جردة حساب لحزب الله: آن الأوان للعودة إلى حضن لبنان؟
في الثامن من تشرين الأول 2023، قرّر حزب الله إسناد غزة عبر جنوب لبنان، من دون سؤال الحكومة اللبنانية عن قرار يسلبها سلطتها وسيادتها على البلاد لمصلحة قوة خارجية هي حماس ومن يقف ورائها. وكانت حماس والجهاد الإسلامي قد اخترقتا في اليوم السابق من الإسناد الجدار الإسرائيلي العازل بين غزة وإسرائيل، وقامتا بعملية نوعية غير مدروسة عرفت بطوفان الأقصى. وبعد حوالى الشهرين من «الطوفان»، قد بان حجم الخسائر البشرية وفي البنية التحتية لقطاع غزة نتيجة الهجوم الإسرائيلي المضاد، طرح مؤلف الدراسة سؤالين: هل يستحق إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية التضحيات البشرية والمادية التي قدّمتها غزّة والضفة الغربية؟ وهل قدّمت حماس بعمليتها الفرصة الذهبية لحكومة نتنياهو لمباشرة إنهاء القضية الفلسطينية، في غزّة أولا، ثم في الضفة الغربية وبالتالي تهجير الفلسطينيين؟ («اللواء» 6/12/2023).
وفي 30 أيلول المنصرم، طرحنا من على موقعنا على الـ«فايسبوك» سؤالا على الشيخ نعيم قاسم عن فائدة الاستمرار في إسناد غزة، وكانت ثلاثة أيام قد مرّت من اغتيال حسن نصر الله الذي ذكر في كلمة له عقب تفجير إسرائيل البيجرز، بأنها تتفوّق على الحزب في الأعداد والتكنولوجيا والعسكر وفي الدعم الأميركي لها. وسألت نعيم قاسم عن فائدة الإسناد، في ضوء المعطيات التي عرضها نصر الله، والتدمير الحاصل في الضاحية الجنوبية واغتيال إسرائيل قيادات من الصف الأول والثاني والثالث للحزب، لعلّه يراجع نتائج سنة كاملة من الإسناد على الحزب وعلى شعب لبنان الصامد المنهك.
سوف نتناول في الدراسة إسناد الحزب غزة ضمن أربعة محاور، وهي تبعيته لإيران وتغليفه ذلك بشعار تحرير القدس، وتوازن القوى وقدرات كل من إسرائيل وحزب الله وإيران، ووظيفة الحزب في لبنان كمخلوق إيراني، وأخيرا، طرحنا سؤالا: هل يعود الحزب إلى حضن الوطن؟
أولاً: الصلاة في القدس بالاتكال على خامنئي وصواريخه
لا يبدو أن التنظيمين «الممانعين» التابعين لإيران، حماس والحزب، قد درسا بعناية كافية، كل على انفراد، قدراته العسكرية والاقتصادية والمجتمعية قبل الطوفان والإسناد، وفي المقابل قوة إسرائيل وقدراتها، وهي أكبر دولة عسكرية وتكنولوجية في الشرق الأوسط. نعم، كانت إسرائيل تستفز الفلسطينيين في الضفة وغزة وإذلالهم لإيصالهم إلى انتفاضة أو «طوفان» تستغلّه لتصفية القضية الفلسطينية. ولا يبدو أنهما كانا يعلمان مدى تفوّق إسرائيل على جيرانها/ أعدائها، ولا أن وجودها بالنسبة إلى الولايات المتحدة مسألة استراتيجية حيوية منذ قيامها، فيما دول أخرى في المنطقة، عدا إيران، تتمنى همسا الخلاص من التنظيمين، ليستقرّ الوضع في المنطقة من دون ممانعات إيرانية. وكان نتنياهو يخطط لتدمير التنظيمين وإقرار ميزان قوى جديد في المنطقة.
