طريق بيروت - الشام جلجلة أهالي المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية...
لا تنتهي قضية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية فصولاً، بعدما تحولت إلى ملف سياسي بامتياز، يستمر من يرفض حلّه بإبقاء جرح قسم كبير من اللبنانيين نازفاً ومرحلة أساسية من تاريخ لبنان صفحاتها غير مطوية.
هذا النزف يلاحق حتى الآن أهالي المعتقلين في سجون الأسد والمخفيين قسراً في سوريا. عدد المعتقلين بالوثائق والمستندات المقدمة إلى دوائر الأمم المتحدة 622 معتقلاً لبنانياً.
روايات وشهادات تدمى لها القلوب، كانت كافية لتدحرج الحجر عن قبر قلوب المسؤولين، في سوريا ولبنان.
كل شيء كان له ثمن. آهات المعتقلين المعذبين في دهاليز المزة وفرع فلسطين والأمن العسكري كانت توازيها عذابات أمهاتهن يرزحن تحت رحمة ضباط سوريين عديمي الإنسانية والرحمة، يسدّون فراغ نفوسهم وجوعهم من وجع أمهات وشقيقات يسلكن طريق بيروت ـ الشام كجلجلة نحو قيامة ما زالت منتظرة.
استراتيجية التوقيف
يقول متابعون كثر للقضية، إن "مص دم" اللبنانيين كما تُقال "باللبناني" تحولت إلى استراتيجية. فكان السوريون يتقصّدون حجز مواطنين من قرى معينة، لتفعيل "الواسطة اللبنانية" التي تدر عليهم أموالاً كثيرة. فعلى سبيل المثال، يتم اعتقال مواطنين لبنانيين من قرى من الجنوب مثلاً على غرار شبعا، الهبارية كفرشوبا والمحيط، وإلباسهم تهم التعامل مع إسرائيل أو مع "القوات اللبنانية"، فلا يعود أمام ذويهم سوى اللجوء إلى قيادات المنطقة الحزبية أو فعالياتها من سياسيين ومخاتير أو ضباط للتوسّط لهم لإطلاق سراح أبنائهم من السجون السورية أو أقلّه رؤيتهم. توسُّط هؤلاء كان مكلفاً، المبالغ بآلاف الدولارات، والنتيجة غالباً لم تكن على قدر الآمال، والحصاد، خيبات لا تُحصى.
شهادت وروايات مكتوبة بدم القلب
ريمون سويدان، المعروف أيضاً في اعتقالات الأسد. انتقل من البوريفاج، عنجر ثم إلى سوريا. وفي سوريا من فرع فلسطين فالأمن العسكري الى المزة.
والدة ريمون وشقيقته تعذبتا كثيراً. حفت أقدامهن على تلك الطريق التي تُعرف بـ"طريق الشام". "الواسطة" لا شك كانت تلعب دورها. هي راسلت مرة المطران الياس عودة الذي أرسل بدوره رسالة الى البطريرك هزيم، فتوسّط لها لدى رئيس الأمن السوري لرؤية ولديها ريمون وميشال. (كان لديها ولدان معتقلان في السجون السورية).
ولاحقاً، بدأت عملية الابتزاز تأخذ مداها، فكانت تُطلب أموال كثيرة لتخفيف الحكم عن ابنيها، وتمر الأموال عبر قناتي وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس ورئيس جهاز المخابرات علي دوبا. حتى إن الأوقات الإضافية للمواجهة بين السجين وأمه كان لها ثمن كبير أيضاً.
الأغراض التي كانت تحملها إليهما كالمأكولات والثياب غالباً ما كانت تُصادر. الثياب أحياناً كثيرة كانت تُباع من قبل مسؤولي السجن للسجناء.
يروي ريمون سويدان لـ"النهار" عن عمليات ابتزاز كثيرة تعرض لها ذووه، من جهات وأشخاص لبنانيين. يتحدث عن شخص من آل الدويهي من بلدة زغرتا شمال لبنان قبض 25 ألف دولار من والدته واعداً بإطلاق سراحي أنا وأخي ميشال. وآخرين قبضوا مبالغ وصلت إلى 15 ألف دولار واعدين بحريتنا.
