الصحافة

ترامب جديد… وشرق أوسط أجدّ

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

ليس دونالد ترامب العائد إلى البيت الأبيض، هو الرجل الذي عرفناه بين 2016 و2020، ولا الشرق الأوسط هو الإقليم الذي عرفه الرجل خلال رئاسته... هنا محاولة لرسم سيرته، بين أمسه وحاضره.

الرئيس الأميركي الـ47، بات شخصية سياسية متمرّسة، تسيطر على الحزب الجمهوري ومفاصل الحكم الأميركي، في لحظة تمثّل واحداً من انتصارات الجمهوريين التاريخية، في السياسة الأميركية والدولية. فهو عاد إلى البيت الأبيض بفارق كبير على منافسته كامالا هاريس، حاصداً البيت الأبيض وغرفتَي الكونغرس والتصويت الشعبي، على نحو يؤكّد عمق شعبيّته وشعبيّة شعاره “أميركا أوّلاً” لدى قاعدة أميركية عريضة تمتدّ من المناطق الريفية إلى نخب كبريات المدن والضواحي.

زد على ذلك أنّ ترامب في ولايته الثانية، يبدو متخفّفاً من طموحات إعادة الانتخاب مرّة ثالثة، ومنكبّاً على صناعة إرثه الشخصي والسياسي في أميركا والعالم. وهو ما قد يجعله، خلافاً للرئيس الذي عرفناه، أكثر براغماتية في التعامل مع الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، وبالتالي أقلّ توقّعاً بخصوص سياساته وتأثيراتها البعيدة المدى.

أمّا الشرق الأوسط، الذي تأثّر عميقاً بسياسات ترامب خلال فترته الأولى، فيبدو اليوم إقليماً مختلفاً تماماً عمّا واجهه سابقاً:

  • بفعل تحوّلات جيوسياسية كبرى، كان آخرها سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وما تبعه من انكسار مفاجئ للهلال الإيراني.
  • وتقدّم تركيّ في المشرق العربي.
  • ووصول تنظيم متشدّد إلى سدّة الحكم الانتقالي في سوريا، مع كلّ ما يعنيه ذلك من إعادة رسم موازين القوى الإقليمية.

إلى ذلك، نجحت التحالفات الجديدة بين إسرائيل ودول عربية في تجاوز اختبارات الصراعات الدامية والمستمرّة كحرب غزة، وهو ما عزّز فرص التعاون الإقليمي ودوام الترتيبات الاستراتيجية في المنطقة، بما يحمله ذلك من انعكاسات على صعيد تعريف الشرق الأوسط الجديد.

إيران: الخنق والاغتيال… والنّوويّ

احتلّت إيران موقعاً محوريّاً في استراتيجية ترامب تجاه الشرق الأوسط خلال فترته الأولى. انسحب الرئيس الأميركي من الاتّفاق النووي لعام 2015، وشنّ حملة “الضغط الأقصى” التي زعزعت اقتصادها وساهمت، ولو مؤقّتاً، في الحدّ من سعي إيران إلى تحقيق طموحاتها. تراجعت مبيعات النفط الإيرانية، بسبب استراتيجية ترامب، من 2.5 مليون برميل يومياً في عام 2018 إلى أقلّ من 500,000 برميل بحلول عام 2020، وهو ما حرم النظام من مصدر إيراداته الأساسي.

أدّى هذا الخنق الاقتصادي إلى اندلاع احتجاجات شعبية واسعة في إيران عام 2019 نتيجة ترهّل هيبة النظام وإظهار فشله الاستراتيجي. كما حدّت الأزمة الماليّة بشكل كبير من قدرة إيران على تمويل ودعم وكلائها مثل “الحزب” والحوثي والميليشيات الشيعية في سوريا وعرقلت قدراتهم التشغيلية. اقترنت حملة العقوبات القاسية هذه برسالة ردع حاسمة لإيران، تمثّلت في اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وهو ما أضعف قيادة الشبكة الإقليمية لإيران وفعّاليّتها العملياتيّة.

يجد ترامب نفسه اليوم أمام إيران وهي في أضعف حالاتها بعد خسارتها لحماس و”الحزب”، وسقوط نظام الأسد، وتلاشي الهلال الإيراني فعليّاً. وهو ما قد يغريه بالجمع بين سياسات الضغط الأقصى والردع الحازم وبين دفع إيران لتغيير سلوكها وتوجّهاتها من الداخل.