صحيح أن حزب الله كانت لديه ترسانة من السلاح الإيراني، وقد فاخرت دعايته بالصواريخ التي يملكها وأن عددها يفوق المئة ألف، وكذلك بطلعاته الاستخباراتية الجوية فوق إسرائيل. وقد طبّلت إيران بقوتها وبقوة الحزب إلى درجة تحويل الأخير إلى عملاق للتخويف في لبنان الضعيف والمنطقة المتوجسة، وإلى «دولية إقليمية» بالاستيلاء على صلاحيات الدولة اللبنانية وتطويع شعبها، وبتدخّله في سورية وفي بلدان عربية منذ العام 2012. وقد استخدم نصر الله وإيران مقولة تدمير إسرائيل و«تحرير القدس» والصلاة فيها، وربما مع خامنئي، وسيلة لاستقطاب بيئته والمضللين والمأجورين من قبله، فضلا عن المزايدة على العرب أصحاب القضية أساسا. في المقابل، فإن اعتقاد حماس ومن معها، أن طوفان الأقصى سيسقط الحكومة الإسرائيلية ويقلب الأوضاع في الدولة العبرية وفي المنطقة لمصلحة غزة، وعلى حساب سلطة محمود عباس، «مختار» الضفة الغربية عند تل أبيب. ومن المؤكد أن استشراف حماس والحزب الوضع الراهن قبل مباشرة «الطوفان» و«الإسناد»، على الأقل منذ سنة، لم يتم وفق المعايير الموضوعية والعلمية للسياسة والاستراتيجية وتوازن القوى في المنطقة وفي العالم، وفي الولايات المتحدة بالذات على أعتاب الانتخابات الرئاسة، بل باتكالهما على «إله بشري»، على الأقل بالنسبة إلى حزب الله، هو خامنئي. ولا يبدو أن التنظيمين أخذا بعين الاعتبار مناورات إسرائيل المتكررة للحرب على جبهات عدة، وربما اعتبراها ضمن الحرب النفسية والتهويل.
في صحيح ابن حِبّان، أن اعرابيا قال للنبي محمد «أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّلُ» على الله؛ فأجابه النبي: «اعقِلْها وتوكَّلْ». ولا يبدو من سياق طوفان الأقصى وإسناد قطاع غزة من لبنان، أن الحزب والحركة قد عملا بنصيحة النبي، بل بالاتكال على إيران كإله خلقهما، واعتقادهما الخاطئ بأنهما يشكّلان معها ثلاثيا مقاوما في المنطقة يسيرون معا على طريق القدس، كما يُشاع، وليسا أدواته أو أذرعه.
ولا يبدو أن الحركة والحزب فحصا بيتهما جيدا من الداخل المليء بعملاء وجواسيس وصوليين، فضلا عن عجز المجتمع الدولي والأمم المتحدة عن وقف استهدافهما المخطط له من قبل العدو الذي يحصل على تأييد واشنطن وغيرها لتصفية الجماعات «الإرهابية» في المنطقة وإعادة تشكيلها من جديد. وأثبتت التظاهرات الشوارعية في بلدان العالم أنها لا تكفي لثني حكوماتها عن مخططاتها الخارجية أو تأييدها لإسرائيل. ولم يؤدِّ أخذ إسرائيل زمام المبادرة في غزة منذ صيف العام الجاري، وفي لبنان منذ أواخر أيلول الجاري، إلّا إلى الكوارث عليهما، وعلى الشعبين هناك وهنا، والتدمير الهمجي الممنهج المفرط الذي ينتظره لبنان على نسق غزة.
