افرام في معراب: الشرق الأوسط يعيش فجرًا جديدًا وعلينا ألا نطيح الفرصة
خطر الموت وجرأة المواجهة... والحريري يستشعر القتل
السمة الأبرز التي سبقت انتفاضة 14 آذار التي توّجت معارضة 2000-2005 كانت الجرأة وعدم الخوف. تجرّأ رفيق الحريري ووليد جنبلاط والبطريرك صفير ولقاء قرنة شهوان و»القوات اللبنانية»، وسمير جعجع في السجن، وكان القرار بالمواجهة واضحاً ومعلناً في ظلّ ما تبقّى من عهد الوصاية السورية وتسلّط أجهزته الأمنية وتوابعها اللبنانية. اليوم ظروف معارضة 2024 مختلفة. ليس كل أطراف المعارضة على مسافة واحدة من الخوف وليسوا يداً واحدة. ولا يمكن أن يتراجع الجميع إلى الخطوط الخلفية لأنّ المرحلة تحتاج إلى من يتقدّم ويحافظ على نبض الشارع وينتظر أن يتقدّم المتردّدون.
عندما اعتقلت سلطة الوصاية السورية رئيس حزب «القوات» سمير جعجع بقيت تتصرّف وكأنّها هي التي تخاف منه ومن «القوات». خلال تنفيذ عملية اعتقاله في 21 نيسان 1994 تحوّلت منطقة غدراس والطريق المؤدية إلى وزارة الدفاع إلى ما يشبه الثكنة العسكرية. كانت السلطة تنفّذ انقلاباً عسكرياً وسياسياً ولكنّها كانت تتصرّف وكأنّها خائفة من انقلاب تنفذه «القوات». عندما بدأت تُعقد جلسات محاكمة الدكتور جعجع كان قصر العدل يتحوّل بدوره إلى ثكنة عسكرية. موعد الجلسات دائماً بعد الظهر بعد إخلاء المباني كلّها من القضاة والمحامين والزوار.
وكان على كل من يرغب بالحضور أن يحصل على إذن مسبق. وعندما كان يُنقل جعجع من سجن مديرية المخابرات إلى العدلية كانت الطريق تتحوّل أيضاً إلى منطقة عسكرية. كل ذلك سهّل لجعجع أن يطلّ على الناس الذين افتقدوه وأحبّوه وخاصموه. المحاكمة نفسها تحوّلت إلى ما يشبه المسرح الذي ينتظره كل هؤلاء. المجلس العدلي والقضاة والمحامون والناس. في اليوم التالي لكل جلسة كان يصير جعجع، الذي مُنعت عنه كل الصحف والإذاعات والتلفزيونات طوال فترة اعتقاله، العنوان الرئيسي في كل الصحف وفي نشرات الأخبار. استعادة الماضي بهذه الطريقة كانت محطة لبناء المستقبل.
بداية التحدي والتغيير
بعد نيسان 2003 بدا وكأنّ كلّ هذا الوضع سيتغيّر. سقطت بغداد وسقط حكم الرئيس العراقي صدّام حسين ووصل الجيش الأميركي إلى الحدود السورية العراقية، وشعر رئيس النظام السوري بشّار الأسد بالخطر يقترب منه. لذلك تمسك بالتمديد للرئيس إميل لحود وتحدّى مع «حزب الله» القرار 1559 معتبراً أنّ الهجوم خير وسيلة للدفاع. ولكن كان الأوان قد فات. صحيح أن آلية أخرى كانت اعتمدت للرد من خلال محاولة اغتيال الوزير السابق مروان حماده في الأول من تشرين الأول 2004 ولكن كل ذلك أسقط الخوف وبدأ التحدي.
