عن موسى وشادي والبلاد المُتخمة بالموت المجانيّ
"درج": زينب شميس - صحافية لبنانية
لم يكن موسى ليخرج من قريته لولا الحرب، هذا واقعٌ لا مفرّ منه، وعاد إليها ميتاً، لأنه يعيش في بلادٍ لا تجيد حماية مواطنيها من أي شيء.
عُثر يوم الأحد الماضي، على جثة المواطن موسى بزي، (70 عاماً) في إحدى الحفر الصحية في منطقة الأوزاعي، والتي تتقاعس الدولة عن إيجاد حلّ لإغلاقها، وذلك بعد أكثر من شهرٍ على فقدانه. موسى الذي يعاني من مشاكل ذهنية، نزح من قرية بنت جبيل الجنوبية مع بداية الحرب على الحدود، وفُقد أثره في “حي ماضي” في الضاحية الجنوبية، ولم تفلح كل الجهود التي بذلتها عائلته وأحباؤه الكثر في العثور على أي خيطٍ يدل على محل وجوده خلال هذه الفترة.
لم تقدّم قوى الأمن حتى الساعة، روايةً مفصّلة لموت موسى واختفائه الطويل. وباستثناء المناشدة التي قامت بها عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي ظل ما شهدناه ونشهده اليوم من تهالك في المنظومة الأمنية، وعجزها عن تأمين أدنى مقومات الحماية للمواطنين، لا يمكن التعويل حقاً على جهودٍ رسمية حقيقية وضعتها قوى الأمن في هذه القضية، التي انتهت بموسى جثة متحلّلة. وغالباً، سينتهي الأمر بختم القضية بكونها حادثة “قضاء وقدر”، لا يتحمّل مسؤوليتها أحد. وربما من السذاجة أن ننتظر أن يتحمّل مسؤوليتها أحد.
تذكّرني هذه العبارة التي تستعملها الدولة في توثيق حوادث الموت التي لا تريد تحميل ذنبها لأحد، بعبارة “قدر الله وما شاء فعل”، التي كنا نختم بها غضبنا بعد كل حادثة موتٍ غير عادل شهدناه في قريتي “الهرمل”، حيث تكثر حوادث الموت بفعل السلاح المتفلت وحوادث السير على الطرقات الوعرة المظلمة، مع ما تعانيه مستشفيات المنطقة من كوارث طبية تجعل من فرص النجاة ضئيلة مقارنةً بغيرها من مستشفيات في بيروت ومناطق أخرى في لبنان.
كان الجميع يستسلم للموت غير المتعمّد، أو ما نسميه في حسابات الدولة، موت القضاء والقدر، في حين كان البعض الآخر يردّ على الموت المتعمد بالموت المتعمد، فيقرّر البعض وضع خاتمة للثأر المقبول اجتماعياًً في المنطقة. بينما كانت قلةٌ قليلةٌ، تناشد الدولة الغائبة عن البقاع بوضع حدّ لكلّ هذا الموت، بإيجاد حلّ جذريّ لكل هذا الموت المجاني، بإصلاح الطرقات وإنارتها لتصبح آمنةً أكثر، وبإحكام قبضتها على السلاح المتفلّت، وبمعاقبة القتلة عقاباً رادعاً، من دون الوقوف على أي اعتبارات حزبية وعشائرية تختصّ بها المنطقة دون غيرها في لبنان، وبالقيام بخطوات فعالة لتحسين مستوى مختلف المرافق الصحية في المنطقة.
قلةُ قليلةٌ كانت تسمي الأشياء بأسمائها، وترفض القضاء والقدر كنتيجة أخيرة لهذا الموت، قلةٌ لم يُسمع صوتها، تشبه بطريقة ما القلة القليلة التي ناشدت الدولة لأكثر من شهر لتعثر على موسى، وتنتظر اليوم ربما ألا يذهب موته هدراً، وأن يتحمّل أحد، أي أحد، نتيجة هذا الموت.
