الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..
تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق مُتوجّهاً إلى العاصمة الرّوسيّة موسكو عبر مطار حميميم. كثيرةٌ هي الرّوايات التي تتحدّث عن نقل مبالغ ضخمة من الأموال تحتاج إلى أسابيع طويلة من النّقل اليوميّ عبر طائرات الشّحن… لكن ما هي حقيقة الساعات الأخيرة؟
الأمرُ الوحيدُ المُؤكّد أنّ بشّار الأسد هربَ فجر الثّامن من كانون الأوّل 2024، ليبزغَ على السّوريين فجرٌ جديد كلّفهم على مدى 13 عاماً ما يزيد على 600 ألف شهيد و7 ملايين نازح داخل سوريا وعدداً مماثلاً خارجها، وعشرات آلاف المفقودين في أقبية سجونِ البعثِ أو في مقابره الجماعيّة أو حتّى في الأكياس المُكدّسة في سجنِ صيدنايا.
الزّمان: يوم السّبت 8 كانون الأوّل. السّاعة الخامسة فجراً.
المكان: العاصمة السّوريّة دِمشق.
يتلقّى ضبّاط وجنود النّظام السّوريّ في العاصمة وغيرها من المناطق رسالةً عبر أجهزة اللاسلكي: “اتركوا كلّ شيء واخلعوا الزّيّ العسكريّ واتركوا السّلاح. لم يحتَج هؤلاء لتكرار الرّسالة مرّتيْن، على الرّغم من أنّهم لم يتعرّفوا على الصّوت الذي يُحدّثهم. بسرعة خلعوا بزّاتهم العسكريّة، وتركوا أسلحتهم ومزّقوا بطاقاتهم، وكُلٌّ توجّه إلى منزله أو إلى مكانٍ يحتمي به: لقد هربَ بشّار الأسد.
كانَ المُتحدّث عبر اللاسلكي أحد كبار ضبّاط جيش النّظام. وقد آثر التحدّثَ عبر الموجة الصّوتيّة بعد اتّصالٍ تلقّاه من رئيس شعبة الاستخبارات العسكريّة اللواء كمال حسن الذي أبلغهُ بأنّ الأسد وبعضُ ضبّاطِه المُقرّبين من الرّوس باتوا في طريقهم إلى قاعدةِ “حميميم” على السّاحل السّوريّ عبر مطار دمشق الدّوليّ، ومنها إلى خارج البلاد، إلى موسكو.
خدَعَ بشّار الجميع. خدَعَ شقيقته بشرى وابنها باسل آصف شوكت. خدَعَ شقيقه ماهر وزوجته منال، وكأنّه ينتقمُ من سنوات الصّراع بيْن الأخويْن قبل الثّورة السّوريّة، ويعيدُ تكرار صراع والده حافظ وعمّه رفعت في 1984، أو يعيدُ إلى الذّاكرة مشاهِدَ مسلسل “ابتسم أيّها الجنرال” الذي يُجسّدَ صراع الشّقيقيْن حافظ ورفعَت والشّقيقيْن بشّار وماهر.
خدَعَ مستشارته بثيْنة شعبان، ورئيس وزرائه محمّد غازي الجلالي. وخدَعَ جيشه وقيادة الأركان، ومناصريه في السّاحل السّوريّ وأولئكَ المُحتشدين بكامل سلاحهم في حمص وريفها وفي شوارع العاصمة دمشق، حتّى إنّ قبرَ والده حافظ في القرداحة لم يسلَم من خِداعه.
تركَ ابن خالته رامي مخلوف الذي كانَ يُموّلُ قوّاتٍ من 50 ألف مقاتلٍ قبل أن تنقضّ أسماء زوجة بشّار على نفوذه الاقتصاديّ وينتهي به الحال معزولاً في الإقامة الجبريّة. وكذلكَ شقيقا رامي، إيهاب وإياد، اللّذان سارعا إلى الوصولِ إلى لبنان مع شريكهما إيهاب الصّايغ قبل أن يتعرّضوا على طريق جديدة يابوس لإطلاق نارٍ أسفرَ عن مقتل إيهاب مخلوف وإصابة شقيقه إياد وسرقة 8 ملايين دولار كانت بحوزتهم.
سارَع شقيقه ماهر قائد “الفرقة الرّابعة” إلى الفرار عبر طائرةٍ مروحيّة، تتضارب المعلومات عن وجهتها. تشير معلومات إلى هروبه إلى موسكو عبر “حميميم”.
بشّار يُخادِع من البداية
بدأت حكاية هروبِه يومَ الثّامن والعشرين من تشرين الثّاني المُنصرِم. غادَرَ الأسد وعائلته ومعهم حقائبَ ماليّة إلى موسكو. سرّبَ الأسدَ يومها أنّ زيارته للاطمئنان على صحّة زوجتِهِ أسماء التي “تتلقّى العِلاج من مرض السّرطان” في العاصمة الرّوسيّة. كانَ الأسد يعلمُ أنّ وقته قد حان. وهذا ما سمِعهُ من المسؤولين الرّوس، الذين أبلغوه أنّهم لن يكونَ بمقدورهم التدخّل العسكريّ في ظلّ انهيار الجيش في مدينةِ حلب.
