الفارون من قوى الأمن الداخلي ممنوعون من الصرف
يهربون إلى الخارج بمراكب موت، يتنقلون على الأراضي اللبنانية من دون أوراق ثبوتية، يناورون للهروب من الحواجز الأمنية، يتجنبون الامتثال بشكل شخصي لجلسات المحاكمات العسكرية. الحديث هنا عن عناصر فارين من قوى الأمن الداخلي. الجنحة التي ارتكبوها بنظرهم هي «دفاع عن النفس»، وبالتالي هم مستعدون للتصدي لكل محاولات إخضاعهم لأوامر مؤسستهم الأمنية. بكامل إرادتهم يجندون طاقاتهم ليسرّحوا أو حتى يُطردوا من واجباتهم الوظيفية، مثلما تطوعوا بكامل إرادتهم في «الخدمة الوطنية». فأي ثغرة خلّفها واقعهم مع رؤسائهم. وأي فوضى يخلّفها هذا الواقع في سيرتهم العسكرية والمدنية؟
في ظل الدعوات الجارية لتعزيز الشرعية وبسطها على مختلف الأراضي اللبنانية، والعبء الملقى على الجيش اللبناني لحماية الحدود، وما يتطلبه ذلك من توزيع للمهمات تعفيه من تحمل مسؤوليات داخلية، وافق مجلس الوزراء مؤخراً على تطويع ألف عنصر جديد في قوى الأمن الداخلي، بالتزامن مع التحضير لتخريج دفعة من 800 عنصر استغرق تطويعها نحو عام لتأمين التوازن الطائفي.
هي دورات التطويع الأولى منذ العام 2019، إثر ما تضمنته الموازنة العامة حينها، من منع لأي توظيفات جديدة. فانخفض عديد العناصر منذ ذلك الحين من 30 ألفاً بسبب بلوغ عدد كبير من العسكريين والضباط السن القانونية للتقاعد، إلى 24 ألفاً، وفقاً لما تؤكده مصادر أمنية.
إلا أن هذا العدد لا يبنى على تعداد فعلي للعسكريين المنضبطين. وهناك ما لا يقل عن ألفي عنصر فارين، بعضهم منذ أكثر من خمسة أعوام، ونسوا حتماً كيفية تأدية التحية العسكرية. فتحولت قضيتهم عبئاً يتجاوز المؤسسة، وخصوصاً في ظل ما تكشفه من «استنسابية» في تطبيق القوانين، سواء من ناحية العسكريين المخالفين، أو من ناحية مديريتهم.
جلب بالقوة؟
انتظر العناصر الفارون من إطلاق دورة تطويع جديدة أن «تحررهم» من عقوبات ملاحقاتهم المستمرة منذ أعوام عديدة، بعدما ربط التسريح بالتطويع. إلا أن العسكريين الفارين، فوجئوا بمذكرة صادرة عن مديريتهم تطلب من «شعبة المعلومات» التنسيق مع شعبتي «العديد» و»المعلوماتية» لجمع كافة المعلومات المتعلقة بأعداد العناصر الفارين وتحديد أماكن سكنهم الحالية، والأعمال والنشاطات التي يمارسونها، وبالتالي توقيفهم حيثما وجدوا، وتسليمهم إلى قطعاتهم لإجراء المقتضى القانوني.
قصة فرار هوليودية
بعد هذه المذكرة إتصل محمد مومنة، وهو فار مقيم في إيطاليا، بزملاء سابقين له في شعبة المعلومات في جبل لبنان ليحذرهم من مداهمة منزله، خوفاً من تعرض والديه المتقدمين في السنّ لأي أذى.
لـ «مومنة» قصة فرار من الأفلام الهوليودية، تبدأ من اللحظة التي بدأ فيها البحث عن وسيلة للهروب من لبنان من دون جواز سفر. غامر إلى حدّ التواصل مع مهربي الأشخاص عبر البحر، فقاده الأمر إلى مهربة من منطقة شاتيلا، نقلت على واحد من مراكب الموت، 186 شخصا آخر بين أطفال ونساء ورجال من مختلف الأعمار والجنسيات.
