عندما اكتشفت إيران أنّها “قصر من ورق”
بديع يونس - اساس ميديا
أدّت متغيّرات جوهرية على أرض الواقع إلى استبدال طهران دبلوماسيّيها بجنرالاتها للتفاوض حول المستجدّات السورية. فبعدما فاوض قاسم سليماني موسكو (وأقنعها بدعم بشار الأسد يوماً) قبل أن يُقتل لاحقاً، وكما نفّذ الأمين العامّ لـ”الحزب” حسن نصرالله أوامر طهران واغتيل بدوره وخلفه، شأنهم شأن إسماعيل هنية ومحمد الضيف، ها هي إيران تبتعد عن جنرالاتها، ليتحدّث وزير خارجيّتها باسمها.
من البندقيّة إلى الدبلوماسيّة
مع بداية الزحف العسكري من حلب إلى حماة وقبل الوصول إلى دمشق، أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي أنّ إيران تدعم النظام السوري، لكنّ هذا الدعم “مقرون بطلب من النظام”. فمنذ متى تنتظر طهران طلب النظام لكي تتدخّل، وهي التي قفزت فوقه وتخطّته وأباحت تدخّلها يوماً لتأمين “كوريدور” السلاح والصواريخ والذخيرة عبر الأراضي السورية لتجهيز “الحزب”؟
بعد سقوط الأسد، خرج عراقتشي ليكشف تفاصيل لقائه الأخير بالأسد، فحمّل المسؤولية لجيش النظام، وبرّر عدم تقديم الدعم بـ”أنّهم أخطروا الأسد بتحرّكات المعارضة”، لكنّه لم يستجب. هذا كلام للإعلام، لكن يبدو أنّ هناك تفاصيل أخرى في مكان آخر.
أورد تقرير في صحيفة فايننشيل تايمز (ذات الصدقية) نقلاً عن مصدر إيراني قوله إنّ “وزير الخارجية الإيراني أبلغ الرئيس السوري السابق بشار الأسد خلاله زيارته الأخيرة لدمشق بأنّ طهران ليست في وضع يسمح لها بإرسال قوات لدعمه”. وتابع المصدر بأنّ “المسؤولين الإيرانيين فقدوا الثقة بالأسد واعتبروه عبئاً”. وأشارت الصحيفة إلى تصاعد الخلافات بين الجانبين على خلفيّة اتّهامات إيرانية له بتسريب معلومات عن القادة الإيرانيين في سوريا.
إيران.. قصر من ورق
شعرت إيران لسنوات طوال بفائض القوّة (أكثر بكثير ممّا هي عليه فعلاً)، من جرّاء ما أسلفها إيّاه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما والإدارة الديمقراطية من غضّ الطرف عن ممارساتها، إن بالداخل أو في الإقليم.
من أجل حماية نظام الأسد، الذي استعمل أسلحة الدمار (الكيميائي ونيترات الأمونيوم والبراميل المتفجّرة العمياء)، هدّدت طهران إدارة أوباما بالانسحاب من مفاوضات الاتّفاق النووي، فسحبت واشنطن ما كانت قد حدّدته من خطوط حمر هدّدت بها، فلحقت بها كلّ من فرنسا وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية.
باندفاعة “المخطّط الاستراتيجي”، أقنع قاسم سليماني روسيا بالدفاع “الشرس” عن نظام الأسد، فرأت موسكو مصلحة في توسيع اعتمادها على الموانئ والقواعد العسكرية الواقعة على شاطئ المتوسط، إضافة إلى فرصة استغلال موادّ أوّلية يكتنزها الباطن السوري.
يومها لم تطلب طهران الإذن بالتدخّل من أحد، إذ التقت مصالح إدارة أوباما مع مصالح روسيا، فقرّرت إيران من تلقاء نفسها التمادي وإرسال ميليشيات الفاطميين والزينبيّين وفئات من الحشد الشعبي وفصيل النجباء العراقي، واستعانت بـ”الحزب” لحماية نظام بشار المتداعي ومنع سقوطه، فانتشر خبراء إيران وأدواتها وحرسها الثوري على كامل التراب السوري من أقصى جنوبه لأقصى شماله.
صرّح المرشد الإيراني علي خامنئي لدى تقليده قاسم سليماني وساماً على “إنجازاته الاستراتيجية”، قائلاً إنّ “الدفاع عن النظام في سوريا هو دفاع عن طهران”، وتبيّن مع الوقت أنّه محقّ، فنظام الملالي نجح في إيجاد عدّة خطوط دفاعية تقيه من حرب على أراضيه (من المتوسط إلى البحر الأحمر وسوريا والعراق والحدود مع أفغانستان).
لكنّ هذه القلاع الجغرافية بدأت تتهاوى مدماكاً إثر مدماك كأحجار الدومينو. تزلزلت الأرض تحت أقدام النظام الإيراني منذ 7 أكتوبر وما تلاها تباعاً، وكأنّ البحيرة تحوّلت إلى مستنقع راح يبتلع شيئاً فشيئاً أذرع الأخطبوط الذي قرّر التمسّك بعصا الدبلوماسية بعد انكشاف قدراته المتواضعة أمام التكنولوجيا العسكرية الأميركية – الإسرائيلية.
