محليات

سلفات الخزينة تحرق المال العام: أتُسترد من جيوب الوزراء؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

دخلت موازنة العام 2025 مرحلة النقاش في مجلس الوزراء. ومعها تُرسَم صورة جديدة من صُوَر الانهيار الاقتصادي الذي استدعى زيادة الإنفاق من خارج الموازنات على شكل سلفات خزينة تُضاف إلى سلفات سابقة لم تُرَدّ، لتتراكم بذلك الديون على كاهل الدولة ويرتفع مستوى هدر المال العام.
وإذا كان الهدر أحد أوجه الانهيار يصحّ عندئذ تسليط الضوء على سلفات الخزينة كونها إحدى الأبواب الرئيسية لذلك الهدر، خصوصاً وأن السلطة السياسية استسهلت إقرار سلفات الخزينة لتمويل إدارات ومؤسسات الدولة، ولم يجرِ إعادة جزء كبير من قيمة السلفات، مع أن قانون المحاسبة العمومية يقرّ بوضوح شروط السلفات وموجبات إعادتها، وإلاّ، فإن إقرارها لا يكون قانونياً. فكيف أسهمت سلفات الخزينة في زيادة الأعباء على مالية الدولة ومهَّدَت للانهيار؟.

سلفات خزينة مخالِفة للقانون
تبعاً للمادة 203 من قانون المحاسبة العمومية، فإن سلفات الخزينة هي "إمدادات تُعطى من موجودات الخزينة". وإذا خُصِّصَت "لتغذية صناديق المؤسسات العامة والبلديات وكذلك الصناديق المستقلة المنشأة بقانون"، فعلَّقَت المادة 204 منح السلفة بـ"تثبت وزير المالية من إمكان الجهة المستلفة إعادة السلفة نقداً في المهلة المعينة لتسديدها. قبول الجهة المستلفة أن ترصد في موازنتها، بصورة إجبارية الاعتمادات اللازمة لتسديد السلفة في المهلة المعينة".

وعلى مدى عقود، لم تُراعَ الأصول القانونية في إقرار السلفات، بل جرى استسهال تمويل الإدارات والمؤسسات العامة عن طريقها، ولغايات غير تلك المحدَّدة حصراً في المادة 203 التي نصَّت على أن السلفات تعطى لـ"تموين مستودعات الإدارات العامة بلوازم مشتركة بين أكثر من إدارة واحدة؛ لشراء مواد قابلة للخزن ومعدة للاستعمال في سنة مالية جارية أو لاحقة؛ لتغذية صناديق المؤسسات العامة والبلديات وكذلك الصناديق المستقلة المنشأة بقانون". وخلافاً لذلك، أعطيَت سلفات لتغطية رواتب وأجور وتعويضات، ولتغطية نفقات عامة تفوق المحدّدة بالقاعدة الإثني عشرية، وأيضاً أعطيت سلفات خزينة لتأمين نفقات الحكومة التي تتجاوز الاعتمادات المرصدة في قانون الموازنة، كما أعطيت لتغطية تعويضات ومستحقات. وتكاد كل وزارات الدولة ومؤسساتها ومجالسها تستفيد من تلك السلفات.
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، وصلت السلفات إلى وزارة التربية والتعليم العالي، الصحة العامة، المالية، الشؤون الاجتماعية، الدفاع، المهجرين، الداخلية والبلديات، البيئة، الثقافة، الإعلام، الطاقة والمياه، الصناعة، العدل، الزراعة. كما وصلت إلى التفتيش المركزي، المستشفيات الحكومية، مجلس الإنماء والإعمار، الهيئة العليا للإغاثة... وغيرها.
وعلى كثرة السلفات والمخالفات، كان سهلاً على ديوان المحاسبة "رصد الكثير من التجاوزات للأحكام القانونية الراعية لسلفات الخزينة". وبحسب تقرير للديوان صدر في العام 2021، تبيَّنَ أن تلك السلفات "حُدّدت لها طرق تسديد مغايرة لما نص عليه القانون فكانت النتيجة أن معظم السلفات المعطاة لم يجرِ تسديدها، واستحالت ديناً غير مسدد". تقرير ديوان المحاسبة حول سلفات الخزينة.

من هنا يبدأ فصل مهم من حكاية إضاعة المال العام ومراكمة ديونٍ لا تُسَدَّد. وبالتوازي، فإن استمرار إقرار سلفات الخزينة أتى بفعل "الوضع الإستثنائي في السنوات السابقة وعدم كفاية الإعتمادات في الموازنة لمواجهة كافة النفقات لا سيما الطارئة منها". ولأن القانون يحدّد شروط إعطاء السلفات، مُنِحَت معظم السلفات "بطريقة غير مباشرة، مع النص على أن التسديد يكون باعتمادات تُلحظ في موازنة السنة اللاحقة".