لقد عاش قادة حزب الله في وهم قوة إيران ودعايتها الصاروخية، كما وهم صدام حسين في صواريخه من قبل، وأن باستطاعتهم تدمير الكيان الصهيوني في دقائق. وكان هذا أقوى مورفين اجترعته شعوب المنطقة، وبخاصة الفلسطينيين والعراقيين واليمنيين، وقسم كبير من اللبنانيين. ولا يبدو أن حزب الله فهم سرّ تمكن إسرائيل من استهداف العلماء والعسكريين الإيرانيين في قلب إيران، وفي سورية، وفي القنصلية الإيرانية في دمشق، حتى في استهداف هنية. إن خلف الإنجازات الإسرائيلية هو الإعداد العسكري الجيد والتقنية المتفوّقة والتراكم الاستخباراتي بصمت منذ سنوات، ووضع الخطط وتدعيم التماسك المجتمعي الداخلي. وربما ظنّ التنظيمين أن تظاهرات أهالي الأسرى الإسرائيليين هي ضد تصفية حماس، وليس استعادتهم فحسب. فكانت حكومة تل أبيب تعدّ لهذا اليوم المشؤوم، غزاويا ولبنانيا، والميمون صهيونيا. ولهذه الأسباب، خبت المقاومة في غزة منذ أواخر صيف العام الجاري، واستطاعت إسرائيل في الوقت ذاته، أن تحسم حربها الجوية الاستخباراتية التقنية على لبنان في خلال ثلاثة أسابيع، بعدما مهدت إلى ذلك بعملية استخباراتية-تقنية غير مسبوقة بتفجير أجهزة البيجرز في 17 أيلول المنصرم بمئات من عناصر حزب الله، من دون أن تدوس قدم جندي إسرائيل أرض الجنوب. وقبل أيلول، قتلت طائراتها ومسيّراتها المئات من مقاتلي الحزب والقيادات المحلية من الصف الثالث والثاني، فضلا عن المواطنين الأبرياء وممتلكاتهم وأرزاقهم. كذلك، دمّرت الحجر والبشر في الضاحية الجنوبية ومناطق أخرى، واصطادت، قبل البيجرز وبعده، قيادات الصف الأول، الواحد تلو الآخر.
لم يسأل قادة حزب الله أنفسهم عما يحدث، ولماذا لا تتدخل إيران لمساندتهم؟ وهل كتب الإسناد على حزب الله وحده، وهو جنديها وحرسها ووكيلها الذي يفتديها؟ حتى أن قادة الحزب لم يسألوا، حتى الان، إلى أي مدى يمكنهم الصمود بعدما دُمّرت الضاحية ومناطق أخرى، وتلاشت أحلام الذين ماتوا ومعها أمالهم في عيش كريم، لا شهداء في سبيل قضية خرجت عن مسارها منذ تحرير لبنان في العام 2000، ليس على يد الحزب وحده، بل بصمود اللبنانيين على الضربات الإسرائيلية لمرافق لبنان الحيوية ودعم الدولة اللبنانية؟
إن الصواريخ التي يطلقها الحزب على إسرائيل، لا تضعفها استراتيجيا، بل تزعجها وسكان غلاف غزة وشمال إسرائيل، ونتنياهو يستغل ذلك للقضاء على القضية الفلسطينية وعلى الحزب. صحيح أن ما حدث حتى الآن على يد إسرائيل، لم يكن في حسبان الحزب الذي عاش في وهم النصر والتربع على قمة السياسات في المنطقة والتدخلات أيضا، لكن توالي الاستهدافات الإسرائيلية، جنوبا وضاحية وبقاعا وبيروت، وصولا إلى فؤاد شكر وإبراهيم قبيسي ونصر الله وصفي الدين، لم تجعل الحزب يتعقلن ويتوقف عن مساندة غزة، إلّا قبل أربعة أيام وعلى لسان نعيم قاسم، ربما أحد القلائل المتبقين من قيادات الصف الأول على قيد الحياة، وذلك بعدما أصبح شبح القرارين 1559 و1701 اللذين عطّل الحزب مفاعيلهما منذ العامين 2004/2006 يلوح في الأفق.
إن نزع سلاحه وتموضع الجيش اللبناني محله في الجنوب، يضج مضاجع الحزب، بعدما أصبحت حكومة تصريف الأعمال اللبنانية تتحدث علنا مع الدوائر الدبلوماسية الأميركية والفرنسية عن تطبيق القرار 1701. وها هو بري فتح خطا مع الأميركيين والفرنسيين لترتيب الوضع على أساس 1701؛ لكن إسرائيل لن تقبل إلّا بالقرار 1559، أي تجريد الحزب من سلاحه. أيعجز الحزب عن تغيير أسلوب «نضاله» ليحاكي التقدم النوعي الإسرائيلي العسكري والتقني والاستخباراتي، وبالتالي القيام بعمليات أمنية في قلب العدو أو في الخارج، وبالتالي تجنيب لبنان خسائر بشرية ومادية تسقط كل يوم من دون فائدة؟ لا بد أنه عاجز عن ذلك، ومن ورائه إيران، ويكتفي بصواريخ خامنئي، وهذا يأخذنا إلى قدرات كل منهما وقدرات إسرائيل.
