“إلى أين نذهب”؟ النار في كل جنوب لبنان
"درج": زينب شميس - صحافية لبنانية
الخوف من الموت فطرةٌ بشرية، والخوف على الأحبة قلق مفتوح، والعجز عن حمايتهم حزنٌ لا ينتهي، وما دامت النار في الجنوب، فإلى أين يذهب الجنوبيون؟
“طب انتو مناح، حدا صرلو شي؟”، أجابت الفتاة الجالسة على الطاولة المجاورة في المقهى على اتصالٍ فجائي، وبدت على ملامحها إمارات قلقٍ واضحة، ثم سرعان ما وقفت وبدأت تتجول في المكان وترتجف، فيما توالت الأسئلة التي شملت سلسلة طويلة من الأسماء.
في البداية، ظننت وصديقتي الجالسة إلى جانبي أن الموضوع شخصي، وفي الغالب حادث سيرٍ، قبل أن تغلق الفتاة هاتفها، وتخبر الجميع الجالسين في المقهى أن هناك غارة على منطقة “الغازية” قريب صيدا، وغارات على مناطق أخرى مجاورة. على الفور، ودون أن يتفوه أحدٌ بأي كلمة، التقطت صديقتي هاتفها واتصلت بعائلتها التي تعيش في إحدى بلدات قضاء صيدا، لتكرر عليهم الأسئلة نفسها التي كانت تطرحها الفتاة، بينما انهمك آخرون بتتبع الخبر عبر هواتفهم والإطمئنان على معارفهم.
تحول المقهى الذي كان هادئاً منذ دقائق معدودة، إلى ما يشبه غرفة أخبار مصغرة في إحدى المحطات، يعلن فيها كل واحدٍ على حدة، معلومة تلقاها عن مكان وقوع إحدى الغارات، مع ذكر المصدر.
كنتُ الأكثر هدوءاً في تلك الواقعة، فعائلتي التي تنقسم بين الضاحية والهرمل، بخير وعلى ما يرام، بينما يتوزع معظم أصدقائي الجنوبيون في القرى البعيدة عن الحدود، والبعيدة عن صيدا، وفي بيروت ومناطق أخرى حيث هربوا منذ أيام الحرب الأولى.
حاولت تركيز جهدي على محاولة استقاء المعلومات من مصادر دقيقة، ومشاهدة المقاطع المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، لفهم حيثيات الضربات وماهية الأماكن التي استهدفت، وتقدير الوضع العام قبل الغرق في فرضياتٍ لا تنتهي.
تيقنت منذ شاهدت المقاطع المصورة لاستهداف الغازية أن الموقع ليس منزلًا أو مبنى سكني، فاللهيب والشرارة المتصاعدة من بين الدخان كانت تشير بوضوح إلى وجود مواد قابلة للإشتعال، ولم يخطر في بالي تلك اللحظة سوى 4 آب، وسحب الدخان الثقيلة التي غطت سماء المدينة، والبحر الشاهد على ألسنة النيران وهي تبتلع المكان.
أتت الإجابة على لسان وسائل إعلامية التي أكدت أن الضربات الإسرائيلية استهدفت مصنعاً للمولدات الكهربائية وآخر للدواليب، وأن المعلومات الأولية تشير لوجود إصابات، دون وقوع ضحايا.
بعد ساعتين وأكثر ربما من القلق المتصاعد والأسئلة والأجوبة، هدأ الجميع، لا موتى هذه المرةَ، لا عمال ولا أطفال ولا عابري سبيل، وعم في المكان صمتٌ ثقيل، يشوبه حزنٌ يبدو مألوفًا فقط لمن اختبره لمرةٍ واحدةٍ على الأقل في هذه الحرب. الحزنُ الذي يختزل المشاعر كلها، الخوف والقلق والعجز الذي يشعر به الجنوبيون تحديداً، ومن يعرفهم، مع كل غارةٍ تستهدف الجنوب، الحزن الذي يأتي ختاماً لرحلةٍ يخوضها الفرد المعني بها، منذ لحظة تلقيه الخبر، إلى اللحظة التي تتكشف فيها الخسائر وتصبح فيها الأمور واضحةً.
القادم مرهونٌ بحساباتٍ لم تعد مفهومةً، ولم تعد محصورةً في نطاق جغرافي أو قواعد اشتباك رسمية: “الجنوب كله تحت النار”، ولكن عبر ضرباتٍ محددة، وصواريخ ذكية، وكل جنوبي، أو متواجدٍ على أرض الجنوب، يحمل احتمال موتٍ مؤجل وعشوائي.
اختبرت التجربة وحيدةً في غرفتي عصر الخميس، عندما قرأت خبر وقوع غارة في منطقة “كفررمان”، هذه المرة لم أشاهد المقاطع المصورة، ولم أبحث عن خبر يقين، على الفور سارعت لإرسال رسالة نصيةٍ مقتضبة لصديقتي التي تعيش وزوجها وطفليها وعائلتها :” طمنيني؟”، ليصل الرد بعد دقائق معدودة ” نحنا مناح، الضربة بعيدة شارعين عن البيت”.
لم أتتبع تفاصيل الغارة، ولم أثقلها بأسئلة أخرى، كان يكفي أن تكون بخير، أغلقت الهاتف، وغرقت في ذات الحزن المألوف: ماذا لو أنها لم تنجو هذه المرة؟ ومتى سينتهي هذا الكابوس الطويل من الموت والقلق والحزن؟
تحول المقهى الذي كان هادئاً منذ دقائق معدودة، إلى ما يشبه غرفة أخبار مصغرة في إحدى المحطات، يعلن فيها كل واحدٍ على حدة، معلومة تلقاها عن مكان وقوع إحدى الغارات، مع ذكر المصدر.
