قواعد الاشتباك: لبنان بين ثلاثة أنواع
بين تطمينات مستشار الرئيس الأميركي جو بايدن آموس هوكستين، وجهوده المبذولة لمنع توسّع الحرب في لبنان. وبين رسائل وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان، الداعية إلى التهدئة والحلول الدبلوماسية لعدم توسع الحرب في لبنان. تتحكّم في لبنان ثلاثة أنواع من قواعد الاشتباك:
1- قواعد الاشتباك التوافقية الدستورية المحلية: تآلف لبنان مع هذه القواعد الهجينة منذ استقلاله في جمهوريّته الأولى. لكنّه اعتادها أكثر بعد توقيعه على اتفاق الطائف، وانطلاقة جمهوريته الثانية. جعلت هذه القواعد الدستور وجهة نظر. أُعلن الميثاق الوطني في عام 1943، ولم يُحتكم إليه. نُسجت قواعد اشتباك شخصانية مخرّبة له، معطّلة للدولة واستمراريّتها. نخرت في نظامه السياسي ومؤسّساته. أفرغت قوانينه إلى أن انفجر الوضع في عام 1975. لم يتعلّم لبنان من هول المآسي والفوضى والتحارب. إذ صادق بعد مرور عقد ونصف على وثيقة الوفاق الوطني سنة 1989. لم تنفَّذ هي أيضاً. استبدل الطائف عبر نهجين من قواعد الاشتباك السياسية، والتوافقيات المرحلية، الأولى سورية والثانية إيرانية:
– بدأ النهج السوري عقب إقرار وثيقة الطائف، من بوّابة اتفاق بيكر – الأسد. وانتهى في عام 2005 مع انسحاب القوات السورية. جعل هذا المسار من اتفاق الطائف حلّاً للأزمة اللبنانية بالطريقة السورية مع غياب فاعل للعنصر اللبناني.
– انطلق عصر قواعد الاشتباك الإيرانية، بعد جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في عام 2005. سيطرت إيران بالكامل على مفاتيح الدولة بعد اتفاق الدوحة، الذي جاء بعد أحداث 7 أيار 2008 ويومه الممانع الأسود، الذي استباح بيروت. حوّلت قواعد الاشتباك الإيرانية لبنان من دولة إلى دويلة. وصنعت منه دولة اسمية، فارغة من أصل مضمونها.
2- قواعد الاشتباك الأمنيّة المحليّة: إنّها قواعد الاشتباك المحلّية المكرّسة بين الحزب والكيان الإسرائيلي بعد حرب تموز 2006. أدخلت هذه القواعد لبنان في مرحلة التوازن السلبي غير الصحّي، وأفقدت الدولة وسلطاتها الرسمية التحكّم. جعلتها على هامش كلّ الأحداث. أضحت الجمهورية بكلّ رموزها ساعي بريد ووسيطاً لنقل وجهات النظر فقط. ليست لها أيّ صفة تقريرية وتنفيذية. هنالك فرق كبير بين أن يكون لبنان دولة مساندة ومؤازرة، بحكم إجماع وقرار جامعة الدول العربية وحتمية خصوصيّته المكوّنة، من أجل الدولة والمصلحة العربية ولخدمة القضية الفلسطينية. وبين أن يكون لبنان كما هو الآن جبهة مساندة وإشغال واستثمار لمصلحة النفوذ الإيراني وتحقيقاً لرغباته. أطبقت الدويلة على قرار الدولة، وصادرت قرار الحكومة التي أضحت ناطقة باسمها. أدخلت البلاد في مرحلة عدم اليقين المستقبلي.
قرار الحرب والسلم ليس بيدها، بل خارج إرادتها الحقيقية. هي بين الحزب والكيان الإسرائيلي.
3- قواعد الاشتباك الإقليمية: هي الموانع الضابطة للاتفاقية بين كلّ من إيران والولايات المتحدة الأميركية. تشمل هذه المنطقة عدّة دول عربية، وتمتدّ من خارج حدود الجغرافية الإيرانية في مناطق محدّدة (اليمن، العراق، سوريا، لبنان). نتج عن هذه القواعد “سقوط مبدأ وحدة الساحات بالمعنى المادّي لمصلحة مبدأ وحدة الأذرع الإيرانية”.
تبدأ هذه السلسلة من الأراضي الممتدّة من خارج حدود الدولة الإيرانية وصولاً إلى منطقة المياه الدافئة على البحر المتوسط. تشكّل في تركيبتها كتلاً مناقضة للسلطات ومعارضة لخيارات الدول وأكثرية الشعوب المتمركزة فيها.
هدفت إيران من خلال هذا المخطّط إلى إظهار وحدة سلسلتها الأمنيّة المسيطرة على الدول المتمركزة فيها والمصادِرة لقراراتها. انتهجت فيها سياسة السلطة الموازية عبر تفتيت وإنهاك الأنظمة دون الانقلاب النهائي عليها. تستثمرها على طاولة المفاوضات الإقليمية لمصلحتها ولمصلحة نفوذها إقليمياً.
قواعد الاشتباك أم قواعد لعبة أكبر من لبنان؟
تُعرّف قواعد الاشتباك اصطلاحياً بأنّها “مجموعة التوجيهات الداخلية الممنوحة من السلطات المختصّة إلى الأطراف المتحاربة في منطقة محدّدة”. تحدّد عبرها الكيفية والدرجة والظروف الملائمة، إضافة إلى الطرق التي يمكن استخدام القوّة فيها. تكون في أغلب الأحيان غير منضبطة ومشوّهة، فلا ثقة بها مطلقاً.
تتعرّض هذه القواعد بكلّ واقعية وتجرّد للعديد من التجاوزات، ولمزيد من العبث تقع كثيراً ضحيّة الاختراق والمخالفة والتصرّفات الفوضوية غير القانونية واللاأخلاقية. هي رهينة الظروف الميدانية بين الأطراف المتحاربة وتحت رحمة الميدان. تساهم نوعاً ما في عدم امتداد وانفلاش رقعة المعركة، لكنّها لا تقدّم حلّاً نهائياً. وهذا ما يجعل من الأمر في لبنان حقيقة تكتيكية سياسية مجرّدة. تترجمه واقعية لوجستية وأمنيّة اتّفاقية بين الأطراف الأصليين (الإيراني والأميركي). ينفّذه الوكلاء على أرض الواقع. توازن باطني بين أصحاب المصلحة الحقيقيّين. تكرّسه الحاجة الماسّة لهم في الإبقاء على حالة اللاحرب واللاسلم. يجعل هذا الأمر من الكيان الإسرائيلي متحرّراً من تطبيق القرارات، ويفتح له أبواب الغلوّ والتعنّت والإجرام.
لذا يعيش لبنان على أنغام قواعد اشتباك متفلّتة تدخله في واقع غير مستقر. لم تقدّم أيّ إيجابية لجهة المساعدة أو المساندة والإشغال في هذه الحرب الدائرة في غزة، ولم تخفّف الأعباء. بل أدخلت لبنان في أتون غير مضمون. حرمته وأبعدته عن طريق التشبيك الإيجابي الصحيح لمصلحة بناء الدولة. جعلت منه دولة اسمية فاشلة بلا عنوان وملاذاً للأفكار الهجينة الملتوية. وهو ما أدخله في لعبة أممية قواعدها أكبر منه. لذلك لا حلّ إلّا في الاحتكام إلى الدستور، والالتزام بالقوانين، والشروع في تطبيق القرارات الدولية.
د. محيي الدين الشحيمي - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|