الحرب على حزب الله كانت مسألة وقت؟!
يجب الاعتراف أن هذا الرأي يجافي تصوّرات سابقة كانت تستبعد العدوان المُوسّع. لم تكن تلك التصورات نابعة من الاستخفاف بقدرات "إسرائيل" وتفوّقها التقني والجوي. كانت تستند بالأحرى إلى قدرات وإمكانات المقاومة اللبنانية التي لم تصل في أي وقت من تاريخها إلى ما كانت عليه عشية 17 أيلول/ سبتمبر.
الردع لم يكن وهماً
هذه القدرات المتنامية منذ انتهاء حرب تموز 2006 أرست قواعد ردع لجمت أي عدوان إسرائيلي على امتداد 18 عاماً. الشواهد على هذا الردع لا تقتصر على الهدوء النسبي الذي شهدته جبهة الجنوب طوال هذه المدة. في محطات مفصلية أثبتت معادلة الردع جدواها وفعاليتها، عملياً وميدانياً.
بفعل ذلك الردع، اضطرت "إسرائيل" إلى الرضوخ لترسيم الحدود البحرية مع لبنان بعد مماطلة استمرت نحو عشر سنوات. أثمر التهديد العسكري من قبل حزب الله وقتها باستهداف منشآت الغاز الإسرائيلية في حفظ حقوق لبنانية كانت "إسرائيل" تنوي ابتلاعها بالكامل.
اتهم بنيامين نتنياهو حينها رئيس الحكومة يائير لابيد بما سمّاه الخنوع أمام تهديدات حزب الله. لكن الأهم في هذا السياق ما نقلته وسائل إعلام إسرائيلية أن لابيد اعتمد على توصية المستويين الأمني والعسكري في توقيع الاتفاق الذي تم في تشرين الأول/أكتوبر 2022. اتفاق لم يعمد نتنياهو إلى إلغائه عندما استلم الحكم بعد أسابيع، خلافاً لكل وعوده بإلغائه، ورغم كل الاتهامات التي كالها لخصمه.
لاحقاً، في ظل حكومة نتنياهو الأكثر يمينية وتطرفاً وعدوانية، كان أمام العدو الإسرائيلي مجموعة فرص لشن حرب على لبنان. لسبب ما امتنع عن ذلك. هل يمكن التفكير في سبب آخر غير الردع وحساب الكلفة الذي منعه من ذلك؟
ذرائع لم تؤد إلى حرب
في آذار/مارس من العام الماضي، حصلت عملية "مجيدو". أعلنت أجهزة الأمن الإسرائيلية أن حزب الله يقف وراءها. إذاعة "الجيش" الإسرائيلي ذكرت أن تلك العملية تدخل في سلسلة عمليات احتكاك بادر إليها الحزب، وبلغت وفق مصدر الإذاعة 250 حادثة شملت أيضاً الجيش اللبناني حتى ذلك التاريخ.
في نيسان/ أبريل الماضي، جرى إطلاق نحو 30 صاروخاً من جنوبي لبنان في اتجاه مستوطنات العدو الشمالية. كان السبب هو الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى التي تزامنت مع شهر رمضان. ردت مدفعية الاحتلال باستهداف بساتين موز على أطراف بلدتي القليلة والمعلية في قضاء صور. لم تتبن أي جهة العملية، لكن "إسرائيل" اتهمت حماس بالوقوف وراءها بضوء أخضر من حزب الله، في ما عدّه مراقبون محاولة لتجنب توتر مع الحزب.
أيضاً في حزيران/يونيو 2023، أنشأ حزب الله اللبناني خيمتيْن في مزارع شبعا المحتلة، أزال إحداها وأبقى الأخرى. لم تستطع كل التهديدات الإسرائيلية إزالة الخيمة التي عدّتها "تل أبيب" انتهاكاً لسيادتها. "إسرائيل" التي لطالما هاجمت الأمم المتحدة ومزّقت ميثاقها علناً تقدّمت، للمفارقة، بشكوى إليها في ذلك الحين زاعمة أن حزب الله نصب خياماً داخل أراضيها. أوضح الشهيد السيد حسن نصرالله في هذا الصدد أن الإسرائيليين لم يجرؤوا على اتخاذ أي خطوة ميدانية تجاه الخيمة وأنهم توسطوا لحلّ الموضوع.
