باسيل يخرج من الظلّ: تموضع ثابت من دون تفاهمات الماضي وخلافاته
بعد عدة دورات عسكرية، أبرزها في قاعدة فورت سيل المخصصة لضباط المدفعية الميدانية، في ولاية أوكلاهوما، خلص المدربون الأميركيون إلى وصف الرئيس ميشال عون، قبل أن يعيّن قائداً للجيش عام 1986، بـ Unpredictable: شخص لا يمكن توقع ما سيفعله. ويوضح ديبلوماسي متقاعد أن هذه الإشارة «نقطة سوداء» لا يمكن القفز فوقها أياً كانت الآراء السياسية للشخص المعني أو قدراته أو علاقاته، وحتى لو أدّت ظروف سياسية إلى تقاطعات تكتيكية اضطرارية معه. فالدول تفضّل المنضبط، سواء كان معها أو ضدها، على غير المنضبط. وهذا ما كان واضحاً في كل المحطات الاستراتيجية، سواء عام 1990 عندما باركوا الإطاحة به، أو عام 2005 عندما أرادوه هامشياً ضمن تحالف 14 آذار، أو عام 2019 حين انقضّوا على عهده. وهو، من جهته، أثبت في كل هذه المحطات وغيرها أن ما كتبه اختصاصيّوهم عنه كان دقيقاً جداً: لا يمكن توقع ما سيفعله، أو كيف سيتصرف. والأسوأ، بالنسبة إليهم، أن الرأي العام يتفاعل بإيجابية غالباً مع هذه النزعات الاستقلالية أو غير المتوقعة. هكذا تحوّلت نقطة ضعف عون عند الأميركيين إلى نقطة قوته الأساسية عند الرأي العام، قبل أن تتقلص «الأمور غير المتوقعة» التي مثّلت دينامو الحالة العونية ابتداءً من عام 2008 إلى حد التلاشي مع دخوله قصر بعبدا، فأصبحت غالبية الأفعال والتصرفات رسمية وتقليدية، محكومة بالتفاهمات التي مثّلت الممر الإلزامي للوصول إلى بعبدا، ومتوقعة بحيث تسهل محاصرتها، فلم يعد أحد ينتظر أو يترقّب أو يتخيّل.وإذا كان رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لعب دور ظلّ عون منذ عام 2008، فإن كثيرين - في الداخل والخارج - خلصوا إلى التعامل معه على أساس تناقضه مع تلك النزعة العونية. لكن، من يدقّق في أحداث العامين الماضيين، يكتشف بسرعة أن الطبع العوني الأساسي كما حدّده الأميركيون قبل أربعة عقود غلب التطبّع الذي فرضته الظروف السياسية وتجربة السلطة وتعقيداتها. فمن العلاقة مع حزب الله، إلى العلاقة مع الرئيس نبيه بري، إلى الإقالات الأخيرة داخل التيار: ثمة مسار جديد (يتجاوز الحسابات الصغيرة التي ينشغل الناس بها) يُخرج التيار عن سكة الـ Predictable المعبّدة والمُصّونة بجدران دعم من الجانبين لتوفير الأمان والاطمئنان والاستقرار الوظيفي للركاب، مع ما يستتبع ذلك من كسل وبرودة، ويضعه على سكة الـ Unpredictable التي تكثر فيها الحفر والمطبّات والكمائن، مع ما يستتبع ذلك من قلق وتشكيك وعلامات استفهام.
لم يكن أحد يتوقع أن يطلب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بكل ما لديه من مكانة لدى باسيل شيئاً من الأخير فيرفضه، تماماً كما لم يكن أحد يتخيّل أن يبادر باسيل (الذي بإمكان الدوائر المعنية الجدية في الحزب أن تسجّل آلاف المآخذ عليه في التكتيك اليومي المتعب، لكنها ستؤكد في المقابل أنه لا يخطئ في الاستراتيجيا) في ظلّ كل الخطر الاستراتيجي المحدق، إلى القول في العلن والسرّ إنه ضد وحدة الساحات.
ولم يكن أحد يتوقع أن يتجاوز باسيل كل التجريح الشخصي المباشر ليوطد علاقات جديدة مع نواب وشخصيات سياسية وناشطين لم يتركوا إهانة إلا ووجّهوها له، تماماً كما لم يكن أحد يتخيّل أن يبادر إلى استيعاب كل ما فعله الرئيس بري بالرئيس عون، قبل العهد وخلاله وبعده، ليخلص إلى وجوب بناء أفضل العلاقات معه.
لم يكن أحد من المعنيين وغيرهم يتوقع أن يخوض الرئيس عون شخصياً معركة إخراج ابن شقيقته النائب آلان عون من التيار بعدما كان الأحبّ إلى قلبه طوال سنوات، تماماً كما لم يكن أحد يتخيّل أن يحسم باسيل إخراج النواب الأربعة، بدءاً من صديقه الياس بو صعب من دون أي تردّد.
وإذا كانت المشاعر الشخصية تحكم غالباً أيّ تقييم أو مقاربة لحركة باسيل، فإن وضع هذه المشاعر جانباً يسمح بالوقوف عند أربع نقاط أساسية:
أولاً، يريد باسيل القول بوضوح وحسم إنه ليس بإمكان أحد توقّع ما يمكن أن يفعله أو يقوله غداً. لديه ثوابت في السياسة والعلاقات، لكن لديه في الوقت نفسه حرية حركة كاملة في الفعل والقول.