لن يتردّد ترامب في أن يُضاعف العقوبات الاقتصادية، مستهدفاً القطاعات الحيوية في إيران مع تعزيز التحالفات الإقليمية بين الولايات المتحدة وحلفائها في الخليج وإسرائيل، لتشكيل جبهة موحّدة تضمن شلّ أيّ محاولات إيرانية لإعادة بناء نفوذها.

على الرغم من تجنّبه الحروب الطويلة، سيعتمد ترامب على استعراض القوّة العسكرية لضمان الردع، مع فتح باب المفاوضات بشروط صارمة تطال البرنامج النووي الإيراني، وتفكيك برنامج الصواريخ البالستية وإنهاء سياسة دعم الميليشيات الإقليمية.

محاصرة المتشدّدين… والرّهان على بزشكيان

بالفعل يدرس فريق ترامب الانتقالي خيارات متعدّدة للتعامل مع برنامج إيران النووي، تشمل تعزيز الضغط العسكري عبر زيادة القوّات والطائرات والسفن الأميركية في الشرق الأوسط، وبيع أسلحة متطوّرة لإسرائيل مثل قنابل خارقة للتحصينات لدعم أيّ هجوم محتمل على المنشآت النووية الإيرانية، بما في ذلك مواقع مثل نطنز وفوردو.

إلى ذلك، وبعد غزة ولبنان وسوريا، سيعمل ترامب على تقويض نفوذ إيران الباقي في العراق واليمن، مستغلّاً بشكل حاسم لحظة الضعف الإيرانية الراهنة لفرض شروطه وإضعاف دور طهران في المنطقة لعقود مقبلة.

سيعتمد الكثير على سلوك إيران في المرحلة المقبلة. ضعف الجمهورية الإسلامية يضعها أمام مفترق طرق حاسم، فإمّا أن تستغلّ الضغوط المتزايدة كفرصة لإعادة صوغ سياساتها على أسس واقعية وبراغماتية، أو أن تختار التصعيد عبر تسريع جهودها لإنتاج السلاح النووي.

يبرز في هذا السياق الرهان الهشّ على الرئيس الإيراني الحالي، مسعود بزشكيان، الذي دفعته العقوبات الاقتصادية والتراجعات الإقليمية إلى تبنّي خطاب يدعو إلى التفاوض مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، بهدف إدارة التوتّرات وخفضها بدلاً من تأجيجها. يعكس هذا التوجّه مساراً جديداً، وإن غير موثوق، قد يُعيد ترتيب الأولويات الإيرانية داخلياً وخارجياً، بما يقلّل من نفوذ التيار المتشدّد ويسمح بإعادة التركيز على بناء الاقتصاد وتعزيز الاستقرار الداخلي والمصالحة المجتمعية.

سبق أن أشار وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف، ونائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية، في مقالة مهمّة في مجلّة “فورين أفيرز”، إلى أنّ إيران مستعدّة للانخراط في حوار متوازن وشامل إذا ما كان قائماً على الاحترام المتبادل وتقديم منافع ملموسة، وهو ما يُبرز فرصة للتغيير تظلّ محاصرة بالشكوك نتيجة التجارب السابقة الفاشلة.

فلسطين: نهاية “الدولتين”…

لم يقتصر الهجوم الذي نفّذته حركة حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023)، على تصعيد العنف وإدخال المنطقة في حرب متعدّدة الجبهات، بل أصاب موقع القضية الفلسطينية على الساحة الدولية في مقتل.

الردّ الإسرائيلي العنيف على غزة وما تبعه من دمار ومعاناة إنسانية، وما مهّد له من تبرير سياسات أكثر تطرّفاً عند اليمين الإسرائيلي، مثل توسيع المستوطنات في الضفّة الغربية وتكريس السيطرة على الأراضي الفلسطينية المحتلّة، أنهيا تقريباً فرص تحقيق حلّ الدولتين.

