سوريا سنية مجدداً… وحده لبنان لا يزال ايرانياً!
زال الخوف من حكم بشار الأسد ليحل مكانه ما يشبه التوجس المتدرج من أحمد الشرع والثوار الذين زحف بهم نحو دمشق متسلحاً بشخصية ملتبسة يبدو فيها قريباً من “تشي غيفارا المسلمين” في مكان وقريباً من “أمير المؤمنين” في مكان آخر.
هذه هي سوريا اليوم بعد أربعة وخمسين عاماً من حكم آل الأسد، وهذا هو حاكمها الذي تحول من مجاهد في كهوف “النصرة” الى خطيب في الجامع الأموي، ومرشد يحاول ادارة بلد ممزق ومعقد ومتنوع بمظهر حديث من جهة وعقلية اسلامية أصولية من جهة ثانية.
حتى الآن لا يبدو أن الرجل الذي يحظى بذكاء لافت قد قرر ماذا يريد أن يفعل بسوريا وفي سوريا، هو الذي يعرف أن أميركا تراقب، تركيا تدير، اسرائيل تهدد، روسيا تساوم، ايران تكابر والعرب يتفرجون، مكتفياً حتى الآن بتشكيل حكومة انتقالية تضم وزراء بدا بعضهم أقرب الى الأصوليين منهم الى وزراء معتدلين يوحون باحتمال تحويل سوريا الى دولة مدنية، اضافة الى تعليق الدستور تمهيداً لتعديلات فيه والبرلمان ربما لاجراء انتخابات جديدة.
ويكشف مصدر مقرب من “هيئة تحرير الشام” أو ادارة العمليات العسكرية، أن الشرع يشعر بأن “النزهة” التي قادته الى إسقاط بشار الأسد لا تشبه ما ينتظره في الفسيفساء السورية المعقدة، مؤكداً أن النيات شيء والواقع شيء آخر، وأن الحكم الديني شيء والحكم المدني شيء آخر.
ويضيف أن الشرع يعرف أنه تحت رقابة لصيقة من الداخل والخارج، ويعرف أن سوريا ليست أفغانستان وأنه ليس أسامة بن لادن، ويعرف أن البلد الذي يديره لا يتشكل من دين واحد أو عرق واحد أو ايديولوجية واحدة، ولا يحظى باستقلال تام عن أي قوى أجنبية.
والمقصود هنا أن الشرع الذي يؤكد أنه لا يريد أن يخوض أي حروب أخرى، وأنه لا يريد أي قوات أجنبية في بلاده، لم يتحدث عن أي بدائل تتعلق بما يمكن أن يفعله مع الأميركيين المرابطين في الشمال أو مع الأتراك الذين يدين لهم بالانتصار على الأسد، ومع الأكراد المرابطين شرق الفرات، ومع العلويين المرابطين في مناطق الساحل، والدروز المتحصنين في السويداء وحوران، والروس المتمسكين بما حصلوا عليه من مواقع عسكرية استراتيجية من الحكم القديم، ومع الاسرائيليين الذين تحصنوا على قمة جبل الشيخ وتمددوا نحو ريف دمشق، اضافة الى أمرين أساسيين، هما أولاً بقايا الحكم البائد وثانياً ما يمكن أن تفعله ايران التي لم تبلع مع “حزب الله” ما حدث في سوريا.
وأكثر من ذلك، ماذا يمكن أن يفعل مع الأوروبيين الحريصين على عدم قيام نظام اسلامي أصولي في سوريا يحد من الحريات العامة وحقوق المرأة التي بدأ الحديث عن احتمال سن قوانين متزمتة تتعلق بمظهرها ولباسها، وماذا أيضاً يمكن أن يفعل مع العرب الذين أرادوا فعلاً اسقاط نظام “البعث”، لكن ليس تكريس نظام في المقابل تديره تركيا ومعها قطر وفق مبادئ “الاخوان المسلمين”؟
وأكثر من ذلك ماذا يمكن أن يفعل الرجل مع قوات “داعش” التي يتسلح خلفها الأميركيون والأتراك والأكراد للبقاء في مواقعهم السورية، وماذا يمكن أن يقول للرئيس فلاديمير بوتين الذي يحضن بشار الأسد ويحميه في بلاده، وكيف يمكن أن يقنع حلفاءه بما يمكن أن يرضي الناس حيال التعديلات المقترحة في الدستور الجديد وما يمكن أن ينفرهم؟
لكن أخطر ما يواجهه الحكم الجديد في دمشق يكمن في علاقته مع اسرائيل التي ترفض أن تتحول سوريا الى محطة تركية يقودها رجب طيب اردوغان بعدما تخلصت من المحطة الايرانية التي كان يديرها الامام خامنئي وحسن نصر الله، مشيرة الى أنها لن تهدأ قبل التخلص من الأسلحة الكيميائية المخزنة في سوريا بعدما نجحت في تدمير الترسانات الجوية والبرية والبحرية السورية للحؤول دون وقوعها في قبضة الشرع ورجاله، ومؤكدة أنها لن تنسحب في مستقبل قريب من الأراضي التي احتلتها حديثاً وحوّلتها الى حزام أمني انضم الى الحزامين الأمنيين الجديدين في كل من غزة ولبنان.
