استراتيجية أم "بيجرية".. هل بدأ نتنياهو يدرك تورطه بنقله الحرب إلى الشمال؟
يحتاج الجيش الإسرائيلي لدخول شمال القطاع مرة أخرى ويستعد لدحر عشرات آلاف السكان الفلسطينيين جنوباً بهدف تشديد الضغط على قيادة حماس. أما في لبنان، فطواقم القتال اللوائية تمشط القرى والمناطق الحرجية لتدمير مجالات حزب الله القتالية. وفي إيران، تهدد إسرائيل بالرد على هجمة مكثفة تعرضت لها الأسبوع الماضي بصواريخ بالستية. كدنا نعتاد البشائر اليومية في أخبار الصباح: صواريخ إلى الجليل، صواريخ إلى منطقة حيفا والسهول، جنازات قتلى المعارك الأخيرة، لا تقدم بشأن المفاوضات حول صفقة مخطوفين.
لقد كانت هذه سنة رهيبة بدأت بفشل رهيب وقصور هو الأكبر في تاريخ الدولة. مع نهايتها، كان يخيل أن ميل الأمور بدأ ينقلب، على الأقل في الساحة الشمالية. سلسلة نجاحات مدوية للجيش الإسرائيلي، وأسرة الاستخبارات رجحت الكفة في لبنان، وألحقت بحزب الله هزيمة نكراء، وحسنت الوضع الاستراتيجي لإسرائيل حيال إيران ووكلائها. لكن القصة بعيدة. ستستمر الحرب إلى سنتها الثانية، والواقع الإقليمي الجديد والعاصف سيؤثر على كل الشرق الأوسط في السنوات القادمة.
إسرائيل لم تحل بعد المشاكل التي طلت عليها عقب هجمة حماس، خصوصاً مصير الـ 101 مخطوف في القطاع، بل تنشأ الآن مخاطر وتعقيدات أخرى. النجاحات حيال حزب الله لا تعد بعد باستقرار الوضع الأمني، بشكل يسمح بإعادة السكان على طول حدود لبنان. المواجهة المباشرة، الأولى من نوعها مع إيران، ربما تسرع قرار النظام للاندفاع مع مشروع النووي وتعريفها على الأقل كدولة حافة نووية. والمنطقة كلها قد تقف أمام هزات لم تشهد لها مثيلاً منذ اندثار أحداث الربيع العربي، في نهاية العقد السابق.
بخلاف تام مع ترهات النصر المطلق، التي يطلقها رئيس الوزراء نتنياهو، المسؤول الرئيس عن الكارثة التي وقعت في أثناء سنوات حكمه الطويل جداً، فإسرائيل لا تقترب من حسم المواجهة مع أعدائها. الأكثر معقولية أن هذه حرب ستدار بقوة متغيرة، على مدى السنوات التالية. الضربة التي تلقيناها في 7 أكتوبر العام الماضي، فتحت المواجهة بفشل مدو سيستغرق الانتعاش منه عقوداً عديدة. ومع ذلك، من الأفضل أن نذكر بأن خطط الطرف الخصم تشوشت، بالذات بعد نجاح هجمة حماس. زعماء المنظمة في القطاع، يحيى السنوار ومحمد ضيف، أوقعا على الفلسطينيين كارثة تبدو أخطر من نكبة 1948.
أما إيران التي بدأت في السنوات الأخيرة تستعد بجدية لـ “خطة الإبادة” الهادفة لانهيار إسرائيل حتى العام 2040، فتكتشف أن التحدي أعقد مما اعتقدت. “طوق النار” الذي بناه الجنرال قاسم سليماني بكد حول إسرائيل، من خلال تسليح حزب الله وحماس، تضرر بشدة من جراء إجراءات الجيش في غزة ولبنان. ترسانة الصواريخ الهائلة كانت معدة لردع إسرائيل عن الهجوم على مواقع النووي الإيرانية. أما الآن، فتجد إيران نفسها بدون قسم مهم من بوليصة التأمين التي خلقتها لنفسها، وبعد أن أعطت هجمتا الصواريخ والمسيرات اللتين بادرت إليهما من أراضيها نحو إسرائيل، في نيسان وفي الأسبوع الماضي، نتائج هزيلة. فإيران لم تتورط فقط بشكل مباشر في مواجهة فضلت أن تخوضها ضد إسرائيل من بعيد من خلال وكلاء، لم يعد يمكنها استبعاد إمكانية هجوم إسرائيلي ضد مواقعها النووية، وبخاصة إذا ما انتخب ترامب رئيساً للولايات المتحدة الشهر المقبل.
