عربي ودولي

محمد بن زايد… أدهى دهاة العرب

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

ليست الإمارات دولة عادية تعيش في محيط عادي قد لا يخرق صفوه إلا كثرة الملل وكثرة الضجر. وليست أيضًا جزيرة معزولة ترقد في آخر بحار الأرض، حيث لا يزورها من الزائرين إلا أولئك الذين يحترفون المغامرات ويشتهون الاسترخاء ويمتهنون السياحة والسفر.

الإمارات هي دولة بُنيت في قلب الجحيم. في واحدة من أكثر بقاع الدنيا تغولاً وشراسة ونزاعًا وتوترًا. ولدت محكومة بالجغرافيا ومحكومة بالتاريخ ومحكومة بنزاعات أبدية وصراعات توسعية ومشاريع لا ناقة لها فيها ولا جمل. حالها في ذلك كحال الذي يمشي وكأنه ينزع لغمًا من تحت قدميه.


كان مُقدرًا لها، بل ومحتمًا عليها، أن تظل الوجه المشابه والمماثل لكيانات مترنحة ودول فاشلة وهويات متلاطمة وقبائل متناحرة وشعوب متذابحة. ولو كان لنا أن نستحضر من الأمثلة مثالاً، لوجدنا أن في التجربة اللبنانية ما يكفي ويزيد، لندلل على التشابه الذي قد يلامس حد التطابق في جذر الدولتين، وعلى الاختلاف المبين في النتائج. وهنا تمامًا تكمن حكمة زايد، وتكمن حكمة عياله من بعده. والحكمة هنا ليست نافلة من النوافل، بل فرض عين لا بد أن يُمارس كلما طلعت الشمس وكلما غابت.

قبل نجاح التجربة الاماراتية، كان لبنان شرفة العرب وسويسرا الشرق، وقد بدأت حكايته تلك حين اتفق اللبنانيون بكل صدق وبكل عقل وبكل حكمة على تحييده في صيغتهم وفي ميثاقهم الوطني، أرادوه لا شرقًا ولا غربًا، بعد أن أدركوا حساسية تركيبته وفداحة موقعه، وقد ساعدهم في ذلك هدوء المنطقة وتفهمها آنذاك، لكن الأمور ما لبثت أن تدحرجت على نحو صاروخي، وصولاً الى الحال الذي صارت لاحقًا عليه، حيث فقد لبنان مدماكين من اساسات وجوده واستقراره وازدهاره: الحياد والحكمة.

الامارات بدأت من نقطة سقوطنا وسقوط غيرنا. أدركت تمامًا أن القواسم والهموم المشتركة بين البلدين تكاد تكون متطابقة. من مفهوم الدولة الحاجز التي ترزح بين دول توسعية، الى واقع الأيديولوجيات المتراطمة والأنظمة العسكرية التي قامت فوق بحر من الدم وجبال من الجثث، ناهيك عن الوصايات الخبيثة التي يفرضها الأشقاء وفق منطق الأخ الأكبر.

من احتلال الجزر الاماراتية إلى جنون اجتياح الكويت، مشت الإمارات في حقل مرعب مدجج بالألغام. أي خطأ في الحسابات يشبه الى حد كبير العبث بأصابع المتفجرات. حيث أن الخطأ الأول هو دائمًا الخطأ الأخير.

إلى جانب واقع شديد التعقيد، كان ملف النفط سيفًا ذو حدين، فبقدر ما يُشكل رافعة كبرى في السياسة وفي الاقتصاد، بقدر ما يُشرع الأبواب أمام الأطماع والوصايات والتدخلات وتحديق العيون، وهذا ما أضاف إلى الدولة الوليدة حملاً هائلاً ليس يحمله حينذاك إلا قلة قليلة من المغامرين والشجعان.

استطاع الأب المؤسس أن يسلك هذا الدرب الوعر. وقد ظل يردد أن المستحيل لا يعدو كونه مجرد وجهة نظر. وأن القيامة المشتهاة منوطة بالفهم العميق لتوازنات المنطقة والعالم، وبالقدرة على اجتراح الحلول وتدوير الزوايا، وصولاً إلى النهضة الصاروخية، التي لا بد أن تظل محصنة بالحكمة والتعقل والادراك المستدام للواقع والواقعية.

مثل هذه الدول لا تُبنى بالارتجال ولا بالشعبويات ولا بالصراخ فوق المنابر ولا بمنطق الثأر أو التصلب أو العدميات. ومن هنا تحديدًا يُمكن لنا أن نفهم جنوح محمد بن زايد نحو سياسات قد تثير حفيظة الكثرة الكاثرة، لا سيما إزاء ملفات وقضايا مركزية، والتي تقف في مقدمتها فكرة السلام الابراهيمي، ثم إعادة الانفتاح على النظام في دمشق، ناهيك عن الخروج من حرب اليمن، وإعادة رصف العلاقة المتوترة مع طهران، وصولاً إلى استضافة أحد كبار رجالات حزب الله، بعد قطيعة لامست حدود الاصطدام العنيف والاشتباك المباشر.

لا يُمكن أن نفهم هذه السردية خارج إطارها العام، حيث لا يستوي لدولة مثل الامارات أن تذهب بعيدًا في لعبة عض الأصابع أو تكسير العظام، بقدر ما يتوجب عليها أن تركن إلى سياسة تصفير المشاكل، أو تقليصها على النحو الممكن والمتاح، بعيدًا من منطق الرؤوس الحامية والسياسات المشتعلة، التي لن تورث أصحابها إلا الانغماس في مسار الانحدار، وصولاً حتى القاع السحيق.

محمد بن زايد هو رجل عاقل وفطن وحكيم. يدرك تمام الإدراك أن بلاده بُنيت بمشقة كبرى لتكون جُرمًا في مدار الحضارات، لا حلقة في متاهات الذات الدائرية، على ما يقول الساحر سمير عطاالله، وهذه المشقة الكبرى لا بد أن تُستتبع بمشقة مستدامة، للحفاظ على ما وصلت اليه البلاد، ولقطف مزيد من التفوق والنجاح في منطقة صارت ترزح برمتها في مستنقعات الفشل والعشوائية والعدمية والانسحاق.

باكورة اهتمامي بهذا الرجل انطلقت عبر الصخب الهائل الذي اثارته الصحافة العالمية عن دور رأس الدبلوماسية الاماراتية في تدوير الزوايا وصناعة السياسات، بل وعن قدرته الرهيبة في الولوج عميقًا الى مطابخ السياسة الدولية وكواليسها، على نحو لم يسبقه اليه أحد، وأذكر تمامًا أن كبريات الصحف الأميركية راحت تتحدث وقتذاك عن محمد بن زايد باعتباره رجل الظل الخارق الذي ساهم على نحو شديد التأثير في حمل دونالد ترامب من بيته إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.

قبل أيام قليلة، سألت كبيرًا من كبار الحبر والسياسة. ما قولك في محمد بن زايد؟ أجاب: كان عمر بن الخطاب اذا رأى معاوية بن أبي سفيان قال هذا كسرى العرب، نظرًا لشدة فطنته وحدة ذكائه ودهائه وقدرته الاستثنائية على تقدير الأمور. ولو كان لي أن أقول في بن زايد، لقلت الشيء نفسه، ثم أضفت بلا تردد: بل وواحد من أدهى دهاة العرب.  

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا