لا يتعامل القطريّون مع الملف الرئاسي أو أيّ ملف لبنانيّ آخر على شاكلة ما يتعامل به الفرنسيون، سواء لجهة الخفّة أو لجهة الثقة الزائدة بالنفس. وإذا كان حلفاء سوريا وأصدقاؤها قد استخلصوا الكثير من العبَر من التجربة السورية - القطرية، فإن الدوحة نفسها استخلصت أيضاً عِبراً كثيرة على مستويين أساسيّين:أولاً، عدم التنطّح للقيام بأيّ دور قبل تلقّي إشارة أميركية واضحة بهذا الخصوص.
ثانياً، الاتفاق مع الأميركيين بأنّ دور الدوحة المتكامل دائماً مع دور سلطنة عمان هو إيجاد حلول منطقية وعملية تعترف بالأحجام الحقيقية لجميع الأفرقاء بعيداً عن منطق العداء والقوة والفرض.
ولا شك في أن أحد عوامل النجاح الرئيسية للقطريّ هو أنه لا يعلن عن مبادرة قبل نجاحها، وأن ما يُعلن عن دوره يكاد لا يصل إلى واحد في المئة من حجم هذا الدور، متجنّباً الصخب الذي يحيط به الفرنسيون أنفسهم.
وفي هذا السياق، استبدل القطريون، بهدوء شديد، المدير العام للأمن العام بالإنابة اللواء الياس البيسري بقائد الجيش جوزف عون مرشحاً رئيسياً إلى رئاسة الجمهورية. وانطلقوا في ذلك من ضرورة حصول أي مرشح على «موافقة أولية»، أو «عدم ممانعة» في المرحلة الأولى، من ثلاثة أفرقاء بالدرجة الأولى، هم: حزب الله والرئيس نبيه بري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، يليهم «تكتل الاعتدال الوطني» والنائب السابق وليد جنبلاط. وعندما تنضج الظروف الداخلية والخارجية التي تسمح بانتخاب رئيس، يتقدمون بمبادرتهم إلى المرحلة الثانية التي لم يحن أوانها بعد.
ومن نافل القول إنه يستحيل عزل الملف الرئاسي عن الملف الاقتصادي والبرنامج الوزاري للحكومة المقبلة وعن التوازنات والنفوذ في المنطقة. كما لا يمكن التصرف مع الرئاسة الأولى التي تنبثق من توقيعها كل السلطات كأنّها شأن خاص بطائفة. وهو ما دفع القطري إلى «تثبيت عدم ممانعة وصول البيسري» مع كل من الأميركي والحزب وباسيل، ليركّز على بري الذي تصف مصادر ديبلوماسية مطّلعة زيارة مستشاره السياسي علي حسن خليل للدوحة بأنها جيدة جداً، في انتظار زيارة مماثلة لجنبلاط في 25 أو 26 آذار، فيما لم تستجب الدوحة لرئيس القوات اللبنانية سمير جعجع الذي طلب موعداً لوفد قواتيّ.
هكذا، في ظل الحرص الأميركي - الإيراني على التهدئة، وأخذ المصالحة الإيرانية – السعودية مداها، وتأكيد حزب الله أن لا رغبة أو نيّة لديه بفرض رئيس للجمهورية، وتكرار الديبلوماسية السعودية القول إن المطلوب سلطة سياسية غير استفزازية بجميع مكوناتها لا «رئيس لكم ورئيس لنا»، كان المسار القطري يعبّد الطريق بهدوء من المتحف، حيث المديرية العامة للأمن العام، إلى بعبدا... قبل أن يحرّك الإماراتي فرقة التدخل السريع الخاصة به ليسقط بمظلّته الإعلامية ترشيح جورج خوري.
الرئيس نجيب ميقاتي، الذي يتزعم المتضرّرين والمتذمّرين من الدور القطريّ كونه ينهي دوره، كان أول من طرح الاسم بوضوح خلال استقباله الرئيس سعد الحريري، موحياً لزائره بأن الرئيس بري مستعد للسير فيه بعدما تخلى عن ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية. لكن الحريري الذي راجع في الأمر، فهم بسرعة أن ميقاتي هو من يرشح خوري وليس بري، وأنه يزجّ باسم الأخير لإضفاء جدية على الترشيح. وبالفعل، حاول رئيس الحكومة، بعد أيام، في غداء جمعه مع فرنجية على مائدة شقيقه طه ميقاتي «لملمة» هذه الخبرية.
بعد ميقاتي، كرّت سبحة التسريبات المدروسة من مطابخ أبعد ما تكون عن بري تنسب إلى الأخير قبوله بخوري، في وقت كانت فيه الاتصالات القطرية برئيس المجلس تقطع أشواطاً في ما يخص البيسري. مع ذلك، لم يبدِ الأخير أي رغبة بإيقاف هذا الجو، تماماً كما فعل مع مبادرة «تكتل الاعتدال» قبل بضعة اسابيع، وكما يفعل دائماً حين يفسح المجال أمام من «يُلاعبه» لكشف أوراقه كاملة. وهو حقق، هنا، نقطة كبيرة حين تجاوز ترشيح خوري نادي المنتفعين مباشرة من الإمارات ليستقطب بعضاً من أقرب المقرّبين من قائد الجيش جوزف عون الذين وجدوا أن الفرصة تبتعد عن عون وتقترب من خوري، فسارعوا إلى القفز من مركب الأول إلى مركب الثاني. ويتقدم هؤلاء مدير المخابرات السابق طوني منصور الذي يشكل العمود الفقري لكل طموحات عون وممارساته. صحيح أن العلاقة وطيدة جداً بين عون ومنصور، إلا أن علاقة الأخير بخوري أيضاً وطيدة، وذات أقدمية. إذ إن خوري عندما كان مديراً للمخابرات، عيّن منصور مسؤولاً عن الأمن القومي والعلاقة مع السفارات الأجنبية، ما مهّد له الطريق بالتالي ليس فقط لتولّي مديرية المخابرات، بل أيضاً لإقامة علاقة «استثنائية» مع السفارة الأميركية، كما بدا حين خصّته السفيرة الأميركية السابقة دوروثي شيا بزيارة في منزله في راشيا عشية الانتخابات النيابية الأخيرة وأمضت في ضيافته أكثر من ست ساعات. وبالتالي، ليس تفصيلاً إذا ما كان عرّاب جوزف عون عند الأميركيين قد فعّل ماكينته لمصلحة خوري.
مع ذلك؛ ورغم امتلاك الإماراتي أدوات إعلامية نافذة، بدأت منذ نحو أسبوعين حملة تسويقية كبيرة، فإن التعاطي بجدية مع طرح اسم جورج خوري دونه صعوبات. إذ إن من يقولون دائماً إنهم لا يريدون تكرار تجربة ميشال سليمان، إنما يقصدون خوري بالتحديد:
عندما وضع مدير المخابرات السابق ريمون عازار نفسه بتصرف وزارة الداخلية في 29 آذار 2005، بعد أسبوعين من اغتيال الرئيس رفيق الحريري، سارع خوري - كما يروي لـ«الأخبار» أحدّ المقربين منه - إلى زيارة دمشق للقاء العماد آصف شوكت قبل يوم واحد من إنجاز الانسحاب السوري من لبنان (26 نيسان). بعد ثلاثة أيام من تلك الزيارة، ويومين من انسحاب الجيش السوري واستخباراته من لبنان، عُيّن خوري مديراً للمخابرات في 28 نيسان 2005. وللمفارقة، فإن من عيّنه - بناءً على طلب قائد الجيش يومها ميشال سليمان - كانت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي شُكّلت لثلاثة أشهر فقط لإنجاز «التسليم والتسلّم» بين محورين، من الرئيس عمر كرامي إلى الرئيس فؤاد السنيورة. ولم يكن «التسليم والتسلّم» سياسياً فقط، إنما أمنياً أيضاً. إذ أُخرجت المؤسسات الأمنية، ولا سيما قيادة الجيش ومديرية المخابرات وقوى الأمن الداخلي من مكان ووضعت في مكان آخر، بواسطة سليمان وخوري والنائب أشرف ريفي وآخرين. وكانت السنوات الثلاث التي أمضاها خوري في المديرية حافلة؛ من إخراج الجيش اللبناني من «المسار والمصير» المشترك مع الجيش السوري وإدخاله في دائرة التعاون المباشر مع القيادة الوسطى في الجيش الأميركي، مروراً بحرب نهر البارد وتهريب شاكر العبسي ومجموعات تكفيرية أخرى إلى سوريا. بمعنى ما، كان خوري «وسام الحسن» الخاص بقيادة الجيش، لكن من دون عقدة جوني عبدو لجهة الأضواء ونسب البطولات لنفسه، وهو لعب الأدوار الأمنية الرئيسية التي عبّدت الطريق إلى بعبدا أمام مديره المباشر قائد الجيش يومها العماد ميشال سليمان. وفي 9/9/2008، بعد انتخاب سليمان رئيساً ببضعة أشهر، غادر المديرية، وردّ الأخير الجميل بتعيينه عبر حكومة السنيورة بعد ذلك بيومين فقط (11/9/2008) سفيراً للبنان في الفاتيكان من خارج الملاك.