عادَ الأسد من زيارته وحيداً، وتركَ أسماء وابنهِ حافظ وابنتهِ زين في موسكو. مارسَ مهامّه اليوميّة بشكلٍ عاديّ، والتقى للمرّة الأخيرة وزير الخارجيّة الإيرانيّ عبّاس عراقتشي، الذي غادرَ قصرَ المهاجرين ليتناولَ الشّاورما في مطعم “دجاجتي” الشّهير في منطقة المالكي.
مساء الجُمعة التقى الأسد سرّاً كبير مستشاري المُرشِد الإيرانيّ علي لاريجاني، الذي أبلغهُ أنّ طهران لن تُقاتل بالنّيابة عن جيشٍ ينسحِب، وأنّه سيسحب المُستشارين الإيرانيّين والطّاقم الدّبلوماسيّ من دِمشق، وعرضَ على بشّار اللجوء إلى طهران. فبادرهُ الأسد بكلمة نابية مُتّهماً إيران بأنّها تُتاجِرُ به. لكنّ لاريجاني كانَ يعلم أنّ الأسد يُمثّل ويُخادِع. وكانَ الأسد يعلم أنّ لاريجاني يعلمُ ذلكَ.
ليلة الهروب: تسريب صورة مُخادِعة
في ليلة الهروب، كانَ بشّار يتصرّف وكأنّ كلّ شيءٍ طبيعيّ. اتّصلَ برئيس الوزراء وناقشَ معه الأوضاع الميدانيّة، وأبلغه أنّه سيتابع معه في اليوم التّالي. اجتمَع مع قيادة الجيش وشدّد على “ضرورة الصّمود” وأنّ روسيا ستُعزّز حضورها الجوّيّ في مطار “حميميم” بعد ساعات وستنقل ما يريدُه الجيش من أسلحةٍ وذخائر. وفي تمام السّاعة الثّانية فجراً، أبلغَ بشّار مدير مكتبه أنّه ذاهبٌ إلى المنزل وسيعود إلى المكتب صباحاً. حتّى إنّه عملَ على تسريبِ صورةٍ لنجله حافظ، الذي كانَ موجوداً في موسكو، تُظهره في العاصمة السّوريّة غروبَ ذلكَ اليوم.
في الأثناء كانَ باسل شوكت، نجل بشرى الأسد في العاصمة السّوريّة، ينتظرُ والدته الآتية إلى سوريا عبر مطار رفيق الحريري الدّوليّ في بيروت. ما إن وصلَت بشرى إلى طريق دمشق حتّى علمَت بفرار شقيقها بشّار الذي تدور حوله الشّبهات باغتيال زوجها آصف بالتّعاون مع ماهر وعلي مملوك في تفجير مبنى الأمن القوميّ في 2012.
سارعَت بشرى إلى إحضار نجلها باسل والعودة إلى لبنان ومنهُ إلى محلّ إقامتها في العاصمة الإماراتيّة أبو ظبي.
قبلَ هروب بشّار الأسد ومن معه من “بعض” المُقرّبين والكثير من الأموال وسبائكَ الذّهب، اتّصلَ مدير مكتب الرّئيس الهارب ببثينة شعبان، وطلبَ منها أن تأتي إلى منزله لكتابة خطابٍ يُريدُ أن يُوجّهه الأسد إلى “الشّعب السّوريّ”. وصلَت بثينة إلى مقرّ إقامة الرّئيس، لكنّها لم تجِد الحرس الجمهوريّ الذي كانَ يعمّ المكان والمحيط، ولم تجِد حتّى الرّئيس نفسه.
فقد غادَرَ الأسد دِمشق قُرابة السّاعة الـ3 فجراً عبر مطار المزّة العسكريّ الذي وصلَه من نفقٍ يصل “قصر الشّعب” بالمطار على متنِ طائرةٍ روسيّة إلى قاعدةِ “حميميم”، ومنها إلى موسكو. وكانَ الأسد قد أرسلَ قبل أيّام من هروبه الأموال إلى روسيا عبر طائراتِ شحنٍ روسيّة، وقسمٌ نقله في زيارته لموسكو في 28 تشرين الثّاني الماضي.
هروب المسؤولين..
كانَ قائد سلاح الجوّ السّوريّ اللواء توفيق خضّور ورئيس الاستخبارات الجويّة قحطان خليل على علمٍ بنيّة الأسد الهروب. وبدأَ خضّور التحضير لفرار كبار المسؤولين. إذ إنّه يصعب إخفاء الهروب عن قادة سلاح الجوّ، المعنيّ بالأجواء السّوريّة، وهذا ما دفعَ الأسد والرّوس لإخبارِ خضّور وقحطان خليل لتسهيل المهمّة.