لجأ «مومنة» إلى عصابة تهريب، بعد أن كان ممن يلاحقون هذه العصابات في منطقته صبرا وضواحيها. تلك المنطقة التي يقول إنه بنى فيها سيرته العسكرية الحسنة، كرقيب أول في شعبة المعلومات، قبل أن تزيد النقمة التي دفعت برؤسائه إلى نقله من شعبة المعلومات إلى الدرك حفاظاً على سلامته وعائلته.
تحول انتقاله من مكان الخدمة من بيروت إلى البقاع إلى عبء كبير على «مومنة» بحيث لم يعد راتبه يكفي للطرقات، فشعر كما يقول أنه «مدعوس» وخصوصاً في أولى مراحل الأزمة المالية. ومما زاد في الطين بلة، توقف المؤسسة عن تأمين الطبابة لوالدته التي تعاني السرطان.
في قصة الهروب التي يرويها الدركي الفار، إضاءة أخرى على احتمال وجود تواطؤ بين خفر السواحل والمهربين، لتأمين عبورهم الآمن. لكن «مومنة» لم يعد يبالي حينها. ثمانية أيام في البحر رأى خلالها الموت بعينيه، كما يقول، ولكنه وصل إلى إيطاليا، وسوّى وضعه، وباتت لديه وظيفة هناك، أمّنت العلاج لوالدته، ودخلاً لائقاً يعيل حالياً والديه وعائلته. لتبقى الغصة في عدم قدرته على الاستحصال على جواز سفر يتمم معاملاته القانونية في إيطاليا بما يسمح بلمّ الشمل معها.
يخاف «مومنة» اليوم من أن يقع أي مكروه لوالديه، ولا يكون إلى جانبهما. لكنه، مثله مثل الكثير من العسكريين الفارين، لن يعود إلى الخدمة أو يسلم نفسه إلى القضاء، قبل أن يتأكد بأن محاكمته عسكرياً، لن تلزمه الالتحاق بالخدمة مجدداً.
شربل لا يعاني الرشح بل نقص المناعة
عسكري آخر فضل عدم ذكر اسمه لكونه سيخضع لمحاكمة قريبة، أمل أن تنظر المحكمة العسكرية في قضيته الإنسانية. فشربل ابنه، يعاني من نقص حاد في المناعة وبحاجة ماسة لعملية تصل تكلفتها إلى 300 ألف دولار. هو يريد أن يُسرّح لينتقل إلى ترتيبات أخرى تتيح لطفله الذي لم يتجاوز الثلاثة أعوام الحقّ بالعلاج. يدرك جيداً أن الإمكانيات المالية للمؤسسة قد لا تكفي لعلاج الرشح، ومن هنا يقول إنه ينتظر الجلسة القضائية التي ستنعقد للنظر في حالته، ومن بعدها لكل حادث حديث.
يتلقف الفارون «المذكرة» الأخيرة الصادرة عن مديريتهم في المقابل، على كونها جزءاً من كيدية، لا تنظر إلى أوضاعهم الإنسانية. هذا الأمر رفضه مصدر أمني مسؤول في دردشة مع «نداء الوطن» معتبراً أن المذكرة تتعلق بانتظام العمل المؤسساتي، مشدداً على أن أي تساهل من قبل المديرية في موضوع التسريح سيشكل تشجيعاً على الفرار.
يضيف المصدر «نحن لسنا وظيفة بل شأناً عاماً، وتطبيق الأنظمة لا يفصّل على قياس الأشخاص». لكنه يعترف في المقابل بأن صرخة العسكر محقة، وهي صرخة واحدة عند الضباط والعناصر، وتراعي المؤسسة ظروفها، من خلال «قبة باط» دفعتها إلى التساهل مع الذين لجأوا لممارسة وظائف ومهن أخرى إلى جانب خدمتهم الوظيفية. هذا مع إشارته إلى أن الوضع إلى تحسن سواء بالنسبة للتقديمات أو الرواتب. ويؤكد المصدر بالتالي بأن الموضوع ليس شخصياً مع أي فار، لا بل هناك فارون خسروا وظائفهم ومنازلهم خلال الحرب الأخيرة والتمسوا تسوية أوضاعهم ليعودوا إلى الخدمة، فجرت محاسبتهم وفقاً للأنظمة والقوانين والتحقوا بقطعاتهم مجدداً.