مشكلة جورج خوري مع القوى السياسية يمكن اختصارها بالاتي:
- تتحفظ القوات اللبنانية عليه كونه كان مديراً لمكتب المخابرات في صربا عند تفجير كنيسة سيدة النجاة (الواقعة ضمن نطاقه) الذي وضعت استخبارات الجيش يدها بسرعة على مسرحه، قبل أن يوقف رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ويسجن بسببه. خلال تلك المرحلة، كان خوري يتردّد على بكركي لتبرير التوقيفات و«شرح موقف الدولة»، ويصعب على جعجع ان يقدم إشارة إيجابية واحدة بشأن خوري ربطا بملف الكنيسة.
- يبتعد حزب الكتائب عن خوري ايضا. برغم ان الاخير حاول الحصول على «بركة» الرئيس أمين الجميل الذي زاره اخيرا لتذكيره بأنه هو من قلّده السيف في المدرسة الحربية. لكن موقف الكتائب منه لا يزال سلبيا ربطا بمرحلة الـ 2005.
- يملك خوري صداقات في عالم الأمن، وخصوصاً في الإمارات، لكن ليس لديه حلفاء في لبنان باستثناء الرئيس السابق ميشال سليمان. اما «نواب التغيير» الذين يتأثرون بالإمارات، فليسوا في موقع من يمكنه التصريح بصوت مرتفع بأن رجلاً أمنياً متقاعداً منذ أكثر من 15 عاماً هو مرشحهم المنتظر إلى رئاسة الجمهورية.
- يمكن لبكركي أن تورد اسم خوري ضمن لائحة طويلة لكبار الموظفين الموارنة، لكنها تعرف أن القصر الجمهوري يحتاج إلى رئيس لا إلى مدير عام مساعد.
- لا يبدو ان الرئيس بري سيتخلى عن فرنجية لمرشح الإمارات طبعاً. فيما حزب الله واضح وجازم ونهائي بأنه لن يقبل بوجود ميشال سليمان ثانٍ في بعبدا. اما بالنسبة للتيار الوطني الحر، فان خوري لا يستوفي اي نقطة من ورقة الأولويات الرئاسية.
المسار القطريّ ثابت وواضح وعقلانيّ حتى الآن، بغضّ النظر عن خواتيمه أو الألغام المخفية التي يمكن أن تظهر لاحقاً؛ «الخماسية» تستعمل كورقة ضغط في مواجهة ضغوط الحزب حتى يقول القطري إن ثمة حدوداً تنازلية لا يمكنه تجاوزها؛ حتى جعجع يحاول أن يقدم خطاباً جديداً يعكس التطورات الحقيقية في المنطقة. من يملك شيئاً لا يريد أن يخسره في لحظة التحوّلات بكل ما يتخلّلها من بيع وشراء. أما من لا يملك شيئاً فلا يخشى من خسارة شيء، ويمكنه أن يتسلّى.