كانَ قادة شُعَبِ الاستخبارات يرصدون هذه التحرّكات، وباتوا على علمٍ بنيّتهِ الهروب. فمنهم من هرَبَ عبر مطار دمشق، ومنهم من آثر الذّهاب إلى لبنان، ومنه إلى وجهته الأخيرة مثل مدير مكتب الأمن الوطنيّ اللواء كفاح ملحم. ومنهم من لا يزال مصيره مجهولاً مثل رئيس هيئة الاستخبارات العامّة اللواء حسام لوقا الذي حاوَل أن يصِلَ إلى لبنان لكنّه لم يلقَ جواباً إيجابيّاً ممّن تواصلَ معهم.
في تلكَ الليلة، اتّصلَ قائد سلاح الجوّ اللواء توفيق خضّور عند السّاعة 9 مساءً بنائب قائد “اللواء 29 شحن جوّيّ” العميد عُمر قناة. يضمّ “اللواء 29” عدّة طائرات مدنيّة من ضمنها الطّائرة الرّئاسيّة وطائرات شحن. طلبَ خضّور من نائب قائد اللواء تحضير كامل طائرات اللواء 29 بهدف زيارة قواعِد جويّة والقيام بزيارةٍ خاصّة لليبيا.
يتكوّن “اللواء 29 شحن جوّي” من 5 طائرات خاصّة من طراز “ياك – 40″، 3 طائرات “تي – يو 134″، الطّائرة الرّئاسيّة من طراز “فالكون 900″، طائرتَيْ “يوشن 76” وطائرة “أنتونوف”.
الطائرات جاهزة… الطيّارون فرّوا
في هذه الأثناء، كانَت قوّات المعارضة تُنهي معركةَ حمص، وقسمٌ آخر منها بدأ يدخل محيطَ العاصمة دمشق من الجنوب والشّرق. عندَ السّاعة العاشرة مساءً، كانَت الأطقم جاهزة في الطّائرات. وبتمام السّاعة الـ 11 مساءً أبلغَ نائب قائد اللواء 29، عُمَر قناة، قائدَ سلاح الجوّ اللواء خضّور أنّ بعضَ الطّائرات تحتاجُ إلى صيانةٍ قبل الإقلاع، وهو ما أزعَجَ قائد سِلاح الجوّ الذي أمرَ بإنهاء الصّيانة بأسرعِ وقتٍ ممكن.
عاوَدَ اللواء خضّور الاتّصال في تمام السّاعة الـ12 منتصف الليلَ ليسألَ عن التحضيرات. فأبلغه نائب قائد اللواء أنّ الأعطال أُصلِحَت، لكنّ بعضَ الطّيارين فرّوا من المطار بعد الأنباء عن وصولِ قوّات المعارضة لمسافة 10 كلم من مطار دمشق الدّوليّ.
وصلَ الخبر إلى مدير الاستخبارات الجويّة اللواء قحطان خليل الذي بادَرَ هو للاتّصال بنائب قائد اللواء عند السّاعة الـ12:30 وطلبَ منه ملاحقة الطّيّارين الفارّين إلى منازلِهم وإعدامهم. لكنّ العميد قناة أجابه: “ليسَ من مهامّي إعدام الطّيّارين”. فبادره قحطان خليل بالسُّباب والشّتائم.
بتمام السّاعة الـ2:00 فجراً، عاودَ خضّور الاتّصال بقناة، وطلبَ منه تحضير طائرتيْن فقط، واحدة لزيارة مطار “T4” العسكريّ في ريف حمص الشّرقيّ، وأخرى لزيارةٍ خاصّة لليبيا. في هذه الأثناء كانَ قحطان خليل قد وصلَ إلى بعض الطّيّارين وأحضرهم إلى المطار.
بتمام السّاعة الـ4:30 فجراً كانَ العميد عُمر قناة قد غادرَ المطار. وصلَ إلى أرضِ المطار كُلّ من اللواء قحطان خليل ومدير مكتبه العميد نجوان حنيفة، وزير الدّفاع علي عبّاس، اللواء توفيق خضّور، مسؤول المنطقة الجنوبيّة في الاستخبارات الجويّة العميد بسّام دكّنجي.
صعدَ مسؤولو نظام الأسد وعائلاتهم وحقائب الأموال على متن طائرتيْن: الأولى من طراز “ياك 40″، والثّانية من طراز “يوشن- 75”. وغادروا دمشق نحوَ “حميميم” ليلحقوا بالأسد إلى موسكو.
يُجمِعُ كُلّ الذين التقوا بشّار أو عايشوه أو عملوا معه عن قُربٍ بأنّه كثير الكذِب.
منهم رئيس الاستخبارات العامّة السّعوديّة الأسبق الأمير بندر بن سلطان الذي قالَ في حوارٍ مع صحيفة “إندبندنت” بنسختها العربيّة سنة 2019 إنّ الملك الرّاحل عبدالله بن عبدالعزيز قال لبشّار الأسد في لقاءٍ جمعهما في 2010: “أنا أعرفُ عمّك رفعت قبل والدك، ثمّ عرفت والدك، ولا تستطيع أن تقول عنه أيّ شيء غير أنّه صادق، لم يكذب أبداً. أمّا أنت، فكاذب ثمّ كاذب ثمّ كاذب، كذبتَ على بندر وكذبت عليّ، وأنا أسامح في كلِّ شيء إلّا من يكذبون عليّ”.
ابراهيم ريحان - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|