عليه قرّرت إيران، التي وصلتها أكثر من رسالة عسكرية بأنّ أراضيها ليست في مأمن والسيف اقترب من عنقها، أن تتراجع، فكان أن انسحبت من البوكمال ودير الزور بعد فهمها أنّ الضوء الأخضر الدولي – الأميركي (منذ عهد أوباما) شارف على الانطفاء. ولمست عجزها عن تحريك الحشد الشعبي بشكل واسع، وكان “الحزب” منشغلاً بلملمة ما بقي منه في لبنان، وأمّا القدرات الحوثية فضعيفة في التأثير العسكري، وهو ما جعلها تحاول إنقاذ ما يمكنها من نفوذ لها في المنطقة.
نعم، استشعرت إيران أخيراً أنّها “قصر من ورق”. فقبل سقوط الأسد بساعات، رمت عشرات المليارات التي صرفتها في سوريا لإبقاء الأسد، وطرحت في لقاء الدوحة الرباعي تسوية “تنازل الأسد عن رئاسة الجمهورية مقابل الحفاظ على النظام”. حتى في ذلك فشلت. فسقط الأسد ونظامه معاً.
الخطأ الاستراتيجيّ
أخطأت طهران في حساباتها الاستراتيجية، فـ”وحدة الساحات” انقلبت عليها بعدما حوّلها العدوّ الإسرائيلي إلى وحدة جغرافيّة لعمليّاته العسكرية من المتوسّط حتى العمق الإيراني. فلم يتردّد باستهداف أصفهان وطهران ومراكز أبحاث تطوير الصواعق المفجّرة للقنابل النووية وللصواريخ البالستية في تاليفان 2، كما استهداف معامل تصنيع وتكرير الوقود الصلب المستعمل لإطلاق الصواريخ البالستية.
في الموازاة، أثمرت ضغوط إدارة بايدن على تل أبيب لعدم توسيع الاستهدافات على إيران، غير أنّ طهران شعرت لأوّل مرّة بـ”السخونة”، وبمدى شمولية بنك الأهداف الإسرائيلي المهدِّد لأمنها ولقادتها ولبنيتها التحتية، فارتابت واعترتها الخشية من الأعظم.
رأس نظامها مقابل انكفائها وركوب قطاع التغيير الذي انطلق. أذرعها لا تفي بالغرض، والقرار اتُّخذ. إنّها اللحظة التاريخية التي اجتمعت فيها الظروف واستفاد منها الشعب السوري.
اللّحظة الذّهبيّة
استفادت الفصائل السورية من التوقيت الذهبي الناتج عن:
– التبدّل الحاصل في ميزان القوى الإقليمي المؤدّي إلى ردع مختلف نوعاً وكمّاً.
– خسارة “الحزب” المنشغل في لملمة مصائبه وجراحه الأليمة، وتعطيل دوره العسكري والحدّ من تأثيره الإقليمي.
– فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأميركية وحمله شعار “إنهاء الحروب”.
– اعتبار روسيا فوز ترامب فرصة متاحة لإيجاد حلّ لحربها المضنية عسكرياً واقتصادياً وبشرياً في أوكرانيا، مقابل مقاصّة شملت التخلّي عن رئاسة الأسد لسوريا.
– غضّ نظر موسكو عن بعض التطوّرات التي قد تحصل في الميدان من جرّاء التنافس مع إيران، التي تصرفت وكأنّ سوريا “ملكيّة خاصّة لها” لدرجة محاولة تمنين روسيا بقبولها حليفاً، واستخدام النظام ورقةً بوجه الجميع بمن فيهم موسكو.
– عِلم الفصائل ومن يدعمها بمفاوضات إيران الجارية مع إدارة ترامب الجديدة التي تسرّب منها لقاء سفيرها سعيد إيرواني مع إيلون ماسك (على الرغم من النفي الرسمي، لكن لا دخان بلا نار).
– إيران أمام تحدّيات كثيرة، منها اشتراط إدارة ترامب المقبلة تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة وإنهاء دور أذرعها العسكري.
– قبول إيران مرغمة بوقف النار في لبنان بمعزل عن وقف النار في غزة للحفاظ على ما بقي من بنية “الحزب” وبيئته الحاضنة.
مغامرات مميتة
هناك لحظات ذهبية تجتمع فيها الظروف لمصلحة طرف على حساب آخر. هذا ما جرى في سوريا. للروس حسابات دولية أكبر من سوريا، ولإيران حساباتها حالياً على وقع كلّ النكبات التي تكبّدتها وصرفت عليها مال شعبها “الفقير”، وها هي تجد نفسها بحاجة إلى إنقاذ نظامها وتغليب الدبلوماسية ووضع البندقية جانباً ولو لحين.
مغامرات مميتة أدّت إلى تلقّي مشروع طهران ضربات قاصمة أخرجتها من سوريا وجعلتها تستغني عن الأسد، إضافة إلى التهديد بتقويض نفوذها في العراق وتضعضع “الحزب” في لبنان وتغيير عقيدتها النووية، والقبول بتفكيك دور حلفائها وإنهاء تنظيماتهم العسكرية الموازية للدول. وبالطبع إيقاف حملاتها الدعائية ضدّ دول الجوار، ومن لديه أدنى شكّ فليراجع مقال نائب الرئيس الإيراني محمد جواد ظريف بتاريخ 2 كانون الأول الحالي في مجلّة فورين أفيرز ليقطع الشكّ باليقين.
قبل أشهر، لم تكن إيران لتستغني عن الأسد. وكانت تعتقد أنّ قلعتها محصّنة، قبل أن تكتشف أو تُكشف بأنّها “قصر من ورق”.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|