تقاطع شطب الودائع: الحكومة وباسيل و”كلّنا إرادة”
تتقاطع جهات متعدّدة، من داخل الحكم وخارجه، على إعطاء زخم لنقاش متجدّد يرمي أساساً إلى تثبيت شطب الودائع، والانتقال به من الأمر الواقع إلى التأطير القانوني.
توضع في إطار التقاطع حول شطب الودائع ثلاثة اتّجاهات:
1- خطة حكومة تصريف الأعمال لإعادة هيكلة المصارف، التي هي في واقع الأمر ليست أكثر من خطّة لشطب الودائع، مع تعويضات هزيلة مقسّطة على 11 سنة لصغار المودعين.
2- إعلان رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل صراحة أنّ “الودائع راحت”، مع وضع شروط مستحيلة لإعادة جزء منها.
3- زخم متجدّد لأصوات تنضوي في تجمّع “كلّنا إرادة” أو سواه من أطر المجتمع المدني، تنادي بلا مواربة بالتعامل مع الودائع كجزء من خسائر الماضي التي يجب الاعتراف بها وشطبها وقلب الصفحة.
من يسعى لوراثة الدّولة؟
أخطر هذه الاتّجاهات ما يغلّف مساعيه لشطب الودائع بمقولات تكتسي طابع المعرفة النظرية، للتغطية على مشروع سياسي لوراثة الدولة وإعادة تأسيسها “على بياض”، بعد شطب دفاتر الماضي. ويستند هذا الاتجاه إلى خمس مقولات “نظرية” فاسدة، ملخّصها:
1- أنّ أملاك الدولة ملك لكلّ الشعب اللبناني، ولا يمكن استخدامها لتعويض “فئة صغيرة” لا تتجاوز الآلاف. ويصل الأمر بأحد ناشطي “كلّنا إرادة” إلى القول إنّ أكثر من نصف الشعب اللبناني لا يملك حسابات مصرفية أصلاً، وإنّ نسبة من يمتلكون في حساباتهم أكثر من 200 ألف دولار لا تتجاوز 5%.
2- أنّ الدولة لم تقترض أموال المودعين، ولا تتحمّل أيّة مسؤولية تجاههم، وأنّها لا تتحمّل مسؤولية إعادة رسملة “مصرف لبنان” وتغطية فجوة خسائره.
3- أنّ خسائر المودعين مسؤولية أصحاب المصارف، وليست مسؤولية الدولة.
4- أنّ الأموال تبخّرت بالفعل، ولا وجود لها.
5- أنّ استخدام أصول الدولة أو أموال دافعي الضرائب لدفع الودائع يتناقض مع مبدأ العدالة بين الأجيال، باعتبار أنّه يحمّل الجيل المقبل خسائر اقترفها الجيل الحاضر.
المقولة الأولى تنمّ عن نزعة ماركسية مفرطة لا ترى بأساً في مصادرة الودائع وتأميمها لمصلحة “البروليتاريا”، ما دام أصحابها شرذمة قليلين(!)
المقولة الثانية فيها كلام كثير، ولو أنّ بالإمكان النقاش في حدود مسؤولية الدولة عن إعادة الودائع، وحدود مسؤوليّتها عن فساد “مصرف لبنان” وسوء تدبيره في عهد رياض سلامة. لكن لا يمكن حصر هذا النقاش في السقف الذي وضعته الخطط الحكومية المتعاقبة، بأن تساهم الدولة في رسملة مصرف لبنان بسندات لا تتجاوز 2.5 مليار دولار. فهل هذا هو كلّ ما امتدّت إليه يد الدولة من أموال المودعين؟
يمكن العودة إلى المقطع الذي عاد إلى التداول من مقابلة قديمة لرئيس الحكومة السابق حسان دياب، حين كان “ينظّر” لمدّ يد الدولة إلى آخر سنت من الاحتياطي الإلزامي لتمويل إنفاق الدولة على الدعم، من دون أيّ احترام لأموال “التوظيفات الإلزامية” لدى مصرف لبنان التي تمثّل 15% من الودائع. وبالفعل، امتدّت يد الدولة إلى تلك الأموال بذريعة إطعام الشعب، وتكوّنت ثروات لدى تجّار الموادّ المدعومة. والآن حين يُطلب من الدولة الاعتراف بديونها لمصرف لبنان، أو تحمّل مسؤوليّتها تجاه المودعين، تخرج أصوات “الخبراء” بأنّ المودعين أقليّة والشعب أكثرية.
المقولة الثالثة حقّ يقود إلى الباطل، أقلّه لأنّ رساميل المصارف لن تبلغ بأيّ حال أكثر من 5% من أموال المودعين، ومن شبه المستحيل قانونياً العودة على أصحاب المصارف في أموالهم الخاصة إلا من خلال تشريعات وآليّات قانونية تحتاج إلى سنوات لا يتّسع لها عمر المودعين. وحتى على افتراض تحقّق تلك التشريعات، فإنّها لا ينبغي أن تكون شرطاً لوصول المودعين إلى ودائعهم، ولا يصحّ أن تتنصّل الدولة من القضية كلّها لتزعم أنّها مجرّد خلاف شخصي بين صاحب بنك ومودع. وبالتالي فإنّ حصر مسؤولية إعادة الودائع بالبنوك هو الطريق الأقصر لشطبها.
المقولة الرابعة فاسدة تقنيّاً لأنّه ما من بنك في العالم تتوافر لديه أموال المودعين كاملة، بل يمتلك موجودات مالية تكافئها. ومن الخفّة القول إنّ إعادة الودائع تقتضي وجود الأموال لسدادها حالاً.
فرز القطاع المصرفيّ
ما يمكن فعله فرز القطاع بين “بنوك جيّدة” لا قيود على الودائع فيها، و”بنوك سيّئة” تُحصر فيها الودائع القديمة، وتطبّق عليها نسب “هيركت” واضحة ولا تلاعب فيها (كما في الخطّة الحكومية الأخيرة)، على أن يبدأ تحويل الودائع تدريجياً من البنوك السيّئة إلى البنوك الجيّدة مع التدرّج في بناء قاعدة الموجودات، بناء على خطّة إعادة هيكلة القطاع، ومع تطبيق حدود منطقية على السحوبات. فعندما يحرّر أيّ مبلغ من بنك سيّئ إلى بنك جيّد لا يظلّ المودع تحت ضغط السحب الفوري، كما يحدث حالياً في نظام التعاميم، بل يصبح المبلغ المحرّر وديعة طبيعية كأيّة وديعة طازجة، وبالتالي لا تقع البنوك تحت ضغط السحب الفوري (Bank run)، وهذا هو السبيل لعودة البنوك إلى وظيفتها الطبيعية كوعاء للمدّخرات ومموّل للنشاط الاقتصادي. لكن ليتحقّق ذلك لا بدّ من استعادة الثقة التنظيمية، وهذا ما بدأ مصرف لبنان بتحقيقه تدريجياً في عهد وسيم منصوري.
تبقى المقولة الأخيرة المتعلّقة بـ “العدالة بين الأجيال”، وهي تعتبر من التطبيقات الرديئة لأدبيات صندوق النقد الدولي. وهي تنمّ أساساً عن سوء تصوير لطبيعة الأزمة اللبنانية، وتقديمها كما لو أنّها ناجمة عن خسائر وقعت بالصدفة أو عن سوء تدبير. فيما حقيقتها أنّها انتقال للثروة من يد إلى يد، ضمن الجيل الواحد. ومن نافل القول أنّ المهمّة الأولى للدولة وأوعيتها الضريبية إعادة توزيع الثروة (بين أبناء الجيل نفسه)، بما يتّفق مع العدالة الاجتماعية، خصوصاً أنّ سياسات الدولة ومصرفها المركزي كانت هي القناة التي انتقلت من خلالها الثروة من المودعين إلى المقترضين وتجّار الموادّ المدعومة وتجّار “صيرفة” والفاسدين.
على أنّ كلّ هذه المقولات لا تقود إلى التوهّم أنّ في البلد نقاشاً “فكرياً” حول شطب الودائع. إنّما هو صراع على السلطة والثروة. وثمّة من يتوهّم أنّ شطب الودائع يسهّل عليه تسلّم البلد على بياض، بعد التخلّص من أثقال الماضي. ولذلك ما على المودعين إلا أن يقاتلوا في حرب غير متكافئة.
عبادة اللدن - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|