في تشرين الأول 2003 توفي الشيخ الروحي للطائفة الدرزية أبو حسن عارف حلاوي. كان وليد جنبلاط الذي انكفأ بعد تفجيرات 11 أيلول 2001 قد تشجّع للخروج من دائرة التردّد فدعا من خلال الدكتور فارس سعيد ستريدا جعجع للمشاركة في الدفن والتشييع وهي لم تتردّد في تلبية الدعوة وسط حشد سياسي وشعبي وفي صورة استقبال كان المطلوب أن تصل إلى سلطة الوصاية. عندما استدعى النظام السوري الرئيسين نبيه بري ورفيق الحريري إلى دمشق لفرض التمديد للرئيس لحود رفض جنبلاط دعوة مماثلة ولم يتردّد في الإعلان عن هذا الرفض وعن تسمية الضباط السوريين الذين كانوا يشكّلون عامل خوف للمعارضين. محاولة اغتيال حماده كانت تعبيراً عن انتقال الخوف إلى الصف الآخر.
لم يتردّد جنبلاط أيضاً في أن يرسل النائب أكرم شهيب إلى منزل ستريدا جعجع في يسوع الملك مع فارس سعيد وأن يوقّع على مشروع قانون العفو الذي كان سعيد ومنصور غانم البون أول الموقعين عليه. صفر خوف جعل أكرم شهيب يشهر مسدسه في وجه سيارة المخابرات التي لاحقته من يسوع الملك حتى طريق النهر في بيروت. وصفر خوف حمل جنبلاط، برفقة سعيد، أيضاً على زيارة ستريدا جعحع في منزل يسوع الملك والمطالبة بإطلاق سمير جعجع. عندما علم الرئيس رفيق الحريري بأنهما سيفعلان ذلك لم يتردّد في القول لسعيد: «أنت ووليد مجانين بيقتلوكم. إذا ما قتلوكم بالطلعة بيقتلوكم بالنزلة». صفر خوف أيضاً جعل الرئيس رفيق الحريري يبادر ليلة عيد الميلاد عام 2004 إلى الإتصال بستريدا جعجع وتهنئتها بعيدي الميلاد ورأس السنة ومتمنياً استعادة الإستقلال وخروج الحكيم من السجن: «انشالله هالسنة تكون سنة خير واستقلال. سلّمي على سمير وانشالله يكون الفرج قريب». وصفر خوف حمل الرئيس الحريري للموافقة على أن يوقّع النائب باسم السبع على مشروع قانون العفو عن جعجع.
السجن الكبير والسجن الصغير
عندما خرج جعجع من السجن في 26 تموز 2005 تحدث من صالون مطار رفيق الحريري في بيروت عن «اللبنانيين الذين خرجوا من السجن الكبير فأخرجوه معهم من السجن الصغير». هذا السجن الكبير كان تحدّث عنه كمال جنبلاط في لقائه الأخير مع رئيس النظام السوري حافظ الأسد في 27 آذار 1976 عندما قال له إنّه يرفض دخول السجن الكبير الذي كان يديره الأسد ويسيطر عليه. وهذا الكلام كلّفه حياته عندما اغتاله مسلحون من النظام السوري في 16 آذار 1977. ومحاولة الخروج من هذا السجن كلّفت الرئيس رفيق الحريري حياته، ورفض الدخول إليه كلّف سمير جعجع 11 عاماً من الإعتقال.
بعد خروج جيش النظام السوري من لبنان في 26 نيسان 2005 بقيت مسألة نزع سلاح «حزب الله» عالقة وهي لا تزال منذ ذلك التاريخ. لا قدرة للسلطة اللبنانية على تنفيذ قرار مجلس الأمن 1559، ولا إرادة لدى مجلس الأمن لتنفيذه. استمرت المعارضة قوية حتى عملية 7 أيار 2008 التي نفّذها «الحزب» في بيروت والجبل. لم تستطع قوى 14 آذار، حتى بعد نيل الأكثرية النيابية في انتخابات 2005 وبعد تشكيل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، أن تتولّى السلطة فعلياً في ظلّ استمرار الرئيس إميل لحود في قصر بعبدا، وفي ظلّ تمسك «حزب الله» بسلاحه وتهديده بقطع رؤوس وأيدي من يفكر بنزع هذا السلاح.