"مرّة، عندما تعقّد مسار رؤيتنا، طلبت والدتي رؤية مصطفى طلاس. ومقابل تسهيل دخولها إلى السجن لرؤيتنا، طلب منها إحضار "بيانو كلاسيك" ليضعه في منزله. هكذا عادت أدراجها إلى بيروت، واشترت "البيانو"، وعندما وصلت إلى الحدود، اتصلت به، فسهّل مرورها، ودخلت إلى سوريا، واستطاعت عندها رؤيتنا".
"الأصعب، على والدتي، عندما كانت تغادر بيروت تحت الشتاء لتصل إلى سوريا فتُمنع من لقائنا. كان الأمر مؤلماً. وفي إحدى المرات، عندما تم منعها وشقيقتي من رؤيتنا قصدتا منزل مصطفى طلاس، ورمت بنفسها أمام موكبه اثناء خروجه صباحاً، صارخة أنا عايدة سويدان، "ما عم بخلّوني شوف ابني".
المبلغ الذي دفعه آل سويدان للسوريين ولمبتزين وصل إلى نحو 250 ألف دولار ما عدا الذهب والهدايا.
ريمون سويدان، ألقي القبض عليه بتهمة التحريض ضد نظام شقيق والانقلاب على الدولة اللبنانية، ولاحقاً تحولت تهمته إلى انتمائه الى "القوات اللبنانية".
خرج في دفعة 4 آذار 1998 بعفو من الرئيس السوري حافظ الأسد. وهو يشغل حالياً رئيس مكتب الأسرى في حزب "القوات اللبنانية".
نيللي قزي، والدها جورج قزي معتقل في سجون الأسد منذ ما يزيد عن 40 عاماً. بلغت نيللي نحو 45 عاماً وهي لم تر والدها منذ حديثهما الأخير ورحلته إلى سوريا.
كان جورج يقصد باستمرار سوريا في موسم الصيد، حاولت نيللي في لقائهما الأخير، ورغم صغر سنّها، ثنيه عن الذهاب، وكأن في قلبها دليل أو إحساس بأنها لن تراه أبداً.
قالت له: "ما تروح يا بيي ما تروح. أجابها، أنا رايح جيب عصافير. أومأت بأصبعها نحو شجرة قرب المنزل، وقالت: "هون في عصافير".
ذهب جورج، ولم يتأخر بالعودة، هو فقط لم يعد. لماذا، لأن الأبطال لا يموتون هم فقط لا يعودون.
تقول قزي: "سألنا عنه على الحدود. تأكدنا من دخوله سوريا هو ورفاقه. جميعهم لم يعودوا. فبدأت رحلة العذاب".
تضيف: "قيل لنا اذهبوا، قد يكون في سجن المزة. فانطلقت مسيرة مليئة بالشوك والآلام والحسرة والدموع. بدأ جدي وجدتي والدا أبي رحلتهما الطويلة، لكنهما حتى الآن وللأسف لم يصلا إلى جورج.
تعرضنا، كغيرنا من العائلات للابتزاز، من قبل سوريين ولبنانيين. كانوا يتقنون فن الخداع. يتحدثون عن مواصفات. يسألوننا أليس هو؟ كانوا على يقين أن جواب الأهل سيكون "نعم، هو"، من شدة لهفتهم وتوقهم. الأمل كان دائما مزيفاً.
ضباط سوريون ومواطنون لبنانيون وأصحاب أعمال طلبوا الأموال، ومصير جورج حتى اللحظة ما زال مجهولاً. دفعنا مبالغ طائلة. قمنا ببيع أراض لنا. أخذوا من والدتي المصاغ والذهب. جدي يملك سوبرماركت في ضهر الصوان، أصبحت مسخّرة لطلبات الضباط السوريين الذين كانوا يأخذون ما طاب لهم، بـ"البلاش".
قصدنا عدة مسؤولين، عسكريين وسياسيين، سوريين ولبنانيين، ولا جواب. لم نعرف مصيره، إلى أن تم تهديد جدي. "إن لم تتوقفوا عن المطالبة بمعرفة مصيره، فسيكون مصير الشبان الخمسة الباقين كمصيره".