معركة مساواة
لا شك أنه بعد خمس سنوات من عملية الفرار، بنى العديد من الفارين حياة عملية لهم في مكان آخر، ويخشون خسارتها. حتى لو تحسنت الرواتب، فهي بالنسبة لهم لا تكفي في بعض الأحيان لتسديد أجرة منزل وفواتير الكهرباء والمياه. ولا يهمهم ما يقال عن زملاء لهم حافظوا على انضباطهم على الرغم من تدهور رواتبهم أيضاً، فلكل منهم ظروفه التي إما أن تبقيه في المؤسسة أو تدفعه إلى خارجها برأيهم. من هنا يقول هؤلاء إن الأمر لم يعد مرتبطاً بتقديمات المؤسسة، بقدر ما تحول إلى معركة لمساواتهم مع سواهم من العسكريين الذين سرّحوا أو صرفوا من الخدمة في المرحلة نفسها.
مجالس تأديبية لا تطرد الفارين
يصر المصدر الأمني في المقابل على أنه لا صرف لأي عنصر من الخدمة من دون مجلس تأديبي. وقراره غير قابل للمراجعة. فماذا في عمل المجالس التي شكلت للنظر ببعض قضايا الفرار؟
يشير «مومنة» إلى أن مجلساً تأديبياً شكل بغيابه، وكان في كل جلسة يكسر له رتبة. فحرم من رتبة الرقيب أول، ومن ثم رقيب، ومن ثم العريف واليوم أصبح دركي. ويقول «قانونياً يفترض بعد سنة من انقطاعي عن الوظيفة أن يصدر قرار صرفي، وأنا أريد أن أطرد».
تجربة أخرى يتحدث عنها ويليام شاهين وهو عنصر فار أيضاً، عمل خارج البلاد، لكنه اصطدم بعد فترة بعدم قدرته على تجديد جواز سفره. اضطر ويليام للعودة لظروف صحية طارئة لوالدته، وما إن وصل إلى المطار حتى وقع في مصيدة الموجبات الوظيفية.
في رحلة العودة والامتثال أمام المجلس التأديبي كما يروي «سجنت ثلاثين يوماً، وكان يفترض بعد إحالتي على المجلس التأديبي أن أطرد. لكن الأمر جاء بتركي إلى حين تسوية الأوضاع».
المفارقة كما يشرح «ويليام» أنه بعد مثوله أمام المجلس التأديبي جرد من جواز سفره وزود ببطاقته العسكرية، فيقول «أنا عسكري وبطاقتي معي اليوم، يمكن أن أنقل جثة في سيارتي وإذا أوقفت على حاجز قوى الأمن يكفي إبرازها لأفر بجريمتي». خاتماً بالحديث عن حالة فوضى لا مثيل لها يتسبب بها هذا الواقع منذ أعوام طويلة.
سيفرّون مجدداً
عند الحديث مع كل عسكري فار، يذكر هؤلاء ببرقيات التسريح لعسكريين نجحوا بوساطات سياسية في الحصول على أذونات تسريحهم، متحدثين عن لامساواة، حتى بينهم وبين عناصر الجيش، ويعتبرون أنه إلى جانب سعي القائد في الجيش للاستحصال على حقوق إضافية لعسكرييه، يتعاطى مع قضية الفرار بليونة أكبر لم تتسبب بمثل التشنج والشرخ السائدين في مؤسستهم.
انطلاقا من هنا يقول أحد العناصر الفارين بأن المذكرة الأخيرة لن تجعلهم يلتزمون بالقرارات. فيمكن أن يقبض عليهم ويسلموا إلى قطعاتهم، لكنهم سيفرون مجدداً. فنحن كما يقول «لم نعد نرغب بالوظيفة. ولا يمكن لأحد أن يلزمنا بقبولها».
