"ولاد بديعة" و"مال القبّان": دراما العنف السوري العميم
صادقٌ كلّ هذا العنف الذي استرسل فيه كاتبا مسلسلَيْ “ولاد بديعة” و”مال القبّان” السوريَّين يامن حجلي وعلي وجيه. المسلسلان تعرضهما منصّة “شاهد”. والنصّان مكتوبان على طريقة كوينتين تارانتينو وأوليفر ستون ومارتن سكورسيزي. وقد يكون نقطة في بحر العنف السوريالي، بل الإجرام الدائر في شوارع سوريا وسجونها ومعتقلاتها وبيوتها وحدائقها وحواريها وحواجزها.
لعلّ مسلسلَيْ “ولاد بديعة” و”مال القبّان” السوريَّين إعلان صريح عن حجم العنف الذي بات يملأ المجتمع السوري في السنوات الأخيرة. وهما مسلسلان شجاعان في هذا المعنى. خصوصاً أنّه تمّ تصويرهما في سوريا تحت عيون النظام وبموافقته.
صحيح أنّ نسب العنف وحوادث الإجرام ارتفعت مع اندلاع الثورة السورية في 2011، إذ طال الإجرام حتى الجثث الميّتة التي مُنعت من إكرامها، أي دفنها. لكنّ لهذا العنف مدرسة ونظاماً وثقافة كانت تُزرع، كما يُزرع الخوف والفساد، في نفوس الأطفال في المدارس حيث ينشأون على العسكرة والقمع والخنوع. فتحوّل العنف من ممارسة أمنيّة إلى ممارسة مجتمعية لم ينجُ منها أحد في العمق. وإن كان هناك معارضون كثر لها ونابذون لها. لكنّ سوريا قد تحتاج إلى عشرات السنوات كي يتفكّك هذا العنف من نفوس المواطن وذكرياته وسلوكيّاته.
تصفية حسابات
بعد الثورة تحوّلت سوريا إلى خربة وساحة حرب همجية ومساحة لتصفية الحسابات ارتُكبت فيها جرائم ضدّ الإنسانية. تماماً كما تحوّلت محطة القطارات القديمة المهجورة في مسلسل “ولاد بديعة” (إخراج رشا شربتجي) إلى تصفية حسابات الأخوة شاهين (سامر إسماعيل) وياسين (يامن الحجلي) وسكّر (سلافة معمار) ومختار (محمود نصر). من دون أيّ رقيب أو حسيب ولا قضاء ولا قانون ولا حتى أجهزة أمن. هذه المنطقة المهجورة الصدئة، التي أعطت المَشاهد بُعداً إخراجيّاً بديعاً لأنّها موظّفة في مكانها الصحيح بعيداً عن الحيّز المجتمعي المشترك، تمثّل سوريا خلال الحرب. سوريا التي أصبحت لسنوات مضت، مقبرة كبرى تمارَس على أرضها شتّى الحروب وتصفية الحسابات بأسلحة جميع أنواع المخابرات في العالم والجماعات المتطرّفة.
إذا انطلقنا من أنّ الدراما تعكس المرحلة التي يعيشها الكاتب والمخرج والفنّان، فكاتبا مسلسل “ولاد بديعة” و”مال القبان” يامن الحجلي (1984) وعلي وجيه (1985) ولدا في عزّ النظام الأمنيّ السوري. وشهدا حرباً شرسة تعتبر من الأعنف في التاريخ في بلادهما. وعاشا في ظلّ مجتمع يطبّع مع العنف مجبوراً. وفي حال قرّر الرفض أو الاعتراض كان يُقطع لسانه أو رأسه. والجريمة على أرضهما سبقت الدراما التي يكتبانها.
في تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان في 2023، فإنّ “حوالى 29 ألف امرأة قُتلن في سوريا منذ آذار 2011، معظمهنّ قضين على يد أجهزة أمن النظام السوري. بينهنّ 117 إمرأة بسبب التعذيب. ما عدا حوادث العنف الجنسي التي وصلت إلى 11 ألفاً و541 حادثة غالبيّتها على يد النظام السوري. وكان شارك في حفلات الإبادة هذه تنظيم الدولة الإسلامية وقوات التحالف الدولي وهيئة تحرير الشام”.
واقع العنف فاق كلّ متخيّل
هذا نموذج صغير وموثّق لحفلات العنف التي لا تعدّ ولا تُحصى في سوريا. فلِمَ استغراب بعض المَشاهد العنيفة في مسلسل تلفزيوني يعرف كلّ مشاهديه ما حصل ويحصل على أرض الواقع. خصوصاً منذ عام 2011، عبر مواقع التواصل وعبر الأخبار العاجلة. وقد رأى العالم مباشرة بأمّهات العيون فيديوهات الذبح والاختطاف التي صوّرتها المجموعات المتطرّفة وقصف المدنيين بالبراميل.
أقلّ ما يمكن أن تُكتب روايات ومسلسلات وأفلام سينما حول الواقع السوري بالدم والتعذيب. قد يقول قائل إنّ تأثير الدراما التي نشاهدها في بيوتنا الدافئة وعلى كنبة مريحة وبجرعات مكثّفة، وقعها أكبر علينا من الحقيقة. لكنّ الواقع السوري المأزوم الغارق بالدم تخطّى أيّ متخيّل وأيّ إبداع ويفوز على أيّ نصّ درامي.
منذ بدآ الكتابة اختار الحجلي ووجيه الخطّ الدراميّ الاجتماعي الواقعي الذي يبدأ من القعر والأحياء الشعبية والطبقات الفقيرة المسحوقة والمُستغلّة من قبل مافيات الفساد وأصحاب النفوس المريضة الجشعة الطمّاعة التي تعبُد المال. أعمال اعتمدا فيها مبدأ الصدم والإثارة والتشويق والتطرّف في العنف… وذلك منذ كتبا “عناية مشدّدة” و”على صفيح ساخن”، والعام الماضي “مع وقف التنفيذ” وصولاً إلى “ولاد بديعة” و”مال القبان” اللذين يحصدان أعلى نسبة مشاهدة في رمضان 2024 ويثيران الجدل حول نسب العنف المرتفعة فيهما.
تحسب لهذين الكاتبين أنّهما استطاعا بجرأة، وإن تحت أنظار الرقابة وأجهزة الأمن السورية، أن يثورا على تاريخ الدراما السورية المُبالغة في الأخلاقيات والمثاليات والقيم. وقد يكون “ولاد بديعة” تحديداً هذا العام، وقبله “كسر عضم” (كتابة علي الصالح وإخراج رشا شربتجي)، محطة مفصلية في تاريخ الدراما السورية الجديدة بعد سنوات من التخبّط والمباشرة.
فقد بدأت الدراما السوريّة التحرّر اليوم، نوعاً ما، من الطهارة والتقديس والتجميل للواقع ومسلسلات العائلات السعيدة والبلاد الهانئة والمواطنيّة الزائدة التي فاضت من على الشاشة في المسلسلات التاريخية والوطنية التي تتناول الاحتلال الفرنسي أو العثماني أو تذهب إلى السِير الذاتية لأبطال من العالم الإسلامي والعربي مثل الظاهر بيبرس وهارون الرشيد وصلاح الدين.
نجح المسلسل في بيع مشاهد العنف وبناء الشخصيات والاشتغال على إخراج المشاهد وسياق الأحداث وإدارة الممثّلين، وإمتاع المُشاهد. لكنّه لم يذهب أبعد من ذلك
وإن كنّا نرى تدخّلات النظتم مثلاً في إدخال الضابط “النزيه”، والمحقّق، وسجن النساء “اللطيف”، وبشكل نافر وفي غير مكانه في “ولاد بديعة”. كما نرى تدخّلاته في “مال القبان” في الحديث عن الثورة وإخفاقاتها. ونرى أنامله الخفيّة في “تاج” وإن بطريقة مبرّرة دراميّاً. لكن كما قال تارانتينو فإنّ التدخّل في خيال المؤلّف والحدّ منه هو فعل ديكتاتوري يتخفّى وراء ادّعاءات أخلاقية لا تستند إلى الحقيقة. وهكذا مارس النظام السوري لعشرات السنوات ديكتاتوريّته على الدراما عبر قمع أقلام الكتّاب.
نسخ أو ابتكار؟
إنّما هناك أسئلة مشروعة: هل على المبدع نسخ الواقع كما هو برداءته وفظاعته اللتين يعيشهما المواطن على الأرض وتعب منهما. أم عليه إعادة صياغة هذا الواقع وتفكيكه وتحليله وتقديمه بصيغة أدبية ودرامية محترفة ذات رؤية فنّية متكاملة؟
يمكن القول إنّ يامن حجلي وعلي وجيه تمكّنا اليوم من وضع الإصبع على الجرح وإعادة هذه الصياغة بشكل بديع. خصوصاً أنّهما يبرعان في ابتكار شخصيات درامية فريدة. سواء تلك المريضة ذات البعد النفسي العميق مثل مختار. أم الكوميدية السوداء والخفيفة مثل “السيكي” و”ياسين” و”أبي الهول” و”الوفا”. أو الرزينة الهادئة مثل “هديل”. أو الفاجرة وضحيّة المجتمع العنيف والفقر والذكورية مثل “سكّر”. أم القيادية الانتهازية المجرمة التي تعتمد استراتيجية دقيقة لكلّ شيء مع ربطة عنق وأناقة بارزة مثل “شاهين”.
ماذا وراء العنف؟
نجح المسلسل في بيع مشاهد العنف وبناء الشخصيات والاشتغال على إخراج المشاهد وسياق الأحداث وإدارة الممثّلين، وإمتاع المُشاهد. لكنّه لم يذهب أبعد من ذلك إلى حيثيات الشخصيات وجذورها وخلفيّاتها.
فمن أين أتى كلّ هذا الحقد بين الجيران وزملاء كار الدباغة الواحد والأصدقاء والأخوة؟
ومن أين أتى هذا الفساد وضخامة الأنا والعنف والجشع واللهاث على المال؟
ولماذا القانون غائب إلا في حلقتين أو مشاهد لا تتعدّى العشرة؟
لماذا هذا التفلّت؟
يُحسب لرشا شربتجي، أنّها تعرف كيف تدير الممثّل وتُظهر الجانب الذي يخدم دوره ويخدم السياق والعمل
ولماذا كلّ هذه الشخصيات تعشق رائحة الدم والبارود وتعشق الرقص على القبور التي تقبل سكّانها كما فعلت سكّر (سلافة معمار) على قبر أبي الهول بعدما قتلته وأخيها غير الشقيق ياسين؟ في واحد من أجمل المشاهد وأكثرها تأثيراً وإبداعا في المسلسل.
لماذا يسير القتل كأنّه وردة أو نسيم ربيعي لا أحد يشعر به؟
لماذا هذا العالم مطبّع مع العنف بكلّ أشكاله؟
قد نكون كمشاهدين نعرف الجواب، لكنّ العمل يحتاج إلى أن يكتمل وأن يبني المسبّبات على خلفيّات وأسس وخطوط. ليس المطلوب هنا التعاطي مع الدراما كمادّة مؤدلِجة كما كان يفعل النظام، ولا كمادّة للمعرفة وكأنّها كتاب تاريخ موحّد. بل الدراما كفنّ يمتّع المُشاهد ويبدع ويبتكر عالماً وشخصيّاتٍ وأصواتٍ وألواناً، نحتاج إلى أن نصدّقها من جوانبها كافّة. وكلّما كانت مكتملة العناصر والأحداث والأدوات أمتعتنا أكثر.