هكذا، تعيش نيللي اليوم، على أمل اللقاء أو أقله معرفة مصيره، وهي ودعت والدها وكانت في الرابعة أو الخامسة من عمرها. لم تنس صورة لقائهما الأخير، طيلة 40 عاماً، وهي لن تنساها، لأن في الذاكرة أباً وبطلاً.
المعاناة مستمرة
معاناة أهالي المعتقلين في السجون السورية لم تداوها الجهات الرسمية بالعدل والمساواة، بل ظهرت وكأنها سلطة بديلة عن سلطة الاحتلال. لجان كثيرة كانت تدفن قبل الولادة، من دون أي حلول أو متابعة للملف لمعرفة مصيرهم.
"اللجان الوزارية وجدت لتبقى لجاناً. لجاناً من دون عمل، مع وقف التنفيذ"، كما يقول رئيس جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية علي أبو الدهن لـ"النهار". ويفنّد كل عمل الدولة اللبنانية منذ بداية تأليف لجنة وزارية خاصة بالمفقودين اللبنانيين جراء الحرب وكذلك بالمعتقلين في السجون السورية، بدءاً من اللجنة التي رأسها الوزير السابق الراحل فؤاد السعد إلى يومنا هذا، واصفاً الأداء بكلمتين: "الدولة صفر". فالقيمون على هذه اللجان، ورغم جهودهم ونيتهم العمل للوصول إلى نتائج ايجابية، إلاّ أن الضغوط السياسية كانت تشكل رادعاً لهم، لأنّه "ممنوع تجاوز الخطوط الحمر".
قضية التعويضات
حتى في التعويضات، تم فرز المعتقلين، فبات هناك معتقلون بسمنة ومعتقلون بزيت. "رفضت الدولة مساواتنا بأولئك في السجون الاسرائيلية، كانوا يعتبرونهم أبطالاً فيما نحن صُنّفنا خونة، لكننا نرفض ذلك، نحن الأبطال، مع العلم أننا لا نصنّف أحداً بالخائن"، يقول أبو الدهن.
ويضيف: "قدمت القوات اللبنانية عام 2008 عبر النواب ايلي كيروز وستريدا جعجع وجورج عدوان، اقتراح قانون يتعلق بالتعويضات لمساواتنا مع الآخرين، فتم تمييعه. وصل الى لجنة الادارة والعدل، ومن ثم إلى الهيئة العامة لمجلس النواب، ليضرب الرئيس نبيه بري مطرقة المجلس، ويعيده إلى مقبرة لجنة المال والموازنة التي كان ولا يزال يرأسها النائب ابراهيم كنعان. فدُفن الاقتراح ولم يرَ النور".
المسار الدولي
ويتحدث أبو الدهن عن المسار الدولي، وعن التعاون والتنسيق المستمر مع الأمم المتحدة، ولا سيما مع الهيئة العامة للمعتقلين في السجون السورية في الأمم المتحدة، ونحن اليوم ننتظر أن يتم انتخاب رئيس لها، لكي نستأنف عملنا. في هذا الوقت، نقوم بعمل كبير، سوياً. هناك عمل على تزويدها بكل الداتا المطلوبة، ولا يزال التحقيق بقضايا كثيرة مستمراً. المعتقلون في السجون السورية من كل الفئات والجنسيات، لبنانيون وسوريون وفلسطينيون".
وإذ يشير وينوّه بالجهود والتعاون المستمر في هذا الإطار مع القوات اللبنانية والكتائب وفارس سعيد، وغيرهم العديد من الفعاليات السياسية، توجه أبو الدهن بصرخة وبصوت عالٍ إلى الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، بعد أن أقفلت كل الأبواب في وجههم، "لأن يساعدنا في إطلاق سراح المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. نحن نؤمن أنه بلحظات يستطيع إخراج معتقلينا. حاولنا عدة مرات لقاء السيد سابقاً، فكان الرد أنه ليس حاضراً لاستقبالنا. لذا نناشده اليوم، وأي طرف آخر، اذا أمكن له مساعدتنا ولهم ألف شكر، وتُحسب لهم لبنانياً".
سنوات وعهود مرّت، والجراح لم تندمل. ولا زال الأهالي يسألون ويصرون، ما هو مصير أبنائنا في السجون السورية؟
"النهار"- رولان خاطر
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|