قصّة صرْف تعسُّفي بدأت في 2006... ولم تنتهِ بعد
كان ذلك في العام 2006. قُبيل اندلاع حرب تموز تحديداً. «إذا ما بتمشي متل ما بدّنا بالمستشفى، ما إلك وظيفة عنّا». كلام وَجَّهه مسؤول لموظفة حكومية. ليس هذا مشهد مركَّب، بل قضيّة تعسّفية تفتح نافذة على سجلّ مخالفات شهدها مستشفى سبلين الحكومي. هي قصّة منى غيّاض، رئيسة دائرة الشؤون الإدارية والمالية في المستشفى. الموظفة «المغدورة» التي قرّرت أن تخرج عن صمتها للمرّة الأولى عبر «نداء الوطن». قصّة أنهكت التدخّلات السياسية ضحيّتها، ولم ينصفها القضاء حتى الساعة. إلى التفاصيل.
«خربولي بيتي لأنو وقفت ضد فسادن. 17 سنة بالقضاء وما كنت عارفة إنو عم حارب مافيا. ما بقا عندي غير الإعلام يوَصّل صوتي». بهذه الكلمات تعيدنا غيّاض إلى العام 2006، أي حين تمّ تأهيل مستشفى سبلين الحكومي لاستقبال المرضى. وقتها، قامت إدارة المستشفى بطلب ملء عدّة وظائف شاغرة عبر مباريات مجلس الخدمة المدنية، ومن بينها وظيفة رئيس دائرة الشؤون الإدارية والمالية. «تقدّمت على هذه الوظيفة وكنت الناجحة الوحيدة، حيث فزت بجدارة دون أي واسطة. وبتاريخ 01/07/2006 التحقت بعملي وفقاً للأصول».
بعد 12 يوماً من استلامها مهامها، انفجرت حرب تموز وانقطعت الطرقات بين بيروت وسبلين. فالتحقت غيّاض بوزارة الصحة، الأقرب جغرافياً إلى مكان إقامتها، وذلك بناء على تعميم صادر عن رئيس مجلس الوزراء في حينه، فؤاد السنيورة. غير أن مجلس إدارة المستشفى قام بإرسال كتاب خطّي للموظفة طالباً منها المداومة في عملها مجدَّداً. فعادت إلى المستشفى بتاريخ 14/08/2006 بعد أن وجّه وزير الصحة آنذاك، محمد جواد خليفة، كتاباً يثبت فيه حضورها خلال تلك الفترة في الوزارة. ومن هنا تبدأ الحكاية.
فضح ملفّات = صرف تعسّفي
منذ أن عادت إلى المستشفى، راحت غيّاض تتعرّض لكثير من المضايقات لا سيّما من قِبَل مدير المستشفى، الدكتور أحمد ابو حرفوش، الذي كان يشغل في نفس الوقت مركز رئيس مجلس الإدارة، كما من بعض الموظفين المقرّبين منه. ذلك أنها كانت تعترض على مخالفات يقومون بها، ومن ضمنها مشاركة موظفة استقبال فئة خامسة لا علاقة لها بالشؤون المالية، ومحاسب فئة رابعة، المدير بالتوقيع على شيكات، في مخالفة واضحة للقانون. «حينها قال لي المدير حرفياً: «إنتي بتطلّعي قدّامك وبس. وممنوع تشتغلي شي غير يلي منعطيكي ياه». فسألته: «ولِمَ طلبتم ملء الوظيفة إن كان محرّماً عليّ القيام بمهامي المالية والإدارية؟». أجابني: «إذا ما عجبك، هلق ببعت أمن المستشفى يطلعوكي بالقوّة». لكن، رغم ذلك استمرّيت بالاعتراض على الأعمال غير القانونية وهدر المال العام، تماشياً مع منصبي... فسكوتي عن أي مخالفة يعني مشاركتي بالجريمة».
بعد فترة قصيرة، وتحديداً بتاريخ 31/08/2006، قام مجلس الإدارة بتوجيه إنذار بالصرف إلى غيّاض موقّعاً من رئيس وأحد أعضاء مجلس الإدارة، المحامي بيار قزّي، بصفته أمين سرّ مجلس الإدارة. علماً بأن تكليف الأخير بمهامه كان مخالفاً للقانون كون وظيفته ملحوظة في ملاك المستشفى. «لم أعلم ما هي المخالفات المنسوبة إليّ، ومُنعت من الاطّلاع على التقرير المرفوع ضدّي من المدير إلى مجلس الإدارة. وحين لم أُعطَ حق الدفاع عن نفسي – رغم أنه حق مقدّس ينص عليه الدستور – توجّهت بكتاب رسميّ إلى المدير ردّاً على الإنذار. فما كان منه إلّا أن قام بتاريخ 06/09/2006 بصرفي من الوظيفة من خلال قرار لا يحمل أي رقم، مع العلم أن قرار الصرف يجب أن يكون مرقّماً. وحين رفضت التوقيع على كتاب الصرف، امتنع عن إعطائي نسخة عنه، غير أنني تمكّنت من الحصول عليه من وزارة العمل بعد أن تقدّمت بشكوى ضدّهم».
المخالفات بالجملة
نغوص أكثر في تفاصيل كتاب الصرف ومدى قانونيّته. فقد أشار مصدر قانوني مطّلع على الملف لـ»نداء الوطن» إلى أن رئيس مجلس الإدارة استند في قراره إلى المادة رقم 12 من المرسوم رقم 12255 لصرف غيّاض من العمل. فماذا تتضمّن هذه المادة؟ «يبقى المستخدَمون من جميع الفئات متمرّنين لمدة 3 أشهر. يثبَّتون بعدها بقرار من رئيس مجلس الإدارة إذا برهنوا عن كفاءة نتيجة تقارير دورية صادرة عن رؤسائهم. أما الذين لا يبرهنون عن كفاءة أو يرتكبون أخطاء مسلكية، فيحق لرئيس مجلس الإدارة، بناءً على اقتراح المدير، صرفهم دون سابق إنذار أو تعويض». ويشرح المصدر أن هذه المادة تعود للمرسوم رقم 12255 الصادر في العام 1998 والمتعلّق بنظام المستخدَمين في المستشفيات الحكومية. بينما خضعت غيّاض وزملاؤها لامتحانات في مجلس الخدمة المدنية وفقاً للقانون رقم 583 الصادر عام 2004. وهو ما يشكّل أوّل مخالفات قرار الصرف. ويضيف المصدر أن الكثير من المستشفيات الحكومية تذرّعت وقتها بتلك المادة للتخلّص من المستخدَمين الناجحين في مجلس الخدمة المدنية واستبدالهم بموظفين «غبّ الطلب»، كتنفيعات سياسية ومحسوبيات. وهذا ما دفع مجلس الوزراء في العام 2009 إلى إصدار مرسوم يقضي بتعديل المادة 12 منعاً لأي صرف تعسّفي، وذلك نظراً للعدد الكبير من الشكاوى التي تقدّم بها الموظفون الذين صُرفوا عن غير وجه حق من المستشفيات الحكومية. أما المخالفة الثانية، فتتمحور حول ما ورد في نص محضر جلسة مجلس إدارة المستشفى، حيث قرر المجلس «توصية المدير اتّخاذ كافة الإجراءات القانونية المتعلّقة بموضوع النزاع القائم مع غيّاض لإنهائه». ما يعني أن قرار الصرف لم يؤخذ بإجماع المجلس إنما جاء به رئيس مجلس الإدارة (والذي نُذكّر بأنه كان مدير المستشفى في آن) منفرداً. وهذا يطرح تساؤلاً حول ما إذا كانت غيّاض تُعتبر مستمرّة بالوظيفة حتى اليوم لصدور القرار عن مرجع غير صالح دون أن يُدرج في محاضر جلسات مجلس الإدارة.
ترهيب وقرارات مجمَّدة
ماذا حصل بعدها؟ «بعد أن تمّ صرفي بهذا الشكل التعسّفي، توجّهت إلى مفوّض الحكومة لدى المؤسسة العامة لإدارة مستشفى سبلين آنذاك، وهو النائب في البرلمان الحاليّ، الدكتور بلال عبدالله، أملاً بالمساعدة. ويا ليتني لم أذهب. فقد أجابني حرفياً: «إذا ما بتمشي متل ما بدنا بالمستشفى، ما إلك وظيفة عنا». رفضْت طبعاً وأجبته أنني أعمل في مؤسسة حكومية وهي ملك للدولة ولها قوانينها وأنظمتها. وأخبرته أنني سألجأ إلى القضاء فردّ متوعّداً وغير مكترث بالنتائج». وقد تبيّن لاحقاً، بحسب غيّاض والجهة القانونية المتابعة للملف، أن عبدالله هو من وجّه الشخصين اللذين أخرجا الموظفة بالقوة من مكتب مدير المستشفى حين رفضت توقيع كتاب الصرف. يومها، حاول أحد الشخصين التهجّم جسديًاً على الموظفة، حين رآها تحاول الاتصال بوزارة الصحة مشتكية، متوجّهاً إليها بالإهانات. وهو، بالمناسبة، نفس الشخص الذي تسلّم لاحقاً وظيفة غيّاض بموجب تكليف مخالف للقانون صادر عن مجلس إدارة المستشفى.
للوقوف على رأي النائب عبدالله في كلّ ما توارد إلى مسامعنا، قامت «نداء الوطن» بالاتصال به، فكان جوابه الوحيد: «الموضوع مش عندي... مش عندي الموضوع» قبل أن ينهي المكالمة قاطعاً الطريق أمام أي سؤال آخر حول الملف.
على أي حال، وبعد صرفها من العمل، تقدّمت غيّاض بشكوى ضدّ إدارة مستشفى سبلين في كلّ من ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي كما في وزارتي العمل والصحة. وقد صدر كتاب عن الأخيرة في تشرين الثاني 2006 يطلب فيه الوزير محمد جواد خليفة إعادة الموظفة إلى العمل والقيام بالمهام الموكلة إليها وإعطائها كافة حقوقها واعتبار قرار صرفها باطلاً، غير أن المستشفى لم يلتزم بالتنفيذ.
كذلك صدر قرار عن التفتيش المركزي فرض عقوبة «حسْم راتب» على مدير المستشفى، الدكتور أحمد ابو حرفوش، وإحالة أعضاء مجلس الإدارة (الدكتور أحمد ابو حرفوش، الدكتور أحمد محمد سراج، السيّد فادي الياس سليمان، والمحامي بيار القزي)، كما مفوّض الحكومة حينها لدى المؤسسة العامة لإدارة مستشفى سبلين، الدكتور بلال عبدالله، إلى ديوان المحاسبة لهدر المال العام فيه. غير أن الضغوطات السياسية والقضائية ما زالت تعرقل تقدُّم الملف حتى الساعة. لكن ماذا بعد؟ مخالفات وتعيينات وتزوير تواقيع نستعرضها في جزء ثانٍ.
كارين عبد النور - "نداء الوطن"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|