نتنياهو يحرج “البطّة العرجاء”: لا حاجة لوقف النّار
اتّخذ الرئيس الأميركي جو بايدن وضعية “البطّة العرجاء” مبكراً، وبدا أخيراً أنّه عاجز عن إدارة مسار الأحداث في الشرق الأوسط أو الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتمرير اتّفاق وقف إطلاق النار.
يستخدم الأميركيون تعبير “البطّة العرجاء” (lame duck) للتعبير عن حال الرئيس حين يبدأ بعدّ أيّامه الأخيرة في المنصب، فيصبح قليل التأثير. لا طائل من إهدائه المكاسب السياسية، بل يصبح هو في موقع اللحاق بالآخرين لتمرير منجزٍ له هنا أو هناك. ولذلك كان من المنطقي أن يقدّم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في جولة المفاوضات الأخيرة في الدوحة تنازلاً آخر لنتنياهو، بعدما أهان الأخير الإدارة الأميركية بإسقاطه المقترحات التي وافق عليها كلّ الوسطاء و”حماس” في جولتَي أيار وتمّوز الماضيتين، بما فيها المقترح الذي أعلنه بايدن بنفسه في 31 أيار الفائت. بعد كلّ هذا، غلّف بلينكن شروط نتنياهو الجديدة بغلاف “المقترح الأميركي المحدَّث”، واضعاً “حماس” تحت الضغط للقبول بها أو تحمّل مسؤولية فشل المفاوضات.
غير أنّ هدف بلينكن كان مختلفاً عن أهداف نتنياهو. فالأوّل يريد التوصّل إلى اتّفاق بأيّ ثمن، والآخَر يعدّل الشروط ويضيف إليها لتوفير الذرائع لإسقاط الاتّفاق، وهذا ما حدث بالفعل.
19% التأييد الإسرائيلي لدولة فلسطينية
في المحصّلة، يشير فشل جولة الدوحة إلى مأزق مركّب من مشكلتين:
1- الأولى قناعة لدى نتنياهو بأنّه قادر على قضم المزيد من المكاسب، سواء في غزة أم في الصراع الأكبر مع إيران، من دون أن يواجه عواقب ردّ كبير تلوّح به طهران ولا تنفّذه، ومن دون أن تتمكّن الإدارة الأميركية من الضغط عليه.
2- الثانية عدم وجود استراتيجية أميركية لمواجهة إيران أو احتوائها أو رسم حدود دورها في الإقليم، فضلاً عن غياب أيّة رؤية متماسكة لإنهاء الحرب في غزة والتعامل مع الملفّ الفلسطيني.
المشكلة الأولى ناجمة عن أنّ نتنياهو حقّق بالفعل مكاسب على الأرض. فقد أعاد احتلال غزة، وسيطر على محور فيلادلفيا، وهدم معبر رفح، واغتال رئيس المكتب السياسي في “حماس” إسماعيل هنية وعدداً من قادة الصفّ الأوّل في كتائب القسام، والرجل العسكري الأوّل في “الحزب” فؤاد شكر، وقادة آخرين في الحزب، وقتل قبل ذلك أرفع جنرال إيراني في سوريا ولبنان، ووجّه ضربة قاصمة للحوثيين في ميناء الحديدة، من دون أن يفجّر ذلك حرباً شاملة. وحتى الصحافيون الأميركيون الذين دأبوا على انتقاد نتنياهو، يسلّمون الآن بأنّ سرديّته لإدارة الصراع تفرض نفسها في الرأي العامّ الإسرائيلي، بدليل انخفاض التأييد لحلّ الدولتين إلى 19% فقط في أوساط اليهود، وهو أدنى مستوى منذ مطلع التسعينيات.
إيران غير مستعدّة للحرب
في المقابل، تبدو إيران غير مستعدّة للحرب الشاملة لأسباب كثيرة، منها ما هو داخليّ، ومنها أنّها تشاطر الديمقراطيين قلقهم من أن تؤدّي الحرب إلى حشر المرشّحة كامالا هاريس، وإعطاء ورقة قوّة لدونالد ترامب، ربّما يكون لها أثر حاسم في إعادته إلى البيت الأبيض. ولذلك من الواضح أنّ إيران تبحث عن المخارج التي تعفيها من الردّ على مقتل هنية على أراضيها، مع حفظ ماء وجهها عسكرياً وسياسياً. وهذا ما يفسّر الكلام الآتي من طهران عن استعدادها لعدم الردّ إذا كان ذلك ثمناً لوقف الحرب.