ثانياً: توازن القوى وقدرات إسرائيل في مقابل إيران والحزب
هل سأل حزب الله نفسه عن قدراته في مقابل إسرائيل؟ وهل صدق بالفعل أن إيران شريكته وظهيره للقضاء عليها؟
خلال أكثر من عقدين، طبقت تل أبيب ضد إيران وأذرعها في المنطقة، في لبنان وسورية والعراق واليمن، نظرية الصحافي الإسرائيلي رونين بيرغمان المشتقة من مقولة تلمودية جعلته أجهزة الأمن الإسرائيلية نبراسها: «انهض وأقتل أولا»، أي أقتل عدوك قبل أن يأتي إليك. وكان البرنامج النووي الصاروخي الإيراني، وعلماء الذرة والنووي الإيرانيين والعسكريين، في صلب تلك المقولة، ويأتي بعدهم قادة حماس وحزب الله كتابعين. وشملت المقولة، عدا الضغوط الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية على إيران، وبخاصة الأميركية منها، القيام بعمليات تخريبية في الجمهورية الإسلامية منذ العام 2010، عبر عملاء في الداخل، وتعطيل نقل الأجهزة والمواد الخام من الخارج لمفاعليها، فضلا عن عمليات سرية ضد منشآت نووية واغتيال شخصيات علمية وعسكرية تعمل في البرنامج النووي والصاروخي. وتستخدم إسرائيل في عملياتها تقنية الذكاء الاصطناعي التي تجهلها إيران على ما يبدو. وفي قمة المستهدفين السياسيين في إيران، إسماعيل هنية في تموز 2024 الذي قلبت تصفيته النظام كله هناك. وهذا يدلّ على الاختراقات الإسرائيلية لإيران، غير الذكية اصطناعيا أو بقدراتها الذاتية.
إن انتماء الحزب إلى نظام الملالي واستخدام لغة العنتريات والهوبرات أما أشباه رجال، جعله أعمى عن إدراك ضعف إيران واختراقها من قبل إسرائيل بالعملاء والتقنيات والاستخبارات، وبالتالي الانجرار وراء مشاريعها في المنطقة، فضلا عن وقوفها بالشعارات فقط وراء طوفان الأقصى وجبهة الإسناد اللذين بقيا من دون إسناد. فخسرت غزة قرابة خمسين ألفا من شعبها ومئة ألف من الجرحى، فيما خسر لبنان، حتى قبل عملية البيجرز نحو 900 قتيل وأكثر من ألفين من الجرحي. وفيما دمّرت غزة بخسائر تصل إلى 50 مليار دولار في البنية التحتية، بلغت خسائر لبنان قبل أيلول، في الممتلكات والأرزاق قرابة خمسة مليارات دولار.
وعندما فشل هجوم إيران الصاروخي-الباليستي والمسيّراتي على إسرائيل في نيسان المنصرم ومطلع تشرين الأول الجاري، لم يراجع الحزب قدرات إسرائيل، ودفاع أميركا وبريطانيا عنها وتأثيره في توازن القوى، وظل على تبعيته الأيديولوجية العمياء لإيران التي تنتظر ردّا إسرائيليا مرتقبا بقلق، وبتصريحات رنّانة لردّها المضاد بقوة على الكيان الصهيوني. ولم يحاول الحزب استشراف أسباب وهن إيران، ولا تلاعبها له كحرس ثوري لها محدد دوره الوظيفي، كما سنرى بعد قليل. وكانت الأوامر تصل إليه مباشرة عبر السفارة الإيرانية في بيروت، أو من خلال زيارات قادة الحرس الثوري والمسؤولين الإيرانيين إلى بيروت ودمشق، وبالطبع إلى لبنان من دون فيزا أو «دستور».