كسب الفلسطينيون حيث لا يحتاجون إلى الكسب، أي تعزيز شعبية القضية الفلسطينية، التي لا تزال تحظى بتعاطف واسع على المستوى الشعبي في مختلف أنحاء العالم. وخسروا في المعادلات التي تشتدّ حاجتهم إليها، وهي شروط تحقيق الدولة والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

من المتوقّع أن تعمّق عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض التهميش الذي أصاب القضية الفلسطينية، على الرغم من الأوهام حول إعادة الاعتبار لها نتيجة الحرب. لن يكون مستغرباً أن يستخدم ترامب أحداث 7 أكتوبر ذريعةً لتعزيز دعمه غير المشروط للإجراءات الإسرائيلية في غزة وربّما في الضفة الغربية، مع تبنّي نهج يركّز على إدارة الأزمات الإنسانية بدلاً من السعي نحو حلّ سياسي شامل.

في مقابلة مع مجلّة Time الأميركية شدّد ترامب على أهمّية تحقيق “سلام دائم” من دون الالتزام الصريح بحلّ الدولتين. وأكّد تبنّيه نهجاً مرناً، مشيراً إلى أنّ السلام يمكن أن يتحقّق بطرق “متعدّدة”، مع تركيزه على منع دوّامة العنف، مثل الأحداث التي وقعت في 7 أكتوبر.

إذ أشار ترامب إلى دوره في منع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من ضمّ الضفة الغربية خلال ولايته الأولى، إلّا أنّه لم يوضح ما إذا كان سيتّخذ إجراءً مشابهاً في ولايته الثانية. كما أعرب عن انفتاحه على مختلف الحلول التي تحقّق السلام، مؤكّداً أولوية خفض العداوات بدلاً من التمسّك بقوالب دبلوماسية تقليدية مثل حلّ الدولتين.

التّطبيع العربيّ الإسرائيليّ

تجدّد عودة ترامب إلى البيت الأبيض تسليط الضوء على ملفّ التطبيع العربي-الإسرائيلي، الذي يُعدّ أحد أبرز إنجازاته في ولايته الأولى من خلال الاتّفاق الإبراهيميّ. ولئن جعل تصاعد التوتّرات الجيوسياسية في المنطقة إدارة هذا الملفّ أمراً أكثر تعقيداً، إلا أنّ ذلك سيحمّس ترامب، المعروف بنهجه البراغماتي القائم على “الصفقات الكبرى”، لجعل توسعة اتفاقات التطبيع أولويّة قصوى.

يُعدّ، في هذا السياق، لقاء المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف مع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مؤشّراً إلى جهود إدارة ترامب المرتقبة لإحياء مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي، وترجمةً لرهان ترامب على إمكانية التوصّل إلى “صفقة كبرى” تشمل سلاماً تاريخياً بين السعودية وإسرائيل.

على الرغم من تعثّر جهود إدارة الرئيس جو بايدن في هذا المجال بسبب هجمات “حماس” في 7 أكتوبر، والمطالب السعودية بربط الاتّفاق بخطوات واضحة نحو إقامة دولة فلسطينية، يُراهن البعض في العاصمة الأميركية على أنّ إدارة ترامب ستنجح في دفع السعودية لتخفيف موقفها من هذا الشرط. ففي ظلّ الانتصارات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة ضدّ إيران ووكلائها في المنطقة، من الصعب جدّاً أن تتجاوز تنازلات تل أبيب خطوات محدّدة تسهم فقط في “إحراز تقدّم ملموس في الملفّ الفلسطيني.

يسوّق أعضاء في فريق ترامب أنّ إحياء خطّة “السلام من أجل الازدهار”، التي تشمل تطبيعاً واسع النطاق، قد تكون مفتاحاً لإحراز تقدّم في حلّ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وليس العكس، بما يتيح للسعودية وإسرائيل التفرّغ لترتيبات إقليمية استراتيجية، تتوازى مع دعم قويّ لإعادة إعمار غزة. وتُمثّل هذه الصفقة فرصة لترامب لتحقيق إنجاز دبلوماسي كبير يكرّس إرثه في الشرق الأوسط، ويقرّبه من الترشّح لنيل جائزة نوبل للسلام.