وسط هذا المشهد، يحاول أحمد الشرع أن يلعب دوراً يشبه الدور الذي لعبه تشي غيفارا بعد نجاح الثورة الكوبية ودور “أمير المؤمنين” الذي يرشد ويحكم ويعدل وفق الشريعة الاسلامية، وهو العارف في العمق أن المجتمع السوري وتحديداً القسم الطائفي والعرقي والمثقف والمتحرر منه لن يكون عنصراً مطواعاً أو متجاوباً، يساعده في ذلك الدعم الدولي والعربي الذي يربط أي تمويل أو أي مشاركة في اعادة البناء أو أي قرار برفع العقوبات ووصمة الارهاب عن الهيئة، بمدى قدرة الشرع على بناء دولة حديثة ومنفتحة ومسالمة.
ويجمع المراقبون على أن الخاسرين الوحيدين في سوريا هما الأسد وايران التي تقر، على الرغم من المكابرات، بأنها فقدت الركن الأساس في محورها الممتد من طهران الى البحر المتوسط، وبأن سوريا عادت الى السنة بكل ميولهم المعتدلة والمتشددة بعد محاولات لتشييعها كلفتها نحو ثلاثين مليار دولار وآلاف القتلى والجرحى من “الحرس الثوري” و”حزب الله” و”الحشد الشعبي”وسواهم من الأذرع.
وثمة خاسر آخر، وهو أكثرهم غباء أي الدولة اللبنانية التي فتحت أبوابها بضغط من “حزب الله” لاستقبال أبرز رجال الأسد وأنصاره الهاربين من دمشق في خطوة دفعت قوات “هيئة تحرير الشام” الى التقدم نحو الحدود اللبنانية، وأثارت نقمة المتضررين من ممارسات النظام السوري المخلوع ونقمة الغالبية السنية التي ارتاحت الى تشكيل حضور سني قوي في جارتها السورية، وخيبة الساعين الى التخلص من عبء اللجوء السوري في بلادهم، وحوّلت لبنان الى خصم للحكم الجديد الذي بدأ يطالب بتسلمهم، وكذلك الى طرف في أي مواجهة مع ايران، خصوصاً بعدما أعلن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب أن الحرب معها ليست مستبعدة، وبعدما تسربت تقارير اسرائيلية عن احتمال قصف المنشآت النووية الايرانية قبل عملية التسليم والتسلم في واشنطن.
وعلى الرغم من النفي الذي يمارسه المسؤولون السياسيون والأمنيون اللبنانيون في هذا المجال، فقد تكًّون انطباع دولي وعربي بأن لبنان لا يزال المكان الوحيد الذي لم تخرج منه ايران ورجالها، وأن معظم السوريين الذين استوطنوا فيه من أنصار الأسد ويرفض العودة الى بلاده، وأن معظم ما كان يخطط له من اعادة اعمار واستثمارات لن يرى النور قبل انتاج سلطة جديدة في بيروت يقودها فريق مجرد من أي ضغط ممانع وقادر على تحييد لبنان من الزحف الأميركي – الاسرائيلي نحو لجم نفوذ الجمهورية الاسلامية في طهران أو الحد منه.
انها آخر الفرص الثمينة أمام الدولة اللبنانية لاستعادة سيادتها وهيبتها، وآخر الفرص النادرة أمام المعارضة اللبنانية كي تقلب الطاولة وتفرض واقعاً جديداً، وآخر الفرص التاريخية أمام الجيش اللبناني كي يبرهن لشعبه والعالم أنه يستطيع أن يكون بديلاً لمن يدعي حماية البلاد، وأنه يستحق التعاطف الذي يحظى به وكذلك السلاح الذي بين يديه، وأن جنوده لن يكونوا شرطة حدود، وأن قادته لن يكونوا دائماً مشاريع رؤساء محتملين.
أنطوني جعجع-لبنان الكبير
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|