كيف غيّرت صدمة الحرب المعادلة الاقتصادية في لبنان؟
عانى الاقتصاد اللبناني طويلاً من تحديات متراكمة، قبل أن تضاف إليها صدمة جديدة تمثلت في حرب شاملة مع إسرائيل في أيلول 2024. وبينما كان لبنان يواجه أزمة اقتصادية خانقة استمرت لأكثر من أربع سنوات، أصبحت الحرب وتداعياتها تحدياً غير مسبوق يفوق قدرة الدولة على التكيف. فكيف تطورت المؤشرات الاقتصادية قبل الحرب، وكيف أثرت الحرب على مسارها؟ بحسب تقرير المرصد الاقتصادي للبنان الصادر عن البنك الدولي تحت عنوان “تفاقم الأعباء على بلد مأزوم”.
مرحلة ما قبل التصعيد
قبل اندلاع الصراع في أيلول 2024، كان لبنان يعاني من فراغ سياسي دام أكثر من عامين، بحيث ظل المنصب الرئاسي شاغراً ومرت الحكومة بفترة تصريف أعمال. وعلى الرغم من هذه الظروف الاستثنائية، كان بعض المؤشرات الاقتصادية يشير إلى تحسن طفيف. ففي العام 2023، حقق لبنان فائضاً مالياً طفيفاً بنسبة 0.5 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، وهو إنجاز تحقق جزئياً بفضل تعديل تقييمات سعر الصرف على الجمارك والضرائب، ما ساهم في زيادة الايرادات الحكومية.
أما على صعيد الدين العام، فكان من المتوقع أن تنخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الاجمالي إلى 141.9 في المئة في 2024، ما كان يُعد بمثابة فرصة للبناء على تحسن الأداء المالي. لكن، على الرغم من هذا التحسن النسبي في الأرقام، استمر العجز في الحساب الجاري نتيجة للعجز المزمن في تجارة السلع، بحيث بلغ العجز التجاري في السلع 28.1 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في 2023. ومع ذلك، استمر لبنان في تسجيل فائض في تجارة الخدمات، ما ساعد في تقليص حجم العجز عموماً.
وعلى الرغم من هذه المؤشرات الايجابية، كانت التوقعات تشير إلى أن الاقتصاد اللبناني سيواصل تعافيه التدريجي في العام 2024، وتتنبأ بتحسن نمو الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 0.9 في المئة، كما كان يُتوقع استقرار سعر الصرف، وهو ما كان من شأنه أن يساهم في تخفيف العبء المالي على البلاد بعد سنوات من الانكماش الاقتصادي. غير أن هذه التوقعات تحطمت بفعل التصعيد العسكري المستمر.
صدمة تضاعف الأزمات
أدى التصعيد العسكري بين إسرائيل و”حزب الله” في أيلول 2024 إلى تغييرات جذرية في المؤشرات الاقتصادية، مع تحول التوقعات إلى انكماش حاد. وتظهر التأثيرات الاقتصادية للحرب بصورة أكثر حدة في الربع الرابع من العام 2024، حيث تدهور الوضع الاقتصادي بسرعة نتيجة لتفاقم الأزمات على جميع الأصعدة.
فقد تراجعت معدلات نمو الاقتصاد بنسبة 0.9 في المئة إلى -5.7 في المئة، وهو ما يعكس الصدمة الاقتصادية الناجمة عن تدمير قطاع السياحة والتراجع الحاد في الاستهلاك. ومن المتوقع أن يصل الانخفاض التراكمي في الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي منذ العام 2019 إلى أكثر من 38 في المئة في 2024، مقارنة بـ 34 في المئة في 2023، ما سيؤدي إلى تعميق الأزمة الاقتصادية في البلاد، خصوصاً في ظل العجز المستمر في الحساب الجاري.
ومنذ الربع الرابع من العام 2024، كان لتصعيد الصراع آثار إنسانية مدمرة، بما في ذلك النزوح الجماعي والدمار الواسع النطاق، ما أدى إلى خفض نمو الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي بنحو 6.6 في المئة بحلول منتصف تشرين الثاني.
كان قطاع السياحة أحد أهم مصادر الدخل في لبنان قبل الحرب، بحيث ساهمت عائدات السياحة بصورة كبيرة في الاقتصاد الوطني. ومع اندلاع الصراع، تضرر هذا القطاع بشدة، وتشير الدراسات إلى أن عائدات السياحة ستتحول من فائض إلى عجز بنسبة -1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2024. وكان من غير المتوقع أن يتعافى هذا القطاع في ظل الظروف الأمنية الحالية.