سوريا: تثبيت هزائم إيران

فرض سقوط نظام الأسد نفسه على أجندة ترامب، من خارج جدول الأعمال والتوقّعات. فالحدث الجيوسياسي الضخم سيمتحن سياسة إدارته تجاه سوريا، وهي تسعى إلى الموازنة المعقّدة بين الفرص التي يوفّرها سقوط الأسد، والتحدّيات التي تغلي تحت السطح السوري. فتصريحات ترامب الأوّلية التي تؤكّد أنّ “سوريا ليست معركتنا” تؤكّد ميوله الانعزالية، ورغبته الحقيقية في خفض التورّط الأميركي في النزاعات الخارجية.

بيد أنّ الحقائق الجيوسياسية المستجدّة في المنطقة قد تدفعه لتبنّي نهجاً أكثر براغماتية، لا سيما إن بدا أنّ تحقيق المصالح الأميركية من دون تكاليف باهظة، في سوريا، أمر ممكن، مثل استغلال التحوّلات السورية لتثبيت هزائم إيران الإقليمية وتعزيز أمن إسرائيل، وانتزاع تنازلات من روسيا.

قد يكون سقوط الأسد فرصة نادرة لإعادة تشكيل مستقبل سوريا والمنطقة، من دون أن تتحمّل الولايات المتحدة أعباء تغيير النظام، وعبر إدارة التناقضات الناتجة عن انشغال القوى الإقليمية، مثل تركيا وروسيا وإيران، بإعادة تحديد دورها في سوريا.

علاوة على ذلك، يفتح سقوط الأسد الباب أمام إعادة صياغة التحالفات في المنطقة، في ضوء ضعف نفوذ إيران في سوريا، وتهاوي قدرتها على دعم حلفائها، مثل “الحزب”. ويعزّز هذا التطوّر أيضاً فرص توسيع الاتّفاق الإبراهيمي، من دون خشية الأطراف المعنيّة من ردود إيرانية انتقامية كما في السابق.

على جانب آخر، تظلّ التحدّيات في سوريا هائلة. فالفراغ الذي خلّفه سقوط الأسد يهدّد بمزيد من التفكّك، مع تنافس الفصائل المختلفة على السيطرة، وصعود مجموعات جهادية مثل “هيئة تحرير الشام”، التي تمتدّ جذورها إلى شبكات إرهابية، وتتّصل في تحوّلاتها الأخيرة بتنظيمات الإسلام السياسي، وما يشكّله هذا الصعود من خطر على دول المنطقة.

عليه، لا يبدو واضحاً ما إذا كانت إدارة ترامب ستغلّب هذه الحقائق والفرص والمخاطر على ميولها الانعزالية. كما لا يبدو معروفاً المدى الذي سيذهب إليه ترامب بشأن اعتماد الدبلوماسية القائمة على الصفقات والانخراط الانتقائي، مقروناً بتفويض رعاية الاستقرار الإقليمي للحلفاء والشركاء كإسرائيل والدول العربية.

خلاصة: محنة “التّدخّل الخارجيّ”

الوضوح النسبي الذي اتّسمت به سياسات ترامب في الشرق الأوسط خلال ولايته الأولى يبدو أنّه لن يواكب تعقيدات ولايته الثانية. تواجه الإدارة الجديدة اختباراً استراتيجياً عميقاً يتمثّل في تحقيق مواءمة صعبة ومعقّدة بين خطابها الشعبوي الداعي إلى تقليص التدخّل الخارجي، وبين الوقائع الجيوسياسية المتغيّرة على الأرض التي قد تفرض على واشنطن تدخّلات غير مرغوبة.

سقوط نظام الأسد، وتداعيات الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وتنامي أدوار الفاعلين الإقليميين كتركيا وإيران، وعودة التنظيمات الجهادية إلى واجهة الفعل السياسي… تشكّل ضغوطاً مستمرّة على الإدارة لإعادة صياغة أولويّاتها واستراتيجيات التعامل مع احتمالات توسّع الاضطراب الإقليمي.

ستحتاج إدارة ترامب إلى مقاربة سياسية تتجاوز الشعارات التقليدية لـ”أميركا أوّلاً”، لتقديم رؤية توازن بين حماية المصالح الحيوية الأميركية وتجنّب الغرق في مستنقعات جديدة، وسيكون هذا التحدّي اختباراً فعليّاً للإرث السياسي الذي يطمح ترامب أن يتركه خلفه.

نديم قطيش-اساس

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا