لماذا يخاف دريد لحام من المخابرات؟
لم يخترع الممثل دريد لحام، العجَلة، ولا اكتشف النار، في تصريحه الأخير بأنه يخاف من المخابرات السورية. بل يكرر فقط ما يعرفه السوريون من موالين ومعارضين ورماديين، لأن ذلك الخوف من الدولة الأمنية هو المحدد الأساسي لعلاقة الأفراد بالسلطة الحاكمة على كافة المستويات، الدينية والسياسية والاجتماعية، والتذكير به هو عنصر حاضر في كل ما يقدمه "نجم سوريا الأول" في لقاءاته ومسلسلاته، والشهير بعلاقاته المتينة مع النظام السوري وتصدير البروباغندا الرسمية.
وهذه ليست المرة الأولى التي يصرح فيها لحام (90 عاماً) بأنه يخاف من المخابرات السورية، بل كان له تصريح شهير العام 2021 في ندوة على هامش مهرجان الإسكندرية السينمائي بمصر، قال فيه بدراماتيكية أثارت حنق المتدينيين ضده حينها: "أخاف من المخابرات أكثر من الله". والعودة إلى التصريح مجدداً اليوم لا تعني أن النظام السوري يمهد لتغييرات ما، ولا أن هنالك جديداً يحصل في البلاد، بل تعني أن لحام خبير في تقديم الدعاية الرسمية بطريقة ذكية تتفوق على كافة زملائه الفنانين في البلاد.
ويعني ذلك أن لحام يذكّر السوريين ممن يتابعون الحوار معه، بسطوة المخابرات الأمنية، بشكل أقرب للتهديد منه إلى لشكوى. وبحديثه عما تمارسه تلك السلطة المخيفة التي تخفي الأفراد "العاقين"، في المعتقلات التي تسميتها منظمة العفو الدولية "أمنستي" بـ"المسالخ البشرية"، فإنه لا يتحدى السلطة، بل يؤكد أنها مازالت موجودة، ومازالت تمارس كل ما يمكنها من أجل البقاء قوية، ضد مواطنيها بالدرجة الأولى، ممن قد يشتكون من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعتبر الأسوأ على الإطلاق في تاريخ سوريا المعاصر، بحسب لحام نفسه كشاهد على كل ذلك التاريخ شخصياً.
ومع اعتراف لحام الضمني بأن الطاعة وحدها لا تضمن السلامة في بلد التقارير الكيدية، يبقى تحدي تلك السلطة خطاً أحمر يجعل من الفرد صعلوكاً وتافهاً ومثيراً للمشاكل وسيئاً، بحسب تعبير لحام في وصف شخصية "غوار الطوشة" التي اشتهر بها في ستينيات القرن الماضي، والتي تمتلك صفات متمردة على السلطة المتمثلة في مدير المخفر مثلاً. و"غوار" ضمن هذا النقاش، يصبح موازياً للسوريين الثائرين على النظام، ليس فقط العام 2011، بل قبله وبعده على حد سواء. والمبرر لوصفه بالصعلكة والتفاهة والشر، بحسب لحام، هو تصرفاته ومَقالبه، مهما كان الحق الذي يتوهم أنه يمتلكه في لحظة معينة، صحيحاً. ويمكن إسقاط ذلك تباعاً على حق السوريين في وطنهم وحلمهم بحياة أفضل.
ذكاء لحام في تقديم تلك الدعاية يأتي من حديثه الشخصي والبسيط، ذ يبدو كجدٍّ في مجالس السوريين التقليدية، متحدثاً بهدوء بالتلميح والتصريح عن كل ما يعرفه السوريون، خصوصاً عندما يدمج ذكرياته وحياته مع التفاصيل العامة من دون تهجم على أحد، فيما يقدم نظرته السلبية للحريات الفردية، خصوصاً حرية المرأة، التي يجب أن تكون طاهرة وعفيفة وقنوعة وصامتة كي تنال رضا زوجها الذَّكَر المسيطر الذي يمتلك وحده عصمة طلاقها، مهما كان خائناً لها بعلاقات جنسية وغرامية مع أخريات، فيما يتم تمجيد الفقر ككل كحالة رومانسية.
ومن يتابع مقابلات الممثلين السوريين هذه الأيام، خصوصاً إن كان يعيش خارج سوريا، يشعر بأنه ينتقل عبر الزمن إلى الماضي. ولا يرجع ذلك فقط إلى منطق رومانسي يمجد الزمن الغابر باعتباره ذهبياً، خصوصاً في ما يخص الدراما السورية التي لطالما كانت، في جزء معتبر منها، مسيّسة ورديئة وتابعة للسلطة الحاكمة. بل من ناحية أن تلك المقابلات تكرر الأحاديث نفسها مع نفس الأسماء والشخصيات، في ما يخص تعليقاتهم على الأوضاع المعيشية الصعبة مع إحصائيات تفيد بأن أكثر من 90% من السوريين في الداخل يعيشون تحت خط الفقر، بحسب الأمم المتحدة.
وفيما يبدو أن الهدوء يسود سوريا، وأن المشاكل تختفي، عطفاً على هدوء المعارك مقارنة بالعقد الماضي، فإن الثورة والحرب، كحدثين مصيريَين، يبدوان وكأنهما لم يغيرا شيئاً باستثناء تغير بعض الأسماء الوكيلة لأطراف السلطة هنا أو هناك. ربما لأن النظام يتعامل وكأنه تجاوز ذلك المطب، وبدأ يتعافى بالعودة لجذوره التقليدية وأسلوبه الكلاسيكي في الحكم، حتى على الصعيد الدعائي والإعلامي. ووصل ذلك إلى درجة أن المشاكل الاقتصادية والخدمية الطارئة على الحياة السورية، بعد العام 2011، مثل انعدام الكهرباء والمحروقات والأغذية، تحولت إلى "روتين جميل" يضاف إلى جدول الروتين السوري القديم، وباتت معه صُور الطوابير والمتشردين والجوعى والأطفال الملقى بهم في حاويات القمامة، خالية من الصدمة وعديمة التأثير، في حال نشرها أصلاً، لأن النشر نفسه بات جريمة يعاقب عليها القانون المحلي.
وبحديث لحام عن أن الفقر كان حاضراً في سوريا منذ طفولته، من دون الإحساس به بسبب حنان الأب والأم، فإنه يمجد الفقر كأسلوب حياة، أو القول بأن الفقر الحقيقي ليس الفقر المادي بل الفقر الفكري والحضاري والأخلاقي، وغيرها من الأفكار الضحلة التي تصور الشعور بالفقر والمطالبة بحياة أفضل كأنهما خطيئة ومشكلة في التربية المنزلية غير الوطنية، بشكل يميع الموضوع الأساسي المتعلق بانهيار الاقتصاد السوري بعد العام 2011، بسبب سياسات النظام السوري الاقتصادية بالدرجة الأولى.
وبالطبع فإن الأنظمة الاستبدادية مثل النظام السوري، تميل إلى تكريس الجمود كأسلوب حياة لشعوبها، لأن ذلك الجمود والملل اليومي، حتى على صعيد الحياة الشخصية، يتحول إلى يأس من إمكانية التغيير أو تحدي السلطة. ولحام، الطاعن في السن، يقدم "عصير خبرته" للجمهور، كشخصية حكيمة عايشت التاريخ السوري المعاصر ككل وتقلباته سياسياً. يقدم تلك "الحكمة" التي تقتضي أن يكون الفرد سلبياً وقانعاً وراضياً بسوء الحياة من حوله، من دون رغبة في التغيير، من منطلق سخيف يقول بأنه لا يمكن تذوق الحلو من دون المر ولا الشعور بالعدالة من دون وجود الظلم، وغيرها من العبارات التي لا تبرر فقط واقع البلاد التي يحكمها حزب البعث وعائلة الأسد منذ عقود، بل تجعل ذلك الواقع المأساوي جميلاً يرادف الألم العبقري الذي كان حاضراً في الرومانسية الأدبية في القرن الثامن عشر!
لكن لا يمكن تأمل ما هو مختلف من رجل تجاوز التسعين من العمر، وكان طوال حياته ربما يقدم الدعاية الرسمية على أنه واحد من النخبة المثقفة في سوريا. فيما لم يحافظ على مصداقيته منذ العام 2011، عندما تخلى عن المواطن السوري الفقير والمسحوق الذي لطالما تحدث باسمه في أعماله الفنية، وأعلن ولاءه التام للسلطة. أما المزعج والمثير للسخرية في آن معاً، فهو حديثه في نهاية المقابلة عن كراهيته لـ"الكذب" أكثر من أي شيء آخر في الحياة!
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|