ثالثا: وظيفة الحزب في لبنان إيرانياً: إنهاء الدولة اللبنانية
لم يعر حزب الله إذا الضعف الاستراتيجي والعسكري والاستخباراتي لإيران، وسار ورائها كرأس حربة لقوى الممانعة في قلب العالم العربي. وقام بغسل «أدمغة» أتباعه للانتقال من الانتمائية اللبنانية إلى الإسلاموية الإيرانية، التي أعلن عنها في أول بيان له في شباط العام 1985، فيما أبقى على هويتهم اللبنانية دون تعديل، إلى حين آخر. ولم يتولد لدى الحزب مرة واحدة شعور بالولاء للبنان، أو لأمنه القومي ومصالحه. فطاعة الولي الفقيه ملزمة ولا يمكن معارضتها أبدا. وقد حٌددت وظيفته بإلحاق لبنان بولاية الفقيه، عبر تحويل نفسه إلى رقم صعب في المعادلة السياسية اللبنانية. والعمل على إنهاء مؤسسات الدولة وسيادتها على أراضيها وعلى شعبها، وتخريب العلاقات بين الطوائف، وبين أتباع المذاهب في الطوائف، حتى أن الحزب ضحّى بمصالح لبنان الاقتصادية والمالية والقومية بضرب علاقاته بالعالم العربي ومع الخارج. وكان وراء دعم نظام دموي في سورية، وتأمين الأوكسيجين له من حساب اقتصاد لبنان وشعبه منذ العام 2020 (النفط والقمح والعملة الصعبة..)، حتى أنه كان وراء تخزين الأمونيوم في مرفأ بيروت وتفجيره من قبل إسرائيل الذي كشف لقمان سليم جانبا من خفاياه، ودفع حياته ثمنا. إن ترسيم النفط والغاز بين لبنان وإسرائيل في العام 2022 بضغط من حزب الله على الحكومة اللبنانية العرجاء، وبوساطة أميركية مشبوهة وتواطؤ إيراني، على أساس الخط 23، وليس الخط 29 الموضوع من قبل الجيش اللبناني، أضر بمستقبل لبنان المنهار، اقتصادا ومجتمعا.
وقد أدّت ثلاثية الحزب: «شعب وجيش ومقاومة» إلى تدمير الدولة اللبنانية وإنهاء وظيفتها وتعطيل دور جيشها الوطني، وإفراغ دستورها من أي معنى، وقلبت كل الموازين لمصلحة الحزب بعد اغتيال رفيق الحريري، الذي تلاه اجتياح الحزب بيروت واتفاق الدوحة في أيار العام 2008. وفي مقابل غض الطرف عن سلاحه، قدّم الحزب الطعون والرشاوى المالية والوظيفية والنيابية والوزارية والرئاسية لسياسيين لبنانيين وأحزاب فاسدين، وهو يدرك شهواتهم وتعطشهم إلى المال والسلطة. وتحوّل الجيش اللبناني من قوة عليها أن تتموضع في الجنوب وتحميه، إلى قوة أمنية في شوارع لبنان تلهث في زواريبها. وعمل على إفلاس لبنان، وكان وراء نحر الاقتصاد الوطني لحساب اقتصاده «الإسلامي» الخاص. حتى أن الوحدة 121 في الحزب، التي كانت تتلقى أوامرها من إيران، ومباشرة من نصر الله، كانت وراء معظم الاغتيالات لمناضلين وزعماء لبنانيين وطنيين، بدءا من الحريري إلى لقمان سليم، فيما ضرب الحزب بعرض الحائط قرار «المحكمة الخاصة بلبنان» في العام 2020، في شأن اتهام عناصر منه باغتيال الحريري. ليس هذا فحسب، فوقف ضد القضاء اللبناني والتحقيق في انفجار مرفأ بيروت، وصولا إلى تهديد وفيق صفا لهما في قلب العدلية.
وقد خشيت حركة أمل من أن يبتلعها الحزب، وهو قادر على ذلك، فقبلت بتقية بري ودهائه ودبلوماسيته، بأن تؤدي دور «شريكه المدلل». وفي العامين 2019 و2020، أجهض الحزب بدعم من الحركة الانتفاضة اللبنانية، خشية نجاحها ووصول قوى غير خاضعة لهما إلى الحكم، فيما يتم قطع تواصل الحزب مع إيران عبر سورية والعراق، في حال قامت قوى سياسية سيادية جديدة بضبط الحدود مع سورية. لذا، كان بقاء الأسد في السلطة، وانهيار الدولة اللبنانية، مشروعا استراتيجيا مطلوبا إيرانيا.
رابعاً: إلى حزب الله... هل فات الأوان للعودة إلى الوطن؟
نسأل: كيف يمكن للحزب الصمود في وجه التفوّق والذكاء الاصطناعي الإسرائيلي والتقنيات والقدرات العسكرية والاستخباراتية، فيما هو مخترق وتتناقص أعداد قياداته يوما بعد يوم. في آخر تصريح للحزب بتاريخ 12 الجاري، جاء أنها «شدّة وتزول». وبرأينا، إنها ليست «شدّة تزول»، بل كارثة إنسانية ووطنية وخراب للبنان المفلس والضعيف، سوف تستمر لأجيال وتهدّد ما تبقّى من الدولة اللبنانية وشعبها، وبالتأكيد هي من صنع أياديه. لماذا لا يسأل الحزب الولي الفقيه عن مساندته له، وقد اختبأ كي لا تغتاله إسرائيل وقد فعل الشيء نفسه بغزة؟ هل أعاق الولي الفقيه إسرائيل عن اجتياح غزة وتدميرها حجرا وبشرا محاصرتها وإغلاق منافذها؟ هل أطلق صاروخا واحدا على تل أبيب؟ الجواب لا شيء بكل المقاييس والمعايير. إن إطلاق صواريخه على إسرائيل في 13 و14 نيسان المنصرم (الوعد الصادق) كان رد فعل على الغارة الإسرائيلية على قنصليته في دمشق، كان لحفظ ماء الوجه، حيث لم تسبب صواريخه بأضرار لإسرائيل، سوى صاروخ واحد على النقب. إن مساندة أميركا وبريطانيا والأردن في اعتراض الصواريخ، كانت رسالة إلى الحزب لم يفهما حول توازن القوى في المنطقة. ولم يفهم مغزى تزويد أميركا إسرائيل بقنابل الـ 2000 طن لضرب غزة وبيئته في ضاحية لبنان الجنوبية.
كما حماس، فقد ورّط الولي الفقيه الذي يقدّسه الحزب ويرد ذلك في دساتيره وبياناته منذ تأسيسه الرسمي في العام 1985، لبنان ودولته وأهله وبيئة الحزب الحاضنة في صراع ليس بصراعهم منذ تحرير جنوب لبنان، عندما حقق الحزب أهم نصر في تاريخ الأمة العربية، وأصبح نصر الله رمزا للنضال. ونسأل: ماذا فعل إسناد غزة منذ تشرين الأول 2023 حتى اليوم؟ مئات من المقاتلين سقطوا، وأكثر من ألفي جريح، وعشرة آلاف جريح، ومليون ومئتي ألف نازح من الجنوب والمناطق المستهدفة والضاحية الجنوبية. اللبنانيون يحتضنون نازحين وفتحوا بيوتهم ومدارسهم ومؤسساتهم لهم. لكن هناك من ينام في شوارع بيروت وفي المناطق، وتطالبونهم بالصمود. ما قدّمتم لهم سوى بيانات عسكرية بالتصدي للعدو وإطلاق الصواريخ التي لا تحقق أي هدف استراتيجي يجبر العدو على وقف النار في غزة أو حتى على لبنان. ونادرا ما تصل الصواريخ إلى أبعد من حيفا. الضاحية الجنوبية دُمّرت على آخرها. قياداتكم تختبئ بين المدنيين من غارات إسرائيل، بينما اختبأ كل صدام حسين ومعمر القذافي بعيدا عن المدنيين حفاظا عليهم، قبل يشنق الأول ويقتل الثاني. يسقط قائد منكم هنا وهناك، في مقابل عشرات القتلى الأبرياء في مساكنهم. إيران صامتة خرساء، ليس لها سوى لسان يروّج الحديث عن «محبتها الفائقة» للسلم الإقليمي، فيما تشتعل المنطقة ويسقط وكلاؤها...