وعلى الرغم من العجز الكبير في تجارة السلع، فقد شهدت تجارة الخدمات فائضاً جزئياً في السنوات الأخيرة، ما ساعد على التخفيف من العجز الاجمالي. لكن الحرب أثرت بصورة كبيرة على هذا الفائض، وحولته إلى عجز متوقع بنسبة 1 في المئة في العام 2024. ويعكس هذا التدهور في تجارة الخدمات تأثير الحرب على الاستهلاك المحلي والنشاط الاقتصادي بشكل عام.
كما تعرضت البنية التحتية في لبنان لأضرار بالغة بسبب الصراع، بحيث تقدر الأضرار المادية بنحو 3.4 مليارات دولار، مع تضرر نحو 100 ألف وحدة سكنية. وسوف يؤثر هذا الدمار الواسع على الإنتاجية الاجمالية للاقتصاد اللبناني لفترة طويلة، ويطرح تحديات هائلة في إعادة الإعمار.
كذلك، بلغت خسائر الاستهلاك في محافظتي الجنوب والنبطية خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2024 نحو 693 مليون دولار. ومع تصاعد الصراع في الربع الرابع من العام 2024 والنزوح الجماعي من الجنوب والنبطية والبقاع وبعلبك الهرمل والضواحي الجنوبية لبيروت، من المتوقع أن يزيد فقدان الاستهلاك في هذه المناطق بصورة كبيرة في الربع الرابع.
غموض في الأفق
تتفق تقديرات البنك الدولي مع الأبحاث الأخيرة حول تأثير النزاعات الأهلية والحروب على نمو الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي ونصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي والمجموعات الاقتصادية الكبرى. وتشير الأبحاث إلى أن الحروب الأهلية تؤدي إلى انخفاض بنسبة 2.3 في المئة في المتوسط في نمو الناتج المحلي الاجمالي كل عام من النزاع. كما أن شدة النزاع تعد عاملاً مهماً في تحديد التأثيرات الاقتصادية. وتدل الأدلة التجريبية على أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي والاستهلاك ينخفض بنسبة 28 و25 في المئة على التوالي بعد عشر سنوات من بداية النزاع.
وتشير الأبحاث الحالية إلى أن الاستهلاك، والاستثمار، والصادرات، والواردات تميل إلى الانخفاض خلال النزاع ولسنوات عدة بعده. كما تتناسب النتائج الخاصة بلبنان مع تلك التي أظهرتها الأدبيات حول التأثيرات الاقتصادية للنزاعات، خصوصاً بعد التصعيد الكبير للنزاع في الربع الرابع من 2024. وبينما تأثر النشاط الاقتصادي في جميع أرباع 2024، إلا أن تأثير النزاع كان مركزاً بصورة أساسية في الربع الرابع من العام.
يقول البنك الدولي إن التكاليف الاقتصادية والقطاعية للنزاع في لبنان شديدة وتستمر في التصعيد. كما تم تقديره، لم يتم بعد حساب تأثير النزاع من حيث التدمير في رأس المال المادي (أو تكوين رأس المال الثابت)، ومن المرجح أن يؤدي دمج هذه الخسائر إلى انخفاض كبير في الناتج المحلي الاجمالي المحتمل للبنان. ويُعتبر غياب التمويل المحلي من أبرز التحديات التي تواجه البلاد، حيث يعتمد التعافي بعد الحرب على التمويل الخارجي الذي يعتمد بدوره على الظروف الجيوسياسية.
تُظهر المؤشرات الاقتصادية للبنان قبل الحرب مع إسرائيل وبعدها حجم الصدمة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني. وعلى الرغم من بعض التحسن الطفيف الذي كان ملموساً قبل التصعيد العسكري، فإن الحرب قد قلبت موازين الاقتصاد جذرياً، بحيث تراجعت معدلات النمو، وتضاعف العجز في الحساب الجاري، وتراجع الاستهلاك بصورة كبيرة. ومع تدمير البنية التحتية وتزايد العجز، ستظل التحديات الكبرى قائمة في المستقبل القريب، خصوصاً في مجالات إعادة الإعمار، واستعادة الثقة في الاقتصاد، وجذب التمويل الدولي اللازم لتحقيق التعافي وإعادة الإعمار.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|