انهيار الفكرة التأسيسية
الإنجازات التي حققها القتال في غزة وأساساً في لبنان، لن تمحو انطباع 7 أكتوبر الذي يشعر كل مواطن إسرائيلي. ليست مسألة المشاعر فحسب، مهما كانت قاسية؛ ففي حفلة “نوفا”، في كيبوتسات الغلاف، في “سدروت” و”أوفكيم”، انهارت مسلمات أساسية للحياة في البلاد. أسرة الاستخبارات التي تباهت بقدرتها على الاقتحام والتنصت على أجهزة العدو وجمع كميات هائلة من المعلومات، على مدى السنين، أمسك بها بعدم اكتراث مطلق (ولاحقا تبين أن خطة هجوم حماس، “سور أريحا”، كانت لدى شعبة الاستخبارات على مدى أكثر من سنة). قيادة المنطقة الجنوبية وفرقة غزة احتفظتا بقوة قتالية بالحد الأدنى على مقربة من الجدار بحكم ذاك الاستخفاف بالفلسطينيين.
عندما حل التسونامي، على شكل آلاف المخربين وبعدهم الرعاع الغزي، انهارت المنظومة العسكرية الإسرائيلية في غضون دقائق. الجدار اقتحم، والاستحكامات أحرقت بموجات إثر موجات والقوات انشغلت بدفاع يائس عن نفسها بدلاً من الانطلاق لنجدة المواطنين. ثلل التأهب، من شرطة ومتطوعين، قاتلت ببطولة في البلدات لكنهم اضطروا للانتظار ساعات طويلة حتى وصول قوات التعزيز والإنقاذ من الجيش الإسرائيلي. لم ينهر خط الدفاع فقط، بل انهارت الفكرة التأسيسية للدولة؛ تلك التي اعتقدت بأن كل مواطن يعلق في ضائقة أمنية يمكنه التعويل على الانتظام السريع لإنقاذه حتى لو كان في عنتيبة. حصلت داخل أراضي إسرائيل، على مسافة كيلومترات قليلة من قيادة الفرقة، لكن الجيش الإسرائيلي لم يظهر.
المناورة البرية التي بدأت بعد ثلاثة أسابيع من المذبحة غيرت صورة الحرب. لم تنجح حماس في وقف فرق المدرعات والمشاة، وانسحب رجالها في كل مكان تقدمت فيه قوة إسرائيلية. لكن المنظمة لم تستسلم، بل غيرت صورة عملها وقتالها. أكثر من 40 ألفاً من سكان القطاع قتلوا (الجيش يقدر بأن 15 ألفاً منهم على الأقل هم نشطاء حماس) ونحو 90 في المئة منهم نزحوا من بيوتهم، وهناك عائلات نزحت من مأوى إلى مأوى عشر مرات حتى الآن. معظم المباني في القطاع تضررت ودمرت، في قصف سلاح الجو وفي العمليات البرية.
د. ميخائيل ميلشتاين، خبير في الشؤون الفلسطينية من جامعة تل أبيب، يقول إن “الديمغرافيا والطبوغرافيا في القطاع تغيرتا نتيجة الحرب. نحو 8 في المئة من السكان، الكثيرون منهم متعلمون وميسورون اقتصادياً، غادروا القطاع إلى أن سيطرت إسرائيل على محور فيلادلفيا في أيار. معظمهم في مصر”. على حد قوله، تركوا خلفهم إقليماً دمرت فيه إسرائيل معظم بناه التحتية المدنية، الجامعات والمباني العامة.
ومع ذلك، أبقت حماس حتى الآن على حوكمة فاعلة جداً في معظم أرجاء القطاع، فيما تسيطر قوات الجيش على فيلادلفيا ومحور نيتساريم والقاطع العرضي بمسافة نحو كيلومتر على الجدار الحدودي. وبالذات، دخول القوات أمس إلى شمال القطاع يشدد على أن الحرب لم تحسم. الجيش الإسرائيلي يهاجم هناك، لعل الضغط يشجع السنوار على العودة إلى المحادثات على صفقة المخطوفين. أما عملياً، فلا تقدم في المفاوضات. المخطوفون الذين تركوا لمصيرهم في 7 أكتوبر يتركون لمصيرهم مرة أخرى في هذه الأشهر، والحكومة لا تكترث.
في يوم السنة على المذبحة، يستعد الجيش و”الشاباك” لمحاولات تسلل إلى الغلاف واختطاف جنود إلى القطاع. العملية الإجرامية في بئر السبع التي جرت أمس، تقدم إشارة مقلقة أخرى. شدة الإرهاب من الضفة الغربية هي الأخطر منذ الانتفاضة الثانية. السنوار ألحق بالإسرائيليين ضرراً أكبر؛ سواء في انعدام ثقة بقدرة سلطات الدولة على مساعدتهم، أو في تكيفنا مع التدهور في أنماط قتال الجيش الإسرائيلي، على خلفية فظائع المذبحة والحرب المتواصلة في غزة.
بدون ذرة مسؤولية
نشرت “واشنطن بوست” أمس تحقيقاً شاملاً عن هجمة أجهزة البيجر وأجهزة الاتصال في لبنان، في 17 و18 أيلول. وحسب الصحيفة، هذه حملة من الموساد استغرقت قرابة عقد، وتسارع تحققها بعد أن قرر حزب الله نقل الأجهزة للفحص في إيران، وثار تخوف من انكشاف الذخر الاستخباري فيضيع هباء إذا لم يستغل بسرعة.
إذا كانت رواية الصحيفة صحيحة، فإن الشكل الذي عرضت فيه الأمور على الجمهور في البلاد وكأن هناك قراراً عاقلاً تم اتخاذه بتغيير سلم الأولويات الاستراتيجي وتفضيل ساحة لبنان على غزة، بعيد عن أن يكون دقيقاً. لقد كان تفعيل أجهزة البيجر اضطراراً، ومثله تفجير أجهزة الاتصال التي كان من شأنها أن تنكشف بعد موجة التفجيرات الأولى. الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، وجد صعوبة في تنسيق الخطوات دون شبكات اتصال آمنة وأجرى لقاء مع مسؤولين كبار في منظمته. هذا هو اللقاء الذي كشفته الاستخبارات الإسرائيلية، بشكل سمح باغتياله في 27 أيلول.
بكلمات أخرى، فإن سلسلة الأحداث هنا ظرفية جداً – ونهايتها تصعيد، حتى نار صواريخ حزب الله إلى حيفا و”غوش دان” (التي فشلت في معظمها) ودخول عسكري بري إلى جنوب لبنان. النتيجة، أن إسرائيل تخرج في الشمال إلى حرب عادلة وصحيحة، لكنها لا تفعل هذا انطلاقاً من فهم استراتيجي واضح، ولم تتكبد عناء تحديد صورة نهاية سياسية لنفسها.
مثل السنوار في غزة، نصر الله هو المذنب الأساس في الوضع الصعب الذي علق فيه لبنان. فالمنظومة المهددة التي بناها ضد إسرائيل تضررت، والمواطنون اللبنانيون بقوا بلا حماية في ضوء الهجمات الإسرائيلية، التي تخلف دماراً واسعاً أكثر مما خلفته كارثة ميناء بيروت في 2020. قراره الانضمام إلى هجمة حماس بإطلاق الصواريخ ومضادات الدروع إلى الجليل أدى إلى تصعيد فقد فيه حياته أيضاً. بالتعريف، إيران والولايات المتحدة تورطتا أيضاً في مواجهة انزلقت إلى حرب إقليمية، رغم أن هذه تجري بهدن وبقوة محدودة.
رد الإيرانيون بالنار على إسرائيل بعد اغتيال نصر الله وحسب منشورات أجنبية، بعد اغتيال مسؤول حماس إسماعيل هنية وقبلهما الجنرال الإيراني حسن مهداوي. ووجدت الولايات المتحدة نفسها ترسل قوات مهمة كبرى، جواً وبحراً، كي تحمي إسرائيل. ومؤخراً، بدأ البنتاغون يشتبه بتأخر بما كان واضحاً لدول المنطقة: فقد اعتقد الأمريكيون بأنهم يلجمون إسرائيل من خلال إطلاق قواتهم، أما عملياً فقد وفروا لنتنياهو ريح إسناد، تتيح له أخذ مخاطر أعلى. بعد الصواريخ التي أطلقتها طهران الأسبوع الماضي، توجه إلى الشعب الإيراني بدعوة لإسقاط النظام، وصحافيون مقربون هددوا بالهجوم على مواقع النووي وصناعة النفط التي يعتمد عليها الاقتصاد المتعثر للنظام.
هذا لا يعني أن اقتصاد إسرائيل في وضع لامع. فالتصنيف الائتماني ينخفض تباعاً؛ الاقتصاديون في فزع، وحركة الطائرات إلى إسرائيل محصورة بالشركات المحلية. ورئيس الوزراء يبث تجاه الخارج ثقة بالذات، بينما ينثر تهديدات تجاه السنوار، والزعيم الأعلى الإيراني علي خامنئي، وكل من يقف على رأس حزب الله في الأسبوع القادم. عملياً، يمكن الافتراض بأن نتنياهو القديم والمجرب يفهم بأنه تورط أكثر مما قدر في البداية.
الرجل الذي أدخل وهو يحاول الإفلات من القانون، إسرائيل إلى الأزمة الدستورية والسياسية الأكبر في تاريخها، وقاد حملة تحريض سامة ضد رجال الاحتياط الذين تجرأوا على الاحتجاج، وتجاهل تحذيرات كبار رجال الجيش عن المس الخطير بأهلية الجيش الإسرائيلي – زرع الريح وحصد العاصفة. لقد فوتت الاستخبارات معنى استعدادات حماس للهجمة، لكنها شخصت تفسير إيران وحزب الله وحماس، للشرخ الداخلي في إسرائيل. نتنياهو تجاهل، والتقطت له صور مع زوجته في صيف ما قبل سنة، وهو يضع نظارات وردية ويدعو المواطنين للاستمتاع بالحياة تحت قيادته.
في رفضه حمل أي ذرة مسؤولية، إنما يضيف خطيئة إلى الجريمة. فلا يمكن الاستخفاف بمسؤولية كبار رجالات جهاز الأمن – رئيس الأركان هليفي، ورئيس “الشاباك” رونين بار، ووزير الدفاع غالنت (الذي بشكل ما يتلقى إعفاء جارفاً من وسائل الإعلام بسبب عدائه لنتنياهو) وجنرالات الجيش. الحقيقة أن المستويات المهنية قللت من خطورة التهديد المحدق من حماس، وبالتالي، فشلت في تحليل إشارات الاستخبارات التي وصلت من القطاع في ليلة 6 و7 أكتوبر (غالنت مثل نتنياهو، لم يتم إشراكه في المشاورات؛ هذا أيضاً جزء من فشل الأشخاص تحتهما).
ثمة تعليلات جيدة لإبقاء بعض من الأشخاص في مناصبهم، في ضوء انتشار المعركة إلى لبنان وإيران، ونوايا نتنياهو تعيين أناس من جماعته بدلاً منهم. ونتساءل كيف بعد مرور سنة ومع استمرار الحرب، ما زال أكثر من ثلث المخطوفين يذوون في الأنفاق، ومعظم المسؤولين عن القصور ما زالوا في أماكنهم. المدهش أكثر هو عدم الاكتراث الجماهيري. فالمواطنون لم يعتادوا هذا فقط، بل اقتنع بعضهم بالحملة السلطوية، وكأن الأمور بعامة تجري كما يجب. هذا وضع أمور خطير ربما يؤدي بإسرائيل إلى إخفاقات أخرى.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|