانت المحفّز لاستمراره بالوظيفة. الأولى هي المحفزات المالية، حيث انهارت قيمة الرواتب ومعها التقديمات الأخرى كالطبابة والاستشفاء والمنح المدرسية وتعويضات نهاية الخدمة. الثانية، هي المحفزات المعنوية، إذ تبدّلت صورة رجل الأمن التي كانت تُظهره شخصاً قوياً، مكتفياً، يتمتع بوقار البزّة العسكرية، وأصبحت في ذهنه صورة شخص اجتاحه الفقر وقوّضت سلطته المحسوبيات السياسية وأضعفت معها هيبة الدولة. وآخر المقومات وأهمها، هي العقيدة الوطنيّة التي كانت السبب الأبرز للتضحية والصبر والتحمّل، فتلك فُقدت أيضاً جرّاء الانقسام السياسي وتفشي الفساد والمحسوبيات.
كل ذلك أدى الى تدنٍّ واضح في خلال السنة الموشكة على الرحيل، في مستوى الأداء لدى العناصر الأمنية، كما زاد من احتمالية تسربهم من قوى الأمن الداخلي. وينطبق ذلك على جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية في لبنان.
بإحصاء غير رسميّ، صرح لنا مصدر آخر في وحدة الدرك الإقليمي أن نسبة الموقوفين غير اللبنانيين في النظارات بلغت 60% من مجمل عدد الموقوفين خلال العام 2023. 80% منهم غير محكومين. وتغصّ النظارات في جميع مخافر لبنان بأعدادٍ تفوق قدراتها الاستيعابية، وأحياناً يمضي الموقوف كل فترة محكوميته في إحداها، ليخرج منها مباشرة الى الحرية بعد المحاكمة. ففي إحدى النظارات، التي هي عبارة عن غرفة صغيرة تحت درج يصعد الى سطح المبنى، ولا تستوفي أدنى مقومات العيش، مكث موقوف لمدة سنتين وبضعة أشهر قبل أن يُحاكم ويُنقَل. ولعدم إمكانية نقل جميع الموقوفين الى المحاكمات، كثيراً ما يتم استجوابهم عبر تطبيق zoom، وهي سابقة قضائية قد تضع الاستجوابات في مهبّ القرصنة. بحسب تحقيق نشرته «هيومن رايتس ووتش» على موقعها الرسميّ في 23 آب 2023، تبلغ الطاقة الاستيعابية لجميع مراكز الاحتجاز في لبنان 4760 شخصاً، لكنها تستوعب حالياً 8502. 1094 فقط منهم محكومون. فيما حدد الموقع الرسميّ لوزارة العدل عدد نزلاء السجون بتاريخ 27/11/2023 بـ 6480 نزيلاً، ما يوضح أن عدد موقوفي النظارات يبلغ 2022 وهو الفارق بين ما أعلنته «هيومن رايتس ووتش» وعدد نزلاء السجون.
شكّل العام 2023 تحدّياً واضحاً للأجهزة الأمنيّة، فالإقامة الصعبة للنزلاء، المفاضلة في إنجاز المحاكمات، التدخل السياسي بمجريات التحقيقات، الطغيان الحزبي على هيبة الدولة، تدني مستوى أداء العناصر الأمنية... كل ذلك أدى الى تعاظم ظاهرة الفرار من السجون. فبحسب المصدر نفسه، قد لا يمضي يوم دون محاولات لفرار سجناء، وتتنوع الطرق بين افتعال حريق وقطع حواجز حديدية وغيرها، وكان أخطرها محاولة الفرار الجماعية من نظارة فصيلة طريق الشام منذ بضعة أيام، لكنها ضبطت قبل أن تحصل.
باختصار، «السجون في حالتها الحاضرة كالجمر تحت الرماد. وخوف القوى الأمنية من انفجارها يجعلها تغضّ الطرف عن ممارسات كثيرة للسجناء، مثل تشكيل مجموعات منظّمة أدت الى ظهور مراتب اجتماعية هرمية بينهم...وغير ذلك». هذا ما أكده لنا مسؤول أمنيّ رفيع، وعن تراجع مستوى أداء قوى الأمن الداخلي خلال السنوات الثلاث الأخيرة، رأى أن ذلك يعود الى عدّة أسباب رئيسية، أولها، التقاسم السياسي لوحدات الجهاز. ثانيها، العجز المالي الذي أرهق جميع القطاعات الرسمية لوجستياً بما فيها القطاع الأمني. ثالثها، خفض ميزانيات التدريب والتطوير. رابعها، انخفاض عدد النخبة، فأولئك إما تجمّعوا في سرايا متخصّصة، أو نقلوا الى مواكبة الشخصيات، وقد بلغ عدد المكلفين بمهام حماية شخصيات سياسية وغير سياسية 2700 رجل أمن، أي ما يفوق الـ 10% من العدد الإجمالي لعناصر قوى الأمن الداخلي. تضاف الى ذلك حالات التسرب، والاستقالة، وبلوغ السنّ، في حين أن آخر دورة تطوع كانت لرتباء في العام 2016.
يختم المسؤول بالقول: لا شكّ أن حالات التسرب من الجهاز تؤثر سلباً عليه، وقد تشكّل نقطة ضعف حقيقية يتسرّب منها المجرمون، وقد يستخدمونها للهروب من السجون، أو لأكثر من ذلك. وهنا لا بدّ من حثّ المسؤولين السياسيين على حماية الأمنيين والعسكريين اقتصادياً ومعنوياً من خلال إيجاد حلول تحافظ على ما بقي من هيبة الدولة اللبنانية.
بحسب الأخصائية الاجتماعيّة أبو شقرا، ومن خلال خبرتها بأوضاع السجون: لا يمكننا القول أن التسرب من الأجهزة الأمنية يهدّد أمن السجون بشكل مباشر، فهناك العديد من الوسائل المتطورة التي يمكن اتباعها في الحراسة والمراقبة، من دون الحاجة الى أعداد كبيرة من الحراس. ففي حين تعمل الدول المتطورة على جعل وحدات حماية السجون كمراكز لدراسات تساهم في التطور المجتمعي، تُبقي الدولة اللبنانية على تعاملها مع عناصر الحماية كحراس لا تختلف مهامهم عن أولئك الذين سبقوهم في القرون الماضية.
وتتابع، هيبة الدولة تتمثل بهيبة البزّة العسكرية، فإن سقطت الأولى سقطت الثانية. أما بشأن العناصر الفارين من الخدمة، فلننتظر القضاء العسكري. هل سيطبق قانون العقوبات العسكريّة بحذافيره، أم سيحاول إيجاد وسائل تخفيفيّة إبان محاكمتهم؟ لكن، فليتذكّروا أن أخطر ما يصل إليه الإنسان، أكان مدنياً أم عسكرياً، هو اليأس الذي يؤدي به الى اللامبالاة بالنتائج.
تنص المادة الثانية من قانون القضاء العسكريّ رقم 24 تاريخ 13/4/1968، على ما يأتي: «تخضع قوى الأمن الداخلي لسلطة وزير الداخليّة وتطبّق عليها أحكام القوانين والأنظمة العسكريّة ما خلا بعض الاستثناءات التي يبرّرها تنظيمها الخاص ونوع خدمتها». فيما لحظت المادة 91 من القانون ذاته حق المحكمة العسكرية بمقاضاة ضباط وعناصر قوى الأمن الداخلي، وتطبيق قانون العقوبات العام وقانون العقوبات العسكريّة عليهم.
إذاً، تُطبّق على الفار من قوى الأمن الداخلي مواد قانون القضاء العسكري من المادة 108 حتى المادة 119 ضمناً، والتي تلحظ في متونها عقوبات بالسجن تتراوح بين ستة أشهر والإعدام. يختلف نوع العقوبة بين الحرب والسلم والجهة التي فرّ إليها. كما تختلف أيضاً بين الأفراد والرتباء، والضباط.
عبدالله عبد الصمد - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|