إسرائيل أيضاً قتلت موسى
في أغنيتها “شادي”، تغني فيروز صديقها المتخيَّل شادي، الذي ضاع في الحرب، وتتحدّث عن عشرين سنةً كبرت فيها بعد النكبة، بينما ظلّ شادي صغيراً، ضائعاً بين التلال، أو على الأقل هذا ما أرادت أن تصدّقه. شادي الذي فوجئ بالحرب المستعرة بين “ناس ضد ناس”، ذهب ولم يعد، بينما ظلت فيروز تناديه وتسأله عن وجهته. لم يكن موسى طفلاً، لكن حالته الخاصة جعلته أشبه بذلك، وهو ما اعتاد عليه أبناء قريته، وقد تعلموا خلال سبعين عاماً، كيف يعاملونه كطفلٍ، يضحكون في وجهه كلما التقوه، ويأخذون بركته، ويستذكرون من خلاله كيف يكبر المرء وتظل روحه نقيةً كالأطفال، ويولونه الرعاية التي يحتاجها ليظل سالماً غانماً بينهم.
لم يكن موسى ليخرج من قريته لولا الحرب، هذا واقعٌ لا مفرّ منه، وعاد إليها ميتاً، لأنه يعيش في بلادٍ لا تجيد حماية مواطنيها من أي شيء. وفي حالته الخاصة، حيث لا يوجد أي مراكز متخصصة بتقديم رعاية مجانية وإلزامية لذوي الاحتياجات الخاصة، كانت فرصته الوحيدة للنجاة، هي البقاء بين من اعتادوا أن يأخذوا على عاتقهم دور الدولة، وتأمين حماية ورعاية خاصة للحلقة الأضعف في المجتمعات الصغرى، وهو ما نراه بشكلٍ جلي في القرى والأحياء الشعبية دون غيرها.
أجبرت الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان، جنوبيين كثراً على مغادرة بيوتهم وأراضيهم، لا سيما سكان القرى الصغرى الحدودية، ممّن اعتادوا الحياة الهادئة، والعمل في الأرض، وتركتهم لمواجهة شكلٍ آخر للحياة، في بيوت ومراكز موزّعة في القرى الجنوبية الكبرى، أو في بيروت حيث ضجيج الحياة وازدحامها، وقتلت منهم فلاحين وأطفالاً وعجائز ونساء، لم يجدوا في غير الجنوب مكاناً يأويهم ويحتضن فرادتهم وارتباطهم الوثيق بالأرض، وقتلت معهم موسى، الذي هرب من الموت فلاحقه بصورةٍ آخرى.
الموت المجاني
هناك موتٌ يخلّده التاريخ، وهناك موتٌ تخلّده قلوب الأحبة فقط، هناك موتٌ ثمين، موتٌ يأتي من بعده أثرٌ بالغٌ يجعله حالةً فريدةً لا تتكرر، وهناك موتٌ مجاني، لا يأخذ صاحبه حقه بأن يشار إلى المسؤول عنه، ولا تقام لأجله أي خطوات حقيقية لتفادي تكراره مع ضحيةٍ أخرى، ولا تخلو الحياة من حالات موت القضاء والقدر بالطبع، لكن موت موسى وحيداً في هذه الحفرة ليس واحداً منها، وقبله الشاب ويليام سرحان الذي مات في حادث سيرٍ أثناء تفاديه حفرة مشابهة في بيروت في تموز/ يوليو الماضي، وغيره من حوادث موتٍ كثيرة لم نسمع عنها، أو سمعنا عنها ورضينا بها. ولا يصح أن تتحوّل هذه الإجابة، وهذه العبارة المبتذلة، إلى تبرير لكل موتٍ لا نستطيع من خلاله توجيه أصابع الاتهام إلى جهة مسؤولة.
ساهمت الدولة، بتقصيرها في العثور على موسى الهارب من الحرب قبل فوات الآوان، الضائع في شوراع بيروت الكبيرة، وعجزها عن تأمين هذه الشوارع من احتمالات الموت المفتوحة والمتعددة، في موته، وهذه حقيقةٌ لا يمكن تغييرها بمجرد تسجيل الحادثة بكونها “قضاءً وقدراً”، حتى لو رضينا جميعنا بهذه الخاتمة، حتى لو طوينا حكاية موسى كما نفعل مع كل حوادث الموت المجاني والمتعدّد في حياتنا.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|