المؤسسات الأجنبية "تسرق" الأدمغة اللبنانية.. نزيف الهجرة يُهلك لبنان
يمكن القول بأن لبنان قادرٌ على تعويض كافة خسائره التي انفجرت دفعة واحدة منذ بدء الأزمة الإقتصادية، مرورًا بالأحداث السياسية والأمنية.. أموال، صفقات، استثمارات، وغيرها الكثير من شأنه أن يعوّض، إلا أمرًا واحدًا.. هجرة أصحاب الكفاءات، والأدمغة.. فهدا الإستنزاف الأكبر والأصعب، من شأنه أن يهلك لبنان، إذ أن نتائجه لن تظهر اليوم بشكل مباشر وينتظرنا مستقبل خطير بكل ما للكلمة من معنى.
لوهلةٍ، من المعيب أن نسأل في بلد الحضارات، مهد الحرف والثقافات عن أسباب الهجرة.. فالبلد الذي كان معقل جذب الرساميل، ومركز الترانزيت، والمرور من القارات واليها، بات اليوم أكثر من 70% من شعبه يعاني لناحية تأمين احتياجاته، حسب آخر دراسة أصدرتها لجنة الأمم المتحدة الإقتصادية "الاسكوا" التي تتكلم عن رقم خطير لامس 74% من معدل الفقر في لبنان.
وفي حال لم نكن نريد أن نتعمّق بالفقر وأسبابه، نظرًا إلى مشاهد الحفلات، والسهر، والمناسبات، التي يكون أغلبها مكتمل الحجوزات، فإنّ قطاعات الصحة، والعمل، والخدمات، والتعليم هي الأخرى، لم تعد تلبي تطلعات اللبناني. ففي يوم نسمع بإضراب المدارس الرسمية، لتنتقل العدوى إلى المدارس الخاصة، ولتلتحق بها لاحقا الجامعة الوطنية الوحيدة.. يومٌ نسمع بانفجارٍ أمني، ويومٌ آخر نحارب لأجل تأمين دواء محتكرا، أو نحارب لأجل تأمين سعر دواء موجود وغير محتكر.. كل هذا، سمح لأبواب الهجرة أن تشرّع أبوابها للشباب، الذين باتوا يأخذون المخاطرة على عاتقهم، ويلتحقون بركب سلفهم من الأصدقاء، بغض النّظر عن ما إذا كان هناك عقود جاهزة للعمل أم لا.. فالمحاولة قد تكون فرصتهم الجوهرية والأخيرة.
سرقة ممنهجة
الأغرب من ذلك كله، هو محاولة المؤسسات الأجنبية اللعب على الوتر الحسّاس، واصطياد "المتفوقين" من الطلاب، أو العمال من ذوي السمعة الإستثناية. وهذا ما تمّ لمسه على أرض الواقع، سواء في القطاع المهنيّ، أو الأكاديميّ.
فعلى سبيل المثال، ومنذ بدء الأزمة فعليًا في لبنان، تمكنت المؤسسات التعليمية من سحب تلاميذ متفوقين لمصلحة جامعاتها أو لمؤسساتها التعليمية، وذلك من خلال توفير خطط سهلة ومبسطة، تسمح لهؤلاء بالتقديم على البرامج التعليمية، والتي بالتوازي، ستمنحهم فرصة الإنتقال إلى الخارج، والتعلم على حساب المؤسسة، شرط العمل لديها، كإيفاء لدين التعليم الذي قدمته على مرّ السنوات.
ريم، وهي طالبة لبنانية، مكّنها الحظّ من الوصول إلى فرنسا على حدّ تعبيرها. تشرح لـ"لبنان24" عبر "زوم" كيف استطاعت مؤسسة أجنبية واحدة سحب عشرات التلاميذ من الجامعات اللبنانية، إذ تقول بأن مجلس طلاب جامعتها عرض على الطلاب المتفوقين برنامجا تعليميّا في فرنسا، يضمن للطالب استكمال دراسته في الخارج. تقدّمت ريم من البرنامج، وخاضت امتحانات عدّة، منها ما كان يتعلق بالحقل الآكاديميّ، او بمستوى الذكاء حسب تعبيرها.. إلى أن نجح 10 تلامذة من 3 جامعات مختلفة. تم تأمين سفرهم، على نفقة المؤسسة الأجنبية، وأصبحوا اليوم في فرنسا، يعملون ويتعلمون في الوقت نفسه في المؤسسة التعليمية.
وتشير ريم لـ"لبنان 24" إلى أن المؤسسة وضعت بندًا ضمن شروطها يجبر الطالب على العمل لدى الشركة لسنوات محددة بعد التخرج، وهذا الأمر يرى فيه الطلاب فرصة لضمان عمل في الخارج، مهما كان العمل صعبًا.. فالنظر للمستقبل يحتاج إلى تضحيات جمّة..