هدر المال العام وغياب الشفافية
تؤثِّر السلفات على المال العام في حال لم تُسَدَّد، فتتحوَّل حينها إلى إنفاق نهائي يُحَمَّل إلى الموازنة العامة، وبالتالي يزيد العجز المالي المدوَّر من السنوات السابقة. وبحسب أرقام ديوان المحاسبة، فإن قيمة السلفات غير المسدّدة منذ العام 1995 حتى العام 2018 بلغت نحو 7992 مليار ليرة، أي ما كان يوازي نحو 5 مليار و330 مليون ليرة وفق سعر صرف 1500 ليرة للدولار. ويضاف إليها بعد انهيار سعر صرف الليرة، عدم تسديد السلفات بين عاميّ 2020 و2023، فقد بلغت القيمة غير المسدَّدة نحو 41043 مليار ليرة، وفق ما جاء في كتاب مرسَل من وزارة المالية إلى رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان، في 8 كانون الثاني 2024. مع الإشارة إلى أن قيمة السلفات غير المسدّدة خلال تلك الأعوام تتغيّر بحسب سعر صرف الدولار الذي ارتفع من نحو 8 إلى 10 آلاف ليرة إلى نحو 90 ألف ليرة. علماً أنه وصل في فترة استثنائية إلى نحو 140 ألف ليرة. وبتغيُّر سعر الصرف تفقد السلفات قيمتها، في حال أعيدت خلال الأزمة، قياساً بما كانت عليه قبلها، ما يعني تسجيل خسائر إضافية على الخزينة العامة.

هذا الواقع، يحيل إلى وجود هدر للمال العام وغياب للشفافية، لاسيّما وأن إعطاء السلفات وعدم التأكّد من القدرة على سدادها وعدم مواكبة سدادها بالطرق الصحيحة، حصل بقرار واضح من مجلس الوزراء وبغياب صريح لمجلس النواب عن القيام بدوره، فضلاً عن عدم الاكتراث بدور الأجهزة الرقابية، وعلى رأسها ديوان المحاسبة.
وفي النتيجة، تراكَمَ الأثر السلبي لسلفات الخزينة على مدى عقود. أمّا عدم إعادة الجزء الأكبر منها، فهو "دليل على غياب مصداقية الدولة في صرف مالها العام ودليل على ضعف أدائها المالي. كما أن إقرار الحكومات المتعاقبة سلفات خزينة مع علمها المسبق بضياعها مستقبلاً، فيعكس النوايا السياسية لتلك الحكومات، والتي تتنافى مع مبادىء الشفافية المالية"، على حدّ تعبير الأستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة المحامي كريم ضاهر، الذي يصف في حديث لـ"المدن"، سلفات الخزينة وألية صرفها وعدم ملاحقة إعادتها، بأنها "طريقة لمواربة الإنفاق العام". وبالتالي، تحوَّلَت سلفات الخزينة برأي ضاهر "من آلية استثنائية لإنفاق المال العام إلى آلية عادية متكرّرة".
وربطاً بالأزمة الاقتصادية المستمرة منذ نحو 5 سنوات، يصبح من الضروري تسليط الضوء على "استسهال السلطات السياسية إقرار سلفات الخزينة وعدم التأكّد من إعادتها". فجزء كبير من هدر المال العام جاء عبر تلك السلفات، وعدم إعادتها لا يتّصل فقط بمخالفة القوانين، وإنما بـ"مخالفة مبدأ الديموقراطية البرلمانية والشعبية"، خصوصاً في ظل عدم اكتراث مجلس النواب بالقيام بدوره الرقابي الذي يهدف إلى "حماية أموال الشعب الذي يمثّله مجلس النواب". وهذه المقاربة معمول بها "منذ الثورة الفرنسية كدليل على مبدأ أن لا إنفاق وجباية خارج قرار الشعب، إذ أن الشعب هو مَن يقرّر ما يُجبى من ضرائب منه وأين تُنفَق الضرائب". بحسب ضاهر.
ومع زيادة التعقيدات التي تواجهها البلاد على المستوى السياسي والأمني والمالي والنقدي، خصوصاً في ظل عدم تطبيق الإصلاحات المطلوبة كسبيل للخروج من الأزمة، يصبح فتح ملفّ السلفات المالية والوصول إلى خواتيم تُحمِّل المسؤوليات لأصحابها، أمراً ضرورياً لإعادة الانتظام إلى المالية العامة وتحقيق الشفافية المالية.

شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا