التكفيريون الجدد: ماذا تفعل "الحركة" وحلفاؤها في طرابلس؟
في السنوات الأخيرة، تصاعد تأثير خطاب شعبي في طرابلس ينحو نحو الانعزالية، تحت تأثير مجموعات قابلة للاستخدام والطي، كانت قد ظهرت على هامش انتفاضة 17 تشرين، وراحت تسوق فكرة منع بعض السياسيين والمنظمات من دخول المدينة، في محاولة موغلة في الشعبوية لتقديم عاصمة الشمال بصورة العتبة المقدسة العصية على التدنيس.
نمت هذه الفكرة وتوسعت مدياتها نحو إنتاج ثقافة كراهية محلية، تحت تأثير سردية دينية مأزومة عن المظلومية، على وقع التحولات التي أفضت اليها الأزمة الاقتصادية، والمتمثلة بانسحاب النخب السياسية والثقافية من المشهد العام، مقابل صعود فئة اجتماعية جديدة من المؤثرين في عوالم الشوارع والأزقة صار لها تأثير واسع في توجيه الرأي العام.
غداة عملية طوفان الأقصى، تمازجت القضية الفلسطينية مع هذا الخطاب، لتعيد تأويل التراث الديني وإنتاج أشكال هجينة من الرقابة الأخلاقية، تتوسم “الإفراط في الكراهية من أجل الشعور بالوجود”، على حد وصف الروائي الراحل خالد خليفة في رائعته “مديح الكراهية”، وتصب كلها في إطار تعزيز انعزالية طرابلس وخلق فيدرالية فكرية وثقافية.
صورة الصراع الطبقي
بلغ هذا الخطاب ذورته خلال اسبوع واحد عبر رافدين أساسيين:
– الأول طبقي، أعاد تظهير صورة نمطية قديمة لصراع العمال والكادحين مع الإقطاعيين والبورجوازيين الهائمين في ظواهر التغريب.
– والثاني إسلامي أعاد تكتيل الإسلاميين، محافظين ووسطيين وراديكاليين، في كتلة قيمية واحدة رافضة للحداثة الغربية المزعومة المتمأسسة حول الحريات الجنسية.
في 29 أيار، تحول الاعتصام الرمزي الذي نظمه المؤتمر الشعبي الناصري عبر ذراعه الشبابية، بالمشاركة مع اتحاد النقابات العمالية في الشمال، أمام نقابة المحامين في طرابلس، احتجاجاً على استضافتها “أنشطة ممولة ومدعومة من وكالة التنمية الأميركية”، الى محاولة اقتحام النقابة نفسها وتخريبها. بدا الحدث مفاجئاً وخارجاً عن السياق، ولا سيما مع ندرة التحركات الداعمة للقضية الفلسطينية.
لكنه سرعان ما اتخذ، وبشكل مقصود، طابع الصراع الطبقي بين العمال والإقطاعيين، غداة الموقف الشجاع لنقيب المحامين في طرابلس والشمال سامي الحسن بعدم الرضوخ للشعبويات، وإصراره على المضي عبر الطرق القانونية بشكوى ضد المخربين، انطلاقاً من رفضه تكريس سابقة اقتحام النقابة بما تمثله من رمزية حقوقية وفكرية. الأمر الذي عرضه لسيل من الضغوط والبيانات المسكوبة عبر وسائل التواصل لنقابات، بعضها وهمي، رامت تحريض الرأي العام عليه تخوينه والنقابة واتهمامهما بـ”الأمركة”.
في هذا الجو المشحون، قام النائب فيصل كرامي بمبادرة “استثنائية”، فزار على رأس وفد يضم وزراء ونواب ونقباء سابقين، ينتمون الى مشارب سياسية متباينة، لكنهم يمثلون شريحة بارزة وأساسية من النخب الطرابلسية والشمالية، نقابة المحامين للتضامن مع النقيب الحسن، وإسباغ غطاء حماية معنوي لقلعة الحقوق من عبث الغوغائيين. في مكان ما، عززت مبادرة كرامي الصورة المزيفة للصراع بين الإقطاعيين والكادحين، لكنها دفعت بالمخربين، ومن يقف خلفهم من أطراف سياسية وأمنية الى التفكير الجدي في كيفية إنهاء التصعيد.
“اليسار التكفيري”؟
واقع الحال أن الندوة التي استضافتها نقابة المحامين، تندرج ضمن عمل مشترك مع نقابة المهندسين وبعض الفاعلين في المجتمع، لإنتاج دراسة تفصيلية ودقيقة عن الواقع المتردي لمباني المدراس الرسمية في طرابلس، ومحاولة الحصول على تمويل من بعض المانحين الدوليين لإجراء عمليات الترميم قبل حدوث كوارث جديدة. ومن بين هذه الجهات “USAID” التي تمول العديد من البرامج في الوزرات والمؤسسات الحكومية.
هذه المبادرة التي تستبطن تعويض سياسات التهميش الحكومية بحق طرابلس وفضائها الحيوي الممتد حتى الحدود السورية، استفزت بعض الأطراف الحكومية الفاعلة، فاندفعت الى استخدام سلاح الشارع عبر النقابات لإيصال رسالة لـ”USAID” وغيرها من المانحين بعدم إمكانية تجاوزها. بيد أنها أسهمت في الوقت عينه في زيادة حدة الاستقطاب، وتعزيز خطاب الكراهية ضد الآخر سواء كان محلياً برجوازياً أم أجنبياً غربياً. ما حصل سيدفع بالمنظمات الدولية والمانحين الى التفكير عشرات المرات قبل دعم أو تمويل أي برنامج تنموي في مدينة طرابلس، فما بالكم بإرسال ممثلين عنها الى مكان موسوم بإشارة دبلوماسية حمراء منذ سنوات؟
من الملاحظات التي توقفت عندها مصادر سياسية طرابلسية، تعدد الجهات المستفيدة من التحرك. ولا سيما أن قادة العمل النقابي في الشمال ذوو ولاءات متداخلة ما بين حزب الله والأجهزة الأمنية والرئيس نجيب ميقاتي الذي يضع بعضهم على لائحة البايرول الشهرية منذ سنوات. فالأجهزة الأمنية تعاملت مع الحدث ببرود شديد، فيما غاب وزير العمل وأحد ممثلي حزب الله عن التعليق، رغم زياراته المتكررة لطرابلس. فيما الرئيس ميقاتي لم يكتف بعدم إبداء أي موقف متضامن مع نقابة المحامين، بل كذلك غاب أي ممثل عنه ضمن الوفد الذي شكله النائب فيصل كرامي.
أما المفاجأة الصادمة، فتمثلت ببيان الاتحاد العمالي العام ومفرداته الغريبة عن أدبيات الهوية اليسارية التي لطالما عرفت عنه، حيث حيا قادة فرعه الشمالي على “مواقفهم المشرفة في زمن الردة!!”. فهل صار الاتحاد العمالي العام تكفيرياً؟، تسأل قيادات نقابية في المدينة. وهل يعلم معدو البيان بتبعات هذا المصطلح وخطورتها؟ هذه ببساطة تشكل دعوة الى هدر الدم.
اختار المشاغبون، ومن يقف خلفهم، نائب طرابلس “المنسي” جميل عبود، لأنه ليس لديه موقف سياسي واضح من أي شيء، من أجل النزول عن “شجرة التصعيد”، عبر تقديم اعتذار على شكل عملية مصالحة جرت برعاية مفتي طرابلس والشمال محمد إمام. تشير المصادر الى أن إمام كان رافضاً تماماً لما جرى، لكنه امتنع عن اتخاذ موقف علني تماشياً مع السياسة العامة لدار الفتوى بـ”الصبر الاستراتيجي” في هذه الفترة الحساسة في تاريخ السنة.
ما علاقة حماس والإسلاميين؟
الملاحظة الأبرز في عملية المصالحة حسب مصادر سياسية طرابلسية كانت “وجود ممثلين عن حركة حماس وفصائل فلسطينية تدور في فلكها، فما شأنها في عملية تتسم بالخصوصية المحلية؟ هل تقف خلف محاولة تخريب نقابة المحامين؟”. تتوقف المصادر نفسها عند الحضور المتزايد لحماس على الساحة السياسية المحلية، وتعتبر أنه “لم يعد بالإمكان غض البصر عنه، ولا سيما مع توظيفها عشرات اللبنانيين، ذلك أنه يمهد لتحويل حماس الى فاعل سياسي مؤثر على الصعيد اللبناني”.
بعدها بأيام، قامت جمعية بارزة في طرابلس بفرض رقابة أخلاقية “عامة” عبر وسائل التواصل الاجتماعي، على مهرجان للأفلام كان يعتزم “بيت الفن” المملوك من الرئيس ميقاتي تقديمه ضمن إطار فعاليات “طرابلس عاصمة للثقافة العربية 2024″، يتضمن أفلاماً عن الحريات الجنسية والمرأة. كان بإمكان الجمعية الاكتفاء بقنوات التواصل المباشر مع ممثلي الرئيس ميقاتي لسحب الأفلام موضع الاعتراض، لأنها لا تتناسب وثقافة المجتمع الطرابلسي المحافظ، ولا سيما أنها أقرت فيما بعد بأن ممثلي ميقاتي كانوا متجاوبين مع مراجعاتها.
بيد أنها اختارت هذا الأسلوب الفضائحي الفظ عمداً، حيث رامت إعادة إبراز هذه القضية، من أجل تأطير المناخ الإسلامي المحافظ في بوتقة أخلاقية وقيمية واحدة، تفيدها في تعزيز نفوذها وتأثيرها. اللافت أن هذه الجمعية قادت حملة زايدت فيها على الأمن العام الذي منح هذه الأفلام موافقة على العرض، وعلى وزير الثقافة الذي يعد من أبرز الشخصيات الرسمية التي تجاهر بتصديها لهذه الأفكار.
حتى أن الأخير فوجئ بالحملة وغلظتها على أفلام عرضت في مدن لبنانية أخرى، ولا سيما بعدما اتخذت طابعاً راديكالياً خطيراً نتيجة مزايدات وغلو بعض المغردين والإسلامويين، لتشكل تهديداً حقيقياً بالعنف فيما لو قرر “بيت الفن” المضي في مهرجان الأفلام، حسب ردود الأفعال في الشارع الطرابلسي وعبر وسائل التواصل. لكنها في الوقت عينه فضحت حقيقة موقف نجيب ميقاتي من محاولة اقتحام نقابة المحامين.
فالمؤثرون والناشطون أنفسهم الذين كانوا يحرضون ضد النقابة، سارعوا وتكتلوا للدفاع عن ميقاتي. وهؤلاء يشكلون عملياً حزبه الحقيقي منذ عام 2011، لقلة تكاليفه وسيولته وسهولة قيادته.
سامر زريق - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|