قد تكون هذه الخلفيّات ممنوعاً التطرّق إليها، أو اكتفى الكاتبان والمخرجة بأن يمارسا رقابة ذاتية عليها، أو ربّما تركوها للجزء الثاني من المسلسل؟
يُحسب لرشا شربتجي، التي تُعتبر اليوم من الأفضل بين مخرجي الدراما العربية، أنّها تعرف كيف تدير الممثّل وتُظهر الجانب الذي يخدم دوره ويخدم السياق والعمل. وفي “أولاد بديعة” نجحت في إمتاعنا. من خلال توظيف المشاهد والخطوط الدرامية المتعدّدة في مكانها من حيث أماكنها وديكوراتها وأزيائها. وفي حبس الأنفاس وتشويقنا كمشاهدين على الأقلّ في الخمس عشرة حلقة الأولى.
لكن يؤخذ عليها المباشرة في تصوير العنف بشكل مبالغ فيه ومباشر إلى حدّ الاستسهال. مثلاً عندما تقطع يد نظمي (هافال حمدي) أو عندما يعدم مختار القطط الثلاث في محطة القطارات. كان يمكن الاستغناء عن هذه المباشرة الحادّة واستبدالها بالرسم مثلاً في حالة مختار الذي كان في بداية المسلسل بارعاً في الرسم.
في “ولاد بديعة” كما في أفلام تارانتينو مثل “كلاب المستودع”، تمجيدٌ للعنف المدمج بالكوميديا أو السخرية والنقد الاجتماعي
وكان يمكن استبدال مشاهد أخرى باللعب على الإضاءة والمونتاج وأدوات تعبير الوجوه وحركات الأجساد من دون تقطيع الأجساد أو الغرق بالدم أو الاغتصاب أو الضرب المبرّح المزعج. كما فعلت مثلاً في مشهد الرقص على القبر. فهو مشهد قويّ معبّر لم نرَ فيه تنكيلاً بالجثّة أو نقطة دم… فالبعد عن المباشرة في العنف يكون أكثر صدقاً ومؤثّراً عندما نحيل هذه الممارسات إلى أدوات تعبيرية حسّيّة وعوامل خارجية فنّية تنقل حالة أو حدثاً أليماً. فالتخفيف من العنف، وإن اعترفنا بأنّه موجود وبكثرة في الحياة العادية، لا يُفسد في المسلسل متعة. والتفكير في أدوات إخراجية أكثر ابتكاراً كانت لتُضفي على عمل شربتجي لمعاناً.
لكن يبدو واضحاً تأثّر الكاتبين، ومعهم المخرجة، بسينما هوليوود وموجات العنف المباشرة التي طغت على أفلامها في تسعينيات القرن العشرين. وهم متأثّرون تحديداً بأفلام تارانتينو وسكورسيزي وأوليفر ستون وخطوطهم المشهدية العريضة والإجرام المبرّر وغير المبرّر. ففي “ولاد بديعة” كما في أفلام تارانتينو مثل “كلاب المستودع”، تمجيدٌ للعنف المدمج بالكوميديا أو السخرية والنقد الاجتماعي.
“نحنا بزمن الوسخ وما حدا بدّو ينظف”، يقولها عزّت (وضاح حلوم) السكّير الذي يرفض بيع مبادئه. وفي “ولاد بديعة” كما في فيلم “قتلة بالغريزة” الكثير من مشاهد العنف والقتل والتنكيل والهواجس الساديّة، فيأخذنا العمل إلى تهميش الإنسانية وإعلان موت الإنسان في المجتمع السوري… في مجتمع وحشي يحكمه الرأسمالي والطمّاع والزائف الذي لا يأبه لمن يتألّمون حوله.
رنا نجار- أساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|