الإعلان عن سلسلة جديدة يستحضر صورة سلسلة 2017 "المشؤومة"
كان لافتاً إعلان رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي خلال لقاء تلفزيوني أخيرا تكليفه "سيغما" (وهي مبادرة مشتركة بين الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي OECD)، "البدء بتحضير سلسلة رتب ورواتب جديدة للقطاع العام خلال الاشهر المقبلة من خلال مشروع قانون سنقدمه الى مجلس النواب ليتم اقراره".
وتوازياً، سيصار الى الشروع في إجراء الدراسات اللازمة المتعلقة بحجم حاجة الدولة الى الموارد البشرية لتسيير شؤون الإدارة العامة بعصرية ورشاقة تحاكي التطور التقني والتكنولوجي المعتمد في القطاع الخاص، والكلفة المترتبة على تطوير البنى التحتية لذلك، اضافة إلى كلفة الرواتب والأجور التي تسمح باستقطاب كادرات ماهرة لإدارة مؤسسات الدولة وتعزيز خدماتها لمواطنيها.
الرئيس ميقاتي رجل أعمال قبل انضوائه في الشأن العام، ويعي جيدا ماهية وجود طاقم بشري في مؤسسة تبتغي النجاح من جهة وتحقق الأرباح من جهة أخرى. وهو في طرحه المستجد والمفاجىء لبعض السلطة، هَدَفَ إلى أمرين: أولهما تحسين أداء الإدارة العامة ورفع إنتاجية العاملين فيها في زمن ضمور قدرة الدولة على تأمين خدماتها وواجباتها الضرورية للبنانيين. وثانيهما: الخروج من فوضى مضاعفة رواتب القطاع العام لمرات عدة، والإشكالات الناجمة عن التفاوت الذي تسببت به بين القطاعات، وبين الموظفين حاملي الرتبة والدرجة عينها، وبينهم وبين المتقاعدين الذين أشعلوا الشارع مرات عدة ويهددون بتكرار ذلك يوميا ما لم تجد الحكومة حلاً لأزمتهم.
إعلان رئيس الحكومة عن توجّه لدراسة وإقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة، أعاد إلى الأذهان صورة السلسلة المشؤومة التي استعجلت الدولة بالتكافل والتضامن بين جميع أركانها ومؤسساتها إقرارها كـ"رشوة" للناخبين قبيل الانتخابات النيابية عام 2017، والتي قيل "كذباً" إن كلفتها لن تتعدى الـ 800 مليون دولار، فيما وصلت الكلفة إلى ملياري دولار عند التنفيذ، ما أدى كما هو معروف إلى كسر ظهر المالية العامة والتأسيس للإنهيار النقدي الحالي.
بَيد أن الانهيار النقدي حتّم على الدولة الذهاب نحو تعديل مداخيل العاملين والمتقاعدين فيها بما يؤمّن الحد الادنى للعيش الكريم، ولهذا ضرورتان: الاولى اعادة ترشيق وهيكلة القطاع العام الذي لم يعد ممكنا استمراره بالترهل والبيروقراطية وتضارب الصلاحيات السائدة حاليا. والثانية دراسة معمقة ووافية تحدد بدقة وشفافية قدرة الاقتصاد وحركة النمو السنوي والناتج القومي لمعرفة حجم العائدات والايرادات السنوية الى خزينة الدولة لإبقاء التوازن المالي قائما بين كلفة تشغيل الدولة وقدرة الاقتصاد على تمويلها، كي لا تقع البلاد في المحظور الذي لم تخرج منه حتى الآن، وحتى لا تبيع مواطنيها وموظفيها أوهاماً لا قدرة لها على تحقيقها.
مصدر حكومي أكد لـ"النهار" أنه "لا يمكن الحديث عن سلسلة رتب ورواتب جديدة قبل أن يصار الى إعادة هيكلة القطاع العام ومعالجة نظام التقاعد فيه، وهو ما تعمل عليه "سيغما" من خلال إعدادها دراسة وافية عن الموضوع، علما أنه لا يمكن إقرار سلسلة جديدة قبل أن يصار الى خفض عديد موظفي الدولة ومعالجة نظام التقاعد فيها حتى يكون في مقدور الاقتصاد تمويلها"، مشيرا في السياق الى أن "ثمة نحو 5 آلاف متقاعد عسكري عمرهم 38 سنة". وإذ قدّر عدد القوى العاملة في القطاع الخاص بنحو 500 ألف عامل من أصل مليون و100 ألف، بينهم 200 ألف عمالة سورية، و400 ألف في القطاع العام، سأل: "كيف يمكن لـ500 ألف أن يؤمنوا معيشة 400 ألف عامل؟".
الى ذلك، تؤكد مصادر متابعة أنه "لا يمكن للحكومة والمجلس النيابي اقرار سلسلة للقطاع العام من دون وضع تعديلات جديدة على الحد الادنى للاجور والمكتسبات القانونية التي تحكم العلاقة بين ارباب العمل والموظفين في القطاع الخاص. لذا قد يكون من المستحب توسيع مروحة المشاورات حول سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام وتعديلات على الحد الادنى للاجور في القطاع الخاص ووضع اسس قانونية جديدة ومقاربات لموضوع الاجر عموما وخدمات الضمان الصحي والضرائب والرسوم، لتتماهى مع النظم والقوانين المعتمدة عالميا وتحديدا في الدول المتقدمة". وبذلك يمكن وفق المصادر "التخلص دفعة واحدة من الثغرات والاختلالات التي تعرّض انتظام العمل في القطاعين العام والخاص لإرباكات واضرابات من جهة، وبناء استقرار وظيفي وتقاعدي مستدام يؤمن لطبقة العمال والموظفين الامان الاجتماعي والاقتصادي والآخرة الكريمة".
الخبير الاقتصادي كمال حمدان، قال لـ"النهار" إن "العطاءات والحوافز التي اعطيت للقطاع العام لم تساهم في تحسين القوة الشرائية للموظفين بأكثر من 30% مما كانت عليه قبل الازمة"، مستغربا كيف يصار الى الاعلان عن سلسلة رتب جديدة في بلد انكمش اقتصاده الى نحو الثلث، اي نحو 40% من الناتج المحلي، فيما موازنته للعام 2024 لا تشكل أكثر من خُمس موازنة 2019، اي 3.5 مليارات دولار بعدما كانت 15 مليار دولار. وإذ سأل من أين يمكن تمويل السلسلة الجديدة، استدرك بالقول: "إلا اذا كانت عبقرية الطبقة السياسية ذاهبة نحو اصلاح جذري في النظام الضريبي لتصبح تصاعدية الى مستويات قياسية، وخصوصا ما يتعلق بالغرامات على المخالفات على الاملاك البحرية والسكنية والارباح العقارية، حينها يمكن القول إن ثمة أساساً جدياً استندوا اليه لتمويل السلسلة". وأضاف: "أما اذا كان الامر يتعلق برمي أفكار جزافاً، فإن ذلك لا يستأهل الرد عليها أو مناقشتها".
وأكد حمدان أن اي سلسلة "لا يمكن أن تحافظ على القدرة الشرائية في بلد ارتفعت فيه نسبة التضخم 46 مرة، أي بنسبة 6 آلاف و400%، من دون الاخذ في الاعتبار التضخم التراكمي بالدولار، إذ إن معظم الاسعار ارتفعت بالدولار"، لافتا في السياق الى ان "بوالص التأمين ارتفعت 35% في عام واحد بما ينذر بأن القطاع الصحي في لبنان متجه نحو الاسوأ".
وإذ قدّر عدد اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الاعلى بنحو 30%، قدّر نسبة الفقر عموما بنحو 50%، مشيرا الى أن "نسبة القوى العاملة بأجر تقدر بنحو 60% من مجموع القوى العاملة، في حين أن 40% لديهم مداخيل حرة، وهؤلاء مكّنتهم الدولرة من المحافظة على قدرتهم الشرائية السابقة".
وفي الحديث عن تطور نظام العمل المأجور في لبنان، مقارنة مع الدول الاوروبية، أوضح حمدان أن "العمل المأجور في الدول الاوروبية يصل الى ما بين 80 و85% من مجموع القوى العاملة، في حين أنه في لبنان لا نزال 60%"، لافتا الى أن "الاجور في أوروبا تعادل ما بين50 و60% من الناتج المحلي، فيما عشية الحرب الاهلية كانت نسبة الاجور في لبنان 60% من مجموع القوى العاملة تشكل نحو 40% من الناتج المحلي، وفي 1997 ارتفعت الى 35%، وفي عام 2012 وصلت الى نحو 20%، ومع الانهيار الاخير قُدرت بنسبة 15% من ناتج محلي انخفض من 55 مليار دولار الى 20 مليار دولار".
ورأى حمدان أن "السياسات الاقتصادية والمالية التي تُعتمد بحاجة الى سياسات، فأي مشروع قانون يتطرق الى الاصلاحات تتباين الآراء حوله، ومن ثم يوضع في الأدراج"، معتبرا أن معالجة أي مشكلة بنيوية كالاجور مثلا، "يجب أن تلحظ أولويات عدة، منها اعادة بناء النظام الضريبي واعادة صياغته، إذ لا يعقل أن تبقى 80% من الايرادات ضرائب غير مباشرة".
"النهار"- سلوى بعلبكي
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|