مصدر أكاديميّ متابع لما يجري يروي خلال اتصال عبر "لبنان24" عملية سحب الأدمغة والطلاب من لبنان، إذ يقول بأنّ هذه المؤسسات كانت على اتصال منذ سنوات وسنوات مع جامعاتنا، وكانت عروضها مضاعفةعما هي عليها اليوم، علمًا أن تلك العروض لم يكن يتجاوب معها الطالب اللبناني، طمعًا بأنّ الشهادة اللبنانية، ولشدّة قوتها ستتيح له مجالات أقوى، إلا أن الحال اليوم اختلف بشكل كامل، وباتت هذه المؤسسات نفسها تعرض عقودًا لا تصل إلى نصف قيمة العروض التي كانت تقدمها قبل الأزمة.. وما هو محزن، يتجلى بأن الطلاب باتوا يوافقون على هذه العروض، من دون أي تفكير، لأنهم يؤمنون بأن لا فرص قد تُتاح لهم في لبنان.
أرقام مرعبة
ومنذ عام 2017 وحتى أواخر العام 2023، خرج من لبنان ما يقارب 300 ألف شخص حسب أرقام حصل عليها "لبنان 24" من جهات معنية. وما يثير الريبة أكثر هو أن من بين الـ300 ألف مهاجر فان 210,000 لبناني هم من الفئة الشابة المنتجة، وينقسم هذا الرقم حسب المصدر بين الطلاب، أو الخريجين الجدد، أو الذين يعملون في قطاعٍ حيوي.
ويضيف المصدر لـ"لبنان24" أن من بين القطاعات التي تأثرت بشكل كبير، وانضوت تحت الـ 300 ألف مهاجر، يوجد 3 قطاعات أساسية وهي: الصحة، التعليم، والقطاع المصرفي.
فمثلاً على صعيد الصحة، يوضح نقيب الصيادلة جو سلوم خلال اتصال مع "لبنان24" أن مسألة تهميش عمل الصيدليات، وسيطرة السوق الموازية، وما يتبعها من سوق الصيدليات الأونلاين، وإدخال الدواء غير الشرعي وبيعه في السوق دفع الالاف إلى ترك أعمالهم، والاتجاه إلى خارج لبنان مع تقاضم رأس المال، وهذا ما وضع 4000 صيدليّ أمام مصيرهم.
تمامًا، الأمر ذاته ينطبق على قطاع المستشفيات، الذي شهد أكبر ضربة في تاريخه، إذ وفي ظل عدم وجود أرقامٍ رسمية، فإن أكثر من 2000 طبيب تقريبا قد غادروا لبنان منذ بدء الأزمة، ومعظم هؤلاء الأطباء كان لهم بريقهم الخاص، إذ شكّلوا عامل جذب للمرضى من خارج لبنان.
الأمر نفسه يواجهه قطاع التعليم، مع هجرة قياسية في اعداد المعلمين، الذين تركزت وجهاتهم بشكل قياسيّ وأساسيّ إلى الدول الخليجية، التي استقبلت الآلاف منهم، نظرًا إلى المهنية الإستثنائية. وحسب معلومات "لبنان24"، فإن المؤسسات التعليمية العربية هي على تواصل مستمر مع الخريجين الجدد، الذين يرون في هذا الأمر فرصة للخروج من لبنان. إلا أن ما هو خطير يتمثل بأعمار الأساتذة الذين لا يزالون في لبنان، إذ علم "لبنان24" أن ما يقارب 75% من الأساتذة الحاليين أعمارهم تتجاوز 40 عامًا، وأكثر من نصف هؤلاء تتراوح أعمارهم ما بين 51 إلى حدّ 64 عامًا تقريبًا، وهذا مؤشّر خطير لناحية البنية التعليمية في لبنان، إذ إنّ هذه الأرقام ترسم مستقبلاً خطيرًا جدًا.
أما بالنسبة إلى القطاع المصرفي، فالأمر حدّث ولا حرج، فمع إقفال المصارف لفروعها في لبنان والتي تقلصت بشكل قياسي، اضطر أصحاب الكفاءات إلى مغادرة البلاد، والبحث عن فرص أفضل في البلدان العربية، وتحديدًا الخليجية منها.
على العموم الأرقام مرعية، والأخطر من ذلك هو أن الخريجين، وإن اضطروا للاستغناء عن شهاداتهم، فإنّهم فضّلوا البقاء خارجًا بدل العودة إلى لبنان، وهذا ما يعني اتخاذ قرار نهائي بمغادرة البلاد مهما كان حجم الثمن.. فهل سيفرغ لبنان من شبابه ويزداد نزفه البشري؟!
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|