أكد «الحزب» هذا الرفض في حرب تموز 2006 ثم في عملية 7 أيار 2008. بدأ بعد ذلك تراجع المعارضة من الساحات إلى الصالات المقفلة قبل أن يبدأ وليد جنبلاط كما فعل في العام 2001 بالإنكفاء، وقبل أن تبدأ عهود حكومات التسويات بعد تفاهم الدوحة وانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. استطاع الحزب أن يتحكّم بمسار السلطة الرسمية بالتحالف مع «التيار الوطني الحر». وكما فرض الفراغ في رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس لحود فرضه بعد انتهاء ولاية الرئيس سليمان وصولاً إلى فرض انتخاب مرشحه الوحيد العماد ميشال عون. انقلب على حكومة الرئيس سعد الحريري في كانون الثاني 2011 وشكّل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بعدها، ولما بدأت الحرب في سوريا انتقل للقتال هناك وفتح بقوة الأمر الواقع المعابر إلى سوريا لإرسال الأسلحة والمسلحين ولاستقدام التعزيزات من إيران. كل ذلك أضعف المعارضة بعد استمرار ابتعاد جنبلاط إلى الوسطية وخروج سعد الحريري من السلطة وتعليقه العمل السياسي.
سقوط عهد وسقوط انتفاضة
بدل أن يستعيد الرئيس ميشال عون قرار الدولة ويحرّر الشرعية من سلطة «حزب الله»، سلّمه مفاتيح السلطة. كانت انتفاضة 17 تشرين 2019 باباً للأمل بالتغيير ولكنّها سقطت أمام عناد «حزب الله» وتشتّتَت في انتخابات 2022. صحيح أنّ هذه القوى لا تزال قادرة على منع «الحزب» من إيصال مرشحه لرئاسة الجمهورية، إلا أنها لا تزال عاجزة عن إيصال المرشح الذي يمكن أن يشكّل بداية الطريق لاستعادة سيادة الدولة. أحداث ما بعد 7 تشرين الأول الماضي و»عملية طوفان الأقصى» أعادت مسألة المطالبة بنزع سلاح «الحزب» إلى مربع التجاهل والنسيان. تطبيق القرار 1701 الذي لم يكن ممكناً في العام 2006 لا يبدو أنّه ممكن اليوم في ظلّ موازين القوى الداخلية والحرب الدائرة في المنطقة، وفي ظلّ تراخي المجتمع الدولي الذي كان، مع ثورة 14 آذار، وراء فرض انسحاب الجيش السوري من لبنان.
بانتظار انتهاء معارك «الحزب»
أهمية مؤتمر معراب أنه جاء في الوقت الصعب ليؤكّد عدم الخوف من قدرة «حزب الله» على فرض بقاء سلاحه بقوته الذاتية وبقوة الحرب وبالفراغ المستمر في رئاسة الجمهورية وبالتحكم بقرارات الحكومة. وأهميته أنه جاء في الوقت الذي لا تزال قوى كانت أساسية في المعارضة تبحث عن ربط نزاع أو عن ابتعاد عن إثارة أي التباس في تصرفاتها السياسية تجاه «حزب الله».
الخروج من هذه المراوحة يقتضي الخروج من دائرة الخوف. والمسألة تحتاج إلى الخروج من الإسترخاء الدولي الذي يبدو أنه طويل طالما الحرب مستمرة. ليس المهم اليوم تشكيل جبهة سياسية معارضة تلتقي أسبوعياً وتُصدر بيانات، بقدر ما الحاجة ماسة إلى التقاء القوى المعارضة على مواقف موحّدة لا تنزل تحت سقف التمسك بسيادة الدولة وبسلاح الجيش الشرعي الوحيد على قاعدة أنّه إذا لم تكن هناك قدرة على تحرير الشرعية من سيطرة «حزب الله» فلا يجب القبول بالأمر الواقع والتسليم بهذه السيطرة وكأنّها قضاء وقدر، بانتظار أن ينتهي «حزب الله» من حروبه، ولمنع ارتداده إلى الداخل كما حصل بعد حرب تموز 2006 وفي عملية 7 أيار وفي سلسلة الإغتيالات وعمليات القتل التي تلت صدور القرار 1559 واستشعر بها الرئيس رفيق الحريري ولم تخف منها.
نجم الهاشم -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|