ثانياً، على المستوى السياسي، يحرك باسيل رأسه ويديه في كل الاتجاهات، لكنّ قدميه ثابتتان حتى الآن في تموضعه السياسي الاستراتيجي مع المقاومة ضد إسرائيل، ومع التفاهمات ضد الكانتونات. وهو ما يخسّره ثقة وتأييد جمهور المقاومة من جهة، وجمهور خصومها من جهة أخرى، لكنه يقول بوضوح إن جمهور المقاومة يؤيد المقاومة، وجمهور خصومها يؤيد خصومها، فيما يفترض به أن ينشغل بجمهوره عن هذين الجمهورين، وهنا التحدّي الأساسي: هل ثمة رأي عام يمكن أن يقتنع بإيجابيات المقاومة وخطر التحريض عليها أو الاعتقاد بإمكانية الاستقواء على مكوّن لبناني، بالإسرائيلي تارة وبمجلس الأمن طوراً؟ وهو ما يقود إلى النقطة الثالثة.
ثالثاً، على مستوى التفاهمات السياسية؛ لا يريد باسيل أن يرث خصومات سياسية، سواء مع الرئيس بري أو مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط أو غيرهما، ولا تفاهمات سياسية منجزة بكل ما فيها من فوائد وأثمان، سواء مع حزب الله أو مع غيره. ويريد في المقابل أن يصيغ بنفسه مع كل من يشاء - وفي مقدمتهم حزب الله - تفاهماته السياسية الخاصة الجديدة.
رابعاً، على مستوى التيار الوطني الحر، لا يريد باسيل أعباء تثقل وعيه ولاوعيه، سواء بمشاكلها داخل التيار وخارجه أو بعلاقاتها وطموحاتها وغيره. ولا يتعلق الأمر هنا بالنواب الأربعة فقط: حتى أولئك الناشطون المغمورون، الذين افترضوا للحظات أنهم قادرون على أخذ التيار إلى حيث يريدون، عادوا وانكفأوا بعدما وصلتهم رسائل واضحة بأن رئيس التيار، لا فلان ولا علتان، هو من يحدد أين يقف التيار، وكيف ولماذا. ومن يدقّق في حركة التعيينات داخل التيار نفسه منذ نحو عام، سيكتشف بسرعة أنّ من لم يلتقط طبيعة الديناميكية الجديدة أقيل لأول مرة بسرعة قياسية. أما الصخور والفهود والنسور ورؤوس الحربة وغيرها من الصفات التي يطلقها الناشطون على بعضهم البعض، ففهموا أن ثمة بياناً أسبوعياً للمجلس السياسي للتيار يحدّد السقف الذي لا يفترض بهم القفز فوقه مهما كانت صفاتهم، إذا كانوا يريدون الاحتفاظ بمناصبهم الحزبية.
وعليه، ينفض باسيل بيد الغبار عن الخصوصية العونية المتمثلة بعدم انضباط القائد، ويرفع باليد الأخرى راية الالتزام المطلق من دون أن يتبيّن بعد ما إذا كان ذلك جاذباً لمن لا يحبّون الأمان والاطمئنان والاستقرار الذين عرفهم التيار بين عامَي 2008 و2022، ومن دون أن يتأكد أيضاً ما إذا كان بوسع المحازبين أنفسهم الذين أعادوا الأمان والاطمئنان والاستقرار الوظيفي و«الفتح على حسابهم» أن يتكيّفوا مع هذه الديناميكية الجديدة القديمة التي يمكن أن تهدد مصالحهم ومكاسبهم و... مقاعدهم؟
رغم أن بعض المدارس السياسية تحذّر من «عدم الثبات» في لحظات التحولات الكبرى، لكن العونية القديمة الـ Unpredictable تلك حققت نجاحاتها في لحظات مفصلية عامَي 1989 و2005 شبيهة بما تمر به اليوم. مع الأخذ في الحسبان أن العماد عون - غير المنضبط وفق التقييم الأميركي دائماً - لم يكن قد عُيّن قائداً للجيش حين كان في عمر باسيل اليوم، الذي تنقّل بين ثلاث وزارات أساسية وخاض حروباً سياسية طاحنة، ولديه حزبه الذي لا ينازعه من الداخل عليه أحد، لكنّ نقاط الضعف الأساسية التي تواجهها تجربة باسيل تكمن في الحملة المتواصلة على شخصه (حتى ولو انحسرت جزئياً منذ نحو عامين) والعقوبات الأميركية غير المسبوقة على زعيم ماروني، وكثرة الخيارات البديلة، فيما لم يكن هناك سوى بديل واحد من الميليشيات عام 1989 هو الجيش، وبديل واحد من «سياسيي الوصاية» عام 2005 هو العماد عون.
ينجح أو يفشل؟ كانت للظلّ حسناته الكثيرة وسيئاته أيضاً، فحتى لو كان هو يحرص مثلاً على عدم قول ذلك أو حتى الإيحاء به، إلا أنه كان قادراً على القول إنه غير مسؤول عن تعيين هذا وزيراً وذاك نائباً، وهؤلاء مديرين عامين. أما اليوم، فهو من يتحمّل كامل المسؤوليات من التحالفات والعلاقات السياسية إلى الفعالية الحزبية واختيار الوزراء والنواب والقضاة والضباط والمديرين العامين. يقف باسيل اليوم بين مرحلة كان له فيها الكثير من الإيجابيات والسلبيات، ليدخل مرحلة لا يعرف هو نفسه بعد ما يفترض أن يتوقعه فيها من إيجابيات وسلبيات.
غسان سعود-الاخبار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|