النزوح المتكرر: عبء لا ينتهي
كان الخائفون في المقهى، يطلبون من عائلاتهم واحبتهم توضيب أمتعتهم، والانتقال إلى مكان آخر، أي مكان آخر، في حين كان واضحاً، أن ليس لدى الجميع مكانٌ آخر يلجأون إليه، وأن إحتمالية النزوح ليست واردةً، فأربعة أشهر كانت كافية ليرصد كل فردٍ منهم، احتمالات الهرب المنطقية المطروحة أمامهم، ومن استطاع إلى ذلك سبيل، فقد فعل، أما العالقون في بيوتهم، فلا يملكون خياراً آخر.
في الأيام الأولى للحرب، كان الجنوبيون في القرى الملاصقة للحدود، أول من غادر منازلهم، ومع إتساع رقعة القصف الإسرائيلي تدريجياً، ازداد عدد النازحين حتى بلغ مئة ألف نازحٍ وفق تقدير الجهات المعنية، وقد توزع هؤلاء بشكل أكبر في القرى والمناطق الجنوبية البعيدة عن الحدود، وفي بيروت ومناطق أخرى بدرجةٍ أقل.
جزء كبير من النازحين الجنوبيين، اضطر للتنقل من منزلٍ إلى آخر منذ بداية الحرب حتى اليوم، ومنهم من عاد إلى منزله رغم الخطر، لأن كل الاحتمالات الأخرى أمامه كانت فاقدةً للأمان بمعناه الاستثنائي المعقد للوضع الجنوبي حالياً.
حتى بداية هذا الشهر، كان سكان النبطية والنازحون إليها، في مآمنٍ من النيران الإسرائيلية، إلا أن هذا الأمان الوهمي تبدد مع استهداف اسرائيل لسيارةٍ قرب تمثال حسن كامل الصباح عند مدخل مدينة النبطية في الثامن من الشهر، دون تسجيل وقوع إصابات. وفي أقل من أسبوع، تحولت المدينة الآمنة إلى شاهدٍ على مجزرةٍ ارتكبتها إسرائيل بقتلها عائلة مؤلفة من 7 أشخاص في حي المسلخ في النبطية، بعد أن استهدفت مبنى سكني تعيش فيه العائلة في ال14 من الشهر، في “جنوب لبنان” أصبح الموت في المنازل أو الشوارع إحتماليةً لا يمكن تجاهلها أو التعامل معها كأمر غير قابلٍ للحدوث.
ومع استهداف مواقع متعددة في قضاء صيدا، أصبح الجنوب، بساحله وداخله وحدوده، وكل نقطة مختلفة فيه، مسرحاً مرتقباً للنيران الإسرائيلية، لا يدري أهله إلى أين يذهبون من جديد، وكيف يتفادون الموت الذي فُرض عليهم، في ظل إهمالٍ سياسي وتجاهل لقيمة حياتهم، وغياب لخطة طوارئ حكومية تؤمن للجنوبيين حد أدنى من مقومات الأمان والإستقرار، وفي ظل وحشية اسرائيلية موصوفة في غزة، لا ضمانات لعدم تكرارها جنوباً.
أمل الجنوب وأطفاله
أدى القصف الإسرائيلي على الجنوب إلى سقوط أكثر من 40 ضحية من المدنيين، بينهم أطفال، وكانت الطفلة “أمل الدر” ، البالغة من العمر خمس سنوات، والتي قضت مع والدتها، متأثرةً بجراحها بعد الغارة الإسرائيلية التي استهدفت قرية “مجدل زون” قضاء صور صبيحة الأربعاء، آخر ضحايا النيران الإسرائيلية حتى الساعة.
فاجعة موت الأطفال جنوباً بدأت عندما استهدفت اسرائيل في ال5 من نوفمبر الماضي، سيارةً تقل سيدة ووالدتها وبناتها الثلاثة، وبينما نجت الأم وحيدة، قضى الأطفال مع جدتهم.
تكرر المشهد، وقضى الشقيقان أمير وحسن محسن في غارةٍ على منطقة الصوانة، وشيعت النبطية الطفل محمود عامر مع أفراد عائلته، ولا أحد يعلم كيف ومتى، سيتوقف موت الأطفال في الجنوب وغزة، وكيف ستنجو الأجساد الصغيرة أمام ماكينة الموت الإسرائيلية الهائلة، ولعل أعلى درجات القهر التي نعيشها اليوم، هي نتيجة واقعية لعجزنا عن حماية الصغار، ممن لا يعرفون بعد معنى الحياة والموت والحرب.
انتشر على مواقع التواصل الإجتماعي مقطع مصور لمجموعة من الأطفال المذعورين في إحدى مدارس الجنوب، وهم يبكون ويصرخون خوفاً بعد أن خرقت غارةٌ اسرائيلية جدار الصوت في قريتهم. انقسمت الآراء حول نشر وتصدير هذه المشهدية الواقعية التي تختصرها عفوية الأطفال، وتعبر عنها دموعهم، بطريقة أبلغ ربما من آلاف الكلمات التي نكتبها كل يوم، ومئات الأسئلة التي نطرحها بلا هوادة.
الخوف من الموت فطرةٌ بشرية، والخوف على الأحبة قلق مفتوح، والعجز عن حمايتهم حزنٌ لا ينتهي، وما دامت النار في الجنوب، فإلى أين يذهب الجنوبيون؟
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|