ماذا تعني كل هذه الشواهد؟
إلى تاريخ ما قبل عملية "طوفان الأقصى" كانت قواعد الردع ما زالت فعالة ومؤثرة ولاجمة لأي اعتداء إسرائيلي على لبنان. مقدّرات حزب الله وإمكاناته منعت العدو من التمادي والمغامرة، رغم ما يمتلك الأخير من تفوّق عسكري وتقني. اعتمدت قيادة المقاومة على هذا التقدير عندما فتحت جبهة الإسناد وفي اعتبارها أمران أساسيان: منع الاستفراد في المقاومة الفلسطينية، ومحاولة تجنيب لبنان ما أمكن من تبعات هذه الحرب من خلال فرض قواعد اشتباك مضبوطة. لكن، ما الذي حصل بعد ذلك؟ وهل جرى الخرق الذي سمح لـ"إسرائيل" بمباغتة حزب الله بعد عملية "طوفان الأقصى"؟
ليس هناك الكثير من الاحتمالات في الجواب على ذلك. إما أن عملية الخرق حصلت قبل "طوفان الأقصى"، وإما بعدها، أو بدأت قبلها لكن "إسرائيل" انتظرت شهوراً إلى أن تكتمل، وربما بمساعدة أطراف دولية على رأسها الولايات المتحدة. تدخل هنا تفاصيل ما زالت محجوبة وغير معلنة من قبل المقاومة، مثل تاريخ إدخال "البيجرات" المفخخة إلى الخدمة التي أشارت تقارير غربية إلى أن عملية الإعداد لها استغرقت سنوات.
بمعزل عن أي واقع، يبقى ماثلاً سؤال بديهي: هل كانت "إسرائيل" لتفوّت فرصة الانقضاض على حزب الله متى أتيحت لها فرصة تحييد قائده ومعه عدد مؤثر من القادة العسكريين الفاعلين؟ هل تتجنّب ذلك، في أي مرحلة، وبمعزل عن "طوفان الأقصى"، إذا ما وجدت أن جدوى هذه الخطوة تفوق كلفتها؟ وهل يمكن أن تتوانى عن ذلك إذا ما اقتنعت أن ما تحوزه من بنك أهداف موثوق، برأيها، يتيح لها تحقيق ضربة قاصمة وفق تقديرها؟
ad
لحظة نضوج القرار
الأكيد أن "إسرائيل" بعد "طوفان الأقصى" لم تعد "إسرائيل" نفسها قبل الطوفان. كُتبت الحرب على لبنان منذ لحظة الطوفان، ليس بقرار إسرائيلي فقط، إنما على الأرجح بقرار أميركي أيضاً.
السبب أن اختلالاً حصل في موازين الشرق الأوسط بعد العملية لصالح محور المقاومة. مثّل حزب الله رأس الحربة في هذا المحور، وطالما صنّفته معاهد ومراكز متخصصة في "الأمن القومي" الإسرائيلي على امتداد سنوات على أنه يشكل تهديداً استراتيجياً للكيان. تعزّز ذلك بعد امتلاكه أسلحة عدّتها "إسرائيل" كاسرة للتوازن خلال السنوات الفائتة، وتعزّز أكثر بعد "طوفان الأقصى".
من هذا المنطلق، كانت الحرب التي استعدّ لها الطرفان منذ نهاية حرب تموز، مسألة وقت مهما حاول حزب الله الابتعاد عنها. شكّل "طوفان الأقصى" نقطة اللاعودة باتجاه هذا القرار، انطلاقاً من تضافر مجموعة أسباب واعتبارات:
أولاً، اعتبار "الأمن القومي" الإسرائيلي الذي تعرّض إلى زلزال في عملية "طوفان الأقصى".
ثانياً، اعتبار المصالح الاستراتيجية الأميركية وتصحيح الاختلال الناشئ في ميزان القوى الإقليمي، في ما لو بقي حزب الله محافظاً على قدراته وجاهزيته.
ثالثاً، اعتبار الرؤية اليمينية للحكومة الإسرائيلية، إضافة إلى وجود مصالح حزبية وشخصية لأطرافها باستمرار الحرب، لا سيما من قبل بنيامين نتنياهو المُهدد بالمحاكمة.
رابعاً، وجود خرق استثنائي وغير مسبوق في جسم المقاومة يتيح للعدو شنّ حرب استباقية وتحمّل أثمان المخاطرة.
خامساً، أن المجتمع الإسرائيلي بات مهيأ لمثل هذه الحرب ودفع أثمانها المفترضة عقب "طوفان الأقصى". منذ ذلك الوقت، بات هذا المجتمع مقتنعاً أنه في خطر وجودي، وقد عزّز هذا الشعور وساهم في الترويج له الإعلام الإسرائيلي وخطابات الأحزاب السياسية. سكان مستعمرات الشمال كانوا الأكثر تطرفاً في هذا المطلب؛ نظراً إلى ما تعرضت له منطقة شمالي فلسطين المحتلة من أضرار، عدا عن تآكل الردع وضمور هيبة الاحتلال، وفقدان شعور الأمن الذي يمثّل شرطاً وجودياً لاستمرار الاستيطان.
الذريعة موجودة حتى لو انكفأ حزب الله
ينبئ تاريخ المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي أنه لا تعوزه الذرائع متى وجد فرصة في التوسّع أو مصلحة في العدوان. اجتياح لبنان عام 1982 دليل على ذلك، كذلك نية الاحتلال المعلنة والصريحة هذه الأيام بالسعي إلى ضم الضفة الغربية.
التوسّع والإحلال هما من صلب طبيعة هذا الاحتلال. ينطبق عليه هذا الأمر تكويناً وليس من قبيل الوصف البلاغي. في الأيام الأخيرة، قدّم الإعلام الإسرائيلي دليلاً إضافياً على أطماعه التاريخية في لبنان. عرضت "جيرازاليم بوست" مقالاً كتبه نائب مدير الاتّصالات في حكومة بنيامين نتنياهو سابقاً مايكل فرويند ادعى فيه أن "جنوب لبنان من وجهة نظر تاريخية، هو في الواقع شمال إسرائيل"، وأن جذور الشعب اليهودي في هذه المنطقة عميقة.
سياق الحديث هنا هو عن الذريعة التي كانت "إسرائيل" سوف تجد سبيلاً إليها في نهاية المطاف، حتى على فرض وقوف حزب الله على الحياد وامتناعه عن فتح جبهة إسناد. كيف؟
أحد السيناريوهات الواقعية والمتوقعة هو أن تبادر فصائل فلسطينية أو غير فلسطينية، مُعلنة أو غير معلنة، إلى إطلاق صواريخ باتجاه مستعمرات الشمال دعماً لغزة. حصل ذلك خلال الحرب الحالية كما حصل في مناسبتين خلال السنوات الفائتة. في نيسان/أبريل الماضي جرى إطلاق نحو 30 صاروخاً في اتجاه شمالي فلسطين كما استعرضنا سابقاً. كما حصل هذا الأمر خلال معركة "سيف القدس" عام 2021.
تبعاً لذلك، من الطبيعي توقّع أن يتكرر هذا الأمر مع "طوفان الأقصى"، وهو ما حصل فعلاً. لكن في غياب حزب الله المفترض وطول مدة الحرب، كان من المنطقي أيضاً أن يستمر إطلاق الصواريخ سواء التي تتبناها فصائل معروفة أو مجهولة الهوية. من شأن هذا الأمر أن يقود إلى تصعيد كان سيدفع حزب الله مرغماً إلى التدخّل في وقت من الأوقات.
المعنى أنه لو انكفأ حزب الله ابتداءً عن جبهة الإسناد، كانت "إسرائيل" ستدفعه إلى المواجهة متى وجدت الظرف الملائم، قبل أن تبادر إلى عدوان موسّع. الأرجح أنها كانت ستفعل ذلك بعد تأكدها من إتمام مهمتها في غزة، كما تفعل اليوم.
الجدير بالذكر أن حماس كانت أعلنت في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي عن تأسيس "طلائع طوفان الأقصى" انطلاقاً من لبنان، ودعت أبناء الشعب الفلسطيني هناك للانضمام إليها في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة.
دليل آخر دامغ
ثمة مؤشر آخر إلى وجود نيّات عدوانية إسرائيلية مبيتة تجاه لبنان بمعزل عن قيام المقاومة اللبنانية من عدمه بفتح جبهة الإسناد ابتداء. قبل أن تتفاعل الأخيرة وتتصاعد وتؤدي إلى خلق واقع مأزوم في مستوطنات الشمال، أيّدت أطراف وازنة في المستويين العسكري والسياسي مثل هذا التوجّه. كشفت عن ذلك صحف غربية وإسرائيلية في ذلك الحين وفي مراحل لاحقة.
في آب/ أغسطس الماضي، أقر وزير الأمن الإسرائيلي المُقال يوآف غالانت بأنه أراد تنفيذ "ضربة استباقية" ضد حزب الله، لكن نتنياهو وقف في طريق تنفيذها. حصل ذلك خلال اجتماع الكابينت يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي بعد بضعة أيام على عملية "طوفان الأقصى".
صحيفة "وول ستريت جورنال" استعادت هذا اليوم قبل وقت طويل من إعلان غالانت. في كانون الأول/ ديسمبر 2023 كشفت الصحيفة أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن، حثّ نتنياهو على "التراجع عن ضربة استباقية ضد حزب الله في لبنان، بعد أيام من هجوم حماس".
وبحسب الصحيفة، فإنّ الطائرات الحربية الإسرائيلية كانت في الجو "تنتظر الأوامر" عندما تحدث بايدن إلى نتنياهو في 11 تشرين الأول/أكتوبر، طالباً منه "التنحي والتفكير في عواقب مثل هذا الإجراء الذي قد يشعل حرباً إقليمية أوسع".
حينها، "أبلغ المسؤولون الإسرائيليون البيت الأبيض على وجه السرعة بأنّهم يعتقدون أنّ حزب الله كان يخطط لهجوم، طالبين الدعم الأميركي لأنّهم كانوا يعلمون أنّ إسرائيل لا تستطيع القيام بذلك بمفردها"، بحسب مسؤولين أميركيين.
جرى تأكيد هذا المعطى من قبل عضو كابينت الحرب الإسرائيلي السابق، غادي آيزنكوت، خلال وجوده في الحكومة. يؤكد آيزنكوت في 18 كانون الثاني/يناير من العام الحالي أنه منع "إسرائيل" من ارتكاب خطأٍ استراتيجي فادح في مهاجمة حزب الله في الأيام التي تلت هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر. يقول في هذا السياق إنّ "إسرائيل" كانت على وشك "ضرب حزب الله، على الرغم من أنّ الأخير، لم يطلق النار بعد على إسرائيل"، مشيراً إلى أنه "أقنع المسؤولين في حكومة الحرب بالتأجيل".
المؤشر الأخير في أن الحرب كانت مسألة وقت هو طبيعة المواجهة التاريخية مع "إسرائيل" منذ نشوئها. لطالما عُدّت هذه المواجهة من قبل جميع الأطراف أنها حرب وجود. حتى لو أنكر البعض هذا التوصيف، إلا أنه واقع في صلب العقيدة الصهيونية. من هذا المنطلق، لا تقبل "إسرائيل" بطبعها وبطبيعتها بوجود أي تهديد بجوارها الحيوي. سوف تنقض "تل أبيب" على أي تهديد حتى لو كان محتملاً أو في مرحلة جنينية متى وجدت سبيلاً إلى ذلك، أو متى رأت أن جدوى هذه الخطوة تفوق أكلافها.
علي فواز - الميادين
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|