ارحموا شعب لبنان، ارحموا شعبكم، وليخرج أحد منكم ويقول بضمير إنساني: إننا ضللنا الطريق. في ضوء الخسائر التي مُنيت بها القوات الإيرانية على أيدي العراقيين في العامين 1987 و1988، وكذلك بعد حوالى أسبوعين من اسقاط الأميركيين طائرة مدنية إيرانية، أعلن الخميني في 19 تموز 1988 القبول بقرار مجلس الأمن الدولي ووقف اطلاق النار مع العراق الذي كان يرفضه منذ العام 1980، واصفا نفسه كمن «يجترع السم». وبعد الخسائر الجسيمة التي تعرّض الحزب لها على يد إسرائيل، حريّ به أن يمتثل بالخميني، بل هذا واجبه، فيوقف القتال من جانب واحد ويترك الأمر للحكومة اللبنانية لترتيب انسحابه إلى شمالي الليطاني وحلول الجيش اللبناني محلّه، فضلا عن تسليم سلاحه، كما جاء في تصريح للعلّامة السيد علي الأمين قبل يومين.
لقد صرّح نعيم قاسم قبل عشرة أيام أن الحزب باقٍ على موقفه بإسناد غزة. وقبل أيام قليلة، تخلّى عن إسناد غزة، على وقع الاغتيالات والقصف الإسرائيلي المدمّر، وقال إن حزبه يقبل بوقف إطلاق النار، وهو يعلم أن إسرائيل لن تقبله. ومعنى القبول بوقف الإسناد من قبل الحزب، نظريا وعمليا، أن سنة كاملة من الصراع وإزهاق الأرواح ذهبت سدى، فيما دُمّرت الممتلكات والأرزاق، وازداد النزوح من الجنوب على مذبح مصالح إيران في المنطقة وسلامتها. أليس الأجدى للحزب، بعد الخسائر الضخمة التي مُني بها على يد إسرائيل، قادة وتهجير الناس وتدمير الممتلكات والقضاء على المستقبل، التخلّي عن «النضال» الطويل بذريعة أن مزارع شعبا والغجر محتلتان، بهدف الاحتفاظ بالسلاح، والعودة إلى حضن الدولة اللبنانية؟ تذكروا، كيف استرجعت مصر طابا سلماً عبر هيئة التحكيم في جنيف في العام 1988.
ليس هناك لبناني شريف عاقل يقبل ببقاء الحال على ما هو عليه. لبنان يتسع لجميع أبنائه، وقد أضاع الحزب أكثر من أربعة عقود من تاريخ لبنان وتقدّمه ورخاء شعبه، وسلاحه مرفوع في وجه الدولة واللبنانيين. فهل سيراجع سياسته ويقوم بنقد ذاتي لتجربته، أم سيبقى على مقولة اتهام الآخرين بالعمالة والخيانة؟ عكس ذلك، ستستمر إسرائيل في تدمير لبنان على آخره، واغتيال من بقي منكم، فيما تزداد الدعوات إلى الفدرالية أو الانفصال عن لبنان الكبير. إن الإسلام هو عقيدتكم، ومذهبكم هو رابط روحي بينكم وبين إيران، لكنه ليس رابطا سياسيا ولا يجب أن يكون. روابط الموارنة والكاثوليك بالفاتيكان، وروابط السنّة بالأزهر، والسعودية التي تحتضن الأماكن المقدّسة لا تصل إلى السياسة. لبنان هو وطنكم إذا شئتم. والعودة عن الخطأ فضيلة، إذا نبعت من القلب والعقل. نحن اللبنانيين روّاد حياة، نعيش لنحيا، وما وجودنا على الأرض إلّا للاستمتاع بالحياة، أما الموت المكتوب علينا في غير موعده ومكانه، فلا نريده إلّا في وقته، ودفاعا عن لبنان الوطن الغالي.
عبد الرؤوف سنّو-اللواء
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|