"إبكِ، أنت لبناني" في بلد سُمّي يوماً "مستشفى الشرق"
"ب.ح" واحد من ستة ملايين لبناني أوصلتهم السلطة الحاكمة منذ أكثر من ثلاثين عاماً إلى مواجهة القدر الصعب كعراةٍ في يوم عاصف، يقفون في الخارج يرتجفون بوجه الريح والصقيع والحرارة المتدنّية إلى ما دون الصفر.
"ب.ح" رجل تخطّى السبيعن بأربع سنوات، لا يحظى بأي تغطية صحية شأنه شأن الكثيرين في بلادي: لا ضمان.. لا تعاونية.. لا جهاز عسكري أو أمني.. ولا حتى تأمين لأنه من وجهة نظر شركات التأمين الأمور تُحتَسب تحت سقف الربح والخسارة، وفي حالته التغطية "خسارة".
"ب.ح" أُصيب بنزيف في الدماغ يوم السبت الماضي أيّ منذ أسبوع بالتمام والكمال، شُخّصت حالته وحصل على تقرير طبي مفصّل، وقبع في منزله يعاني من التقيّؤ والتعب وعدم القدرة على تناول الطعام مع إمساك شديد.. وتطول لائحة الأعراض.
حاولت عائلته إدخاله المستشفى لكنّ تكشّف الأمر عن معاناة طبية خطيرة لناحية النقص في الكادر الطبي، فقليلة المستشفيات التي تنعم بوجود طبيب مختص بالدماغ، جالوا به على غالبية مستشفيات المتن وكسروان وصولاً إلى جبيل من دون نتيجة: "لا طبيب مختص لدينا" كانت الإجابة الموحّدة التي سمعوها، فيما سمعوا عبارة أخرى في عدد من المستشفيات التي طرقوا أبوابها "لا مكان في غرفة العناية الفائقة" وأحياناً "لا عناية فائقة لدينا".
ولأنّ "ب.ح" صديق للعائلة، حاولت المساعدة منذ مساء الخميس، تواصلت مع رئيس لجنة الصحة النيابية الدكتور بلال عبد الله الذي أبدى كل استعداد للمساعدة وطلب إلي إرسال نسخة عن التقرير الطبي الخاص بالمريض ليوجّهنا نحو أقرب مستشفى لديها طبيب مختص بالدماغ، لكنني تأخرّت في الحصول على نسخة لأن زوجة المريض كانت تقود سيارتها وتنتقل بزوجها بين مستشفى وآخر. ثمّ اتّصلت بوزير الصحة الدكتور فراس الأبيض فأبدى كل تجاوب، وطلب إليّ الاتصال بمدير العناية الطبية في وزارة الصّحة العامّة الدكتور جوزف الحلو لمساعدة أسرة المريض في تأمين التغطية على حساب الوزارة. الوقت كان متأخّراً وكان هاتف الحلو مقفلاً... انتظرت حتى صباح يوم أمس الجمعة، وعاودت الاتصال به فسمعت كلاماً مخيفاً ومقلقاً: "صحيح، ليس لدى كل المستشفيات طبيب مختص بحالات النزيف الدماغي، وليس من تغطية لهذه الشريحة من المرضى في لبنان". شكرته وأقفلت الهاتف، ولا زلت أفكر بمسنّي بلادي الذي يسقطون بفعل تعب السنين فريسة لأمراض مختلفة، منها النزيف الدماغي وما أكثر المصابين به في أيامنا السوداء هذه، حيث ارتفاع الضغط لازمة لا مهرب منها، وحيث القلق والخوف من بكرا، ورفض التحوّل عبئاً على الأبناء الذين يكافحون بدورهم من أجل مستقبل مظلم في بلد مظلوم، يلعب دوراً كبيراً في ما يُعرف ب"انفجار في الدماغ" الذي يترك صاحبه فريسة بين فكّي أصحاب المستشفيات، وطلب المبالغ الخيالية غير المتوفّرة بفعل الانهيار المالي، أو سطو المصارف على جنى العمر الذي جمعه كل لبناني في يومه الأبيض تحسّباً ليومه الأسود، فحلّ الأخير وضاع جنى العمر، ومعه يصبح المريض في مواجهة مع الموت الحتمي، يستسلم في الكثير من الأحيان كي لا تقع عائلته تحت وطأة الديون لمعالجته.
"إبكِ، أنت لبناني" هذا هو باختصار حالنا في بلد سُمّي يوماً "مستشفى الشرق".
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|