هل لا يزال قرار وقف التسريح ساري المفعول
قد يبدو أساس المشكلة هنا، في الحالات الاستثنائية التي تولدت نتيجة لقرار اتخذته وزارة الداخلية منذ العام 2018 منع التسريح من الخدمة لثلاث سنوات، ربما حفاظاً على التوازن القائم فيها إثر قرار عدم التطويع أيضاً.
إلا أن العسكريين الفارين يعتبرون أن هذا القرار محكوم بالمهلة التي حددها الوزير، وبالتالي سقط منذ العام 2021. ومع ذلك يشدد المصدر الأمني على أن قرار وقف التسريح قانوني وما زال سارياً طالما أن الظروف تتطلب ذلك. وهو قرار داخلي وفقاً لما أكدته مصادر في وزارة الداخلية ولا يعود للوزير قبوله أو رفضه كما سرى في أوساط الفارين. مما يعني أن تطبيقه حتمي.
لكن التطبيق يحمل في طياته وضع الأجهزة بوجه بعضها. فتخيلوا مثلاً أن يداهم عنصر في شعبة المعلومات منزل زميل له ليقبض عليه. بينما يقول أحد العسكريين إن «المذكرة في الأساس غير قانونية، إذ لا تجوز مداهمة أي منزل من دون إذن نيابة عامة وإشارة من القضاء».
وجع للرأس وإرباك
تسبب موضوع الفارين بوجع للرأس وإرباك طويل الأمد في المؤسسة الأمنية حتى الآن. وهو خلق ثغرة كبيرة بين العناصر والقيادة التي يكيل لها الفارون شتى الإتهامات، خصوصا أن المؤسسة لا تستفيد من خدماتهم.
ينسحب هذا الإرباك في المقابل على محاولة الإضاءة على المشكلة. فالفارون لديهم كل الأسباب الشخصية التي تبدو محقة لترك الوظيفة، لكن المؤسسة أيضاً تبدو محقة بتمسكها بعناصر الانضباط المطلوبة داخلها، وهذا ربما يتطلب منها جرأة أكبر باتخاذ القرار الموحد ولو لمرة واحدة واستثنائية.
هذه الدعوة جاءت محملة بعريضة نيابية قدمت بواسطة النائب إبراهيم منيمنة وجمعت 137 توقيعاً لعسكريين فارين تخلوا عن كل حقوقهم مقابل صرفهم. لكن قضيتهم على الرغم من أهميتها، لم تفرض نفسها أولوية خلال العدوان الاسرائيلي الأخير على لبنان، إلى أن صدرت مذكرة «الجلب» الأخيرة عن مديرية قوى الأمن.
ماذا عن مبدأ «لا عمل من دون أجر موازٍ»
يصف المحامي علي عباس المساهم بوضع عريضة الفارين»المذكرة» برد الفعل غير المدروس. ويعتبرها بمثابة تشفٍ وانتقام، بينما المطلوب أن يكون المدير العام بمثابة أب صالح للمؤسسة وعناصرها.
ويؤكد عباس أن من فروا فعلوا ذلك لظروف قاهرة وضعتهم في الحضيض، وقد جاء فرارهم أساساً نتيجة لوضع غير قانوني تسبب به وقف التسريح بعد سنوات خدمة معينة. وهذا يعتبر بمثابة دفاع عن النفس وليس محاربة للقانون.
ورأى عباس «أن المؤسسة لا يمكنها ان تلزم العناصر بالعمل بالسخرة، وهذا مخالف للمبدأ الدستوري الذي يقول إن «لا عمل من دون أجر موازٍ». والمشكلة كما يلخصها «أن التسريح ليس متوقفاً فعلياً، إنما يتم باستنسابية وبوساطات يحظى بها البعض». ليختم بالتالي «بتحميل النواب مسؤولياتهم كل تجاه ناخبي منطقته، للإسراع في إقرار الاقتراح المقدم لتسريحهم، خصوصاً أن الفارين هم من مختلف الطوائف والانتماءات».
فأيهما سيسبق الآخر مع مطلع العام الجديد. تطبيق المذكرة أم صدور القانون؟
لوسيان بارسخيان- "نداء الوطن"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|