على أيّ حال، لم يكن اغتيال هنية ليستدعي الردّ من إيران لولا أنّ الهجوم وقع على أرضها وتحت أنف حرسها الثوري. ولذلك كلّ كلامٍ عن تغيير في المعادلات أو سلّم التصعيد بعد هذا الحدث بالذات، ينطوي على كثيرٍ من المبالغة وقليلٍ من التدقيق في طبيعة العلاقة بين طهران والفصائل الفلسطينية. لم يسبق لإيران أن اعتبرت قتل أيّ قيادي في الفصائل الفلسطينية اعتداءً مباشراً عليها، ولم تهدّد يوماً “بالتدخّل” كردّ فعل على أيّ حدث على أرض فلسطين أو في المواجهة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، خلافاً لتهديدها بالتدخّل إذا شنّت إسرائيل حرباً على لبنان.
ربّما اغتيال فؤاد شاكر أكثر أهمّية في سلّم التصعيد، من حيث كون الرجل مرتبطاً بشكل عضوي بالحرس الثوري، ومن حيث إنّه وقع في الضاحية الجنوبية لبيروت، وليس في ميدان العمليات في جنوب لبنان، لكن من الواضح أنّ إسرائيل حسبت جيّداً سقف هذا التصعيد. واتّضح ذلك في خطاب الأمين العامّ للحزب السيد حسن نصر الله الذي أعقب الاغتيال. إذ إنّه فصل مسار الجبهة في الجنوب عن مسار الردّ، وهو ما يعني عملياً أنّ الاغتيال، بحدّ ذاته، لن يفجّر حرباً.
حتى الرسالة الإعلامية التي تلت ذلك، والمتمثّلة بنشر صور من منشأة “عماد 4″، كانت أقرب إلى رسالة ردع تعبّر بوضوح عن عدم رغبة الحزب بتفجير الجبهات. بل إنّ رسائله للموفدين كانت، بخلاف ذلك، تؤكّد استعداده لوقف العمليات عند التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
فشل بايدن
المشكلة الثانية أكثر جذرية. فإدارة بايدن تعمل على إطفاء الحرائق، لكنّها تفتقر إلى استراتيجية واضحة للتعامل مع إيران وإدارة ملفّات الشرق الأوسط.
منذ أن ورث بايدن سياسة “الضغط الأقصى” على إيران من سلفه ترامب، لم تترك إدارته أيّة بصمة في إدارة هذا الملفّ. صحيح أنّها عملت على إحياء المفاوضات في فيينا، واستمرّت بها إلى أن رفضت طهران آخر العروض الصيف الماضي، لكنّها في الواقع لم تستطع تحديد معالم استراتيجيّتها تجاه طهران: هل تريد صفقة شاملة معها، أم مواجهة باردة؟
في الواقع العمليّ، اتّجهت واشنطن نحو التخفيف العملي للعقوبات في إطار صفقات جزئية، لكنّها لم تمتلك جواباً لتسارع أنشطة التخصيب، واتّساع نطاق عمل أذرعة إيران في الإقليم. واليوم، في ظلّ الحرب في غزة، ليس واضحاً حدود ما تقبله واشنطن من دور لطهران في مفاوضات إرساء الوضع الجديد بعد وقف إطلاق النار.
هذه الضعضعة موروثة من عهد باراك أوباما، الذي أمضى عام 2015 الاتفاق النووي الذي أعطى إيران كلّ شيء ولم يأخذ منها سوى تعهّد هشّ بإبطاء، لا وقف، برنامجها النووي. والأرجح أن تظلّ كذلك إذا فازت هاريس بالانتخابات المقبلة.
ما دام الوضع كذلك، فإنّ نتنياهو يجد أسباباً كثيرة لاستمرار قضم المكاسب في الأشهر المقبلة حتى موعد الانتخابات الأميركية، طالما أنّه واثق من عدم رغبة إيران بالحرب الشاملة، ولا يجد سبباً لتقديم الهدايا السياسية للديمقراطيين وبطّتهم العرجاء في البيت الأبيض.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|