هل دخل لبنان أزمة نظام بعد أزمة السلاح؟
التجاوزات البروتوكولية المستهجنة التي حصلت من "الثنائي الحزبي الشيعي" في الانتخاب والتكليف والتأليف تدلّ على احتمال من ثلاثة: إمّا امتعاض وردّ فعل عفوي بسبب عدم القدرة على هضم المتغيّرات الاستراتيجية في لبنان والمنطقة وانتقال البلد إلى مرحلة جديدة مختلفة جذريّاً عن المرحلة التي بدأت في العام 1990، وإما محاولة لرفع السقوف وربط النزاع وانتزاع ما لم يحصل في الانتخاب والتكليف عبر التهديد والوعيد في التأليف، وإما التهيئة والتحضير لنقل لبنان من أزمة السلاح الإيراني إلى أزمة نظام سياسي.
كان الانطباع السائد لدى البعض منذ خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005 بأن "حزب اللّه" سيلجأ في الوقت المناسب إلى مقايضة سلاحه بصلاحيات ونفوذ وتعديلات جوهرية في النظام بحجّة أن حجمه اختلف جذريّاً عمّا كان عليه لحظة إقرار "وثيقة الوفاق الوطني"، وأنه لن يتراجع عمّا راكمه من سلاح وتنظيم ودور مجاناً، ولكنه على استعداد لمقايضة تأخذ منه سلاحه مقابل صلاحيات دستورية، فهل كان انطباع هذا البعض في محلّه؟
طبعاً، لم يكن هذا الانطباع في محلّه، لأن "حزب اللّه" لم يكن في أي لحظة في وارد تسليم سلاحه أو مقايضته، كون سلاحه هو علّة وجوده، ولا يستطيع أن يتصوّر نفسه أساساً من دون سلاح، خصوصاً أن مشروعه مرتبط من نشأته بالسلاح والحروب. ولكن الهدف من ترسيخ هذا الانطباع، هو عدم إقفال الأبواب النظرية أمام إمكانية البحث في هذا السلاح من أجل امتصاص حدّة المواجهة ضده لا أكثر ولا أقلّ.
إذاً، لم تكن المقايضة واردة في حسابات "حزب اللّه". وإذا كان لا بدّ من تعديل دستوري، فليس من أجل المقايضة طبعاً، إنّما من أجل قوننة سلاحه على غرار النموذج العراقي، وخلاف ذلك غير قابل للبحث، لأن سلاحه، وفقاً لقاموسه، وجد ليبقى وليس للتخلي عنه.
لم يكن "حزب اللّه" في وارد فتح النقاش في مسألة خلافية حول تعديل الدستور، طالما أنها لن تؤدي الغرض منها في ظل الطوائف وهواجسها ومواقفها الرافضة لتعديل يخدم استراتيجيته. فضلاً عن أنه ما الفائدة، بالنسبة إليه، من تحريك المياه في ملف دقيق وحساس طالما أن القرار الاستراتيجي بيده، ولا أحد لديه القدرة على نزع سلاحه، وأخضع الدستور لمشيئته، ولا يتم انتخاب الرؤساء وتكليفهم وتشكيل الحكومات من دونه، وأي شأن يعترض عليه يعلّق بانتظار موافقته. وعندما وجد أن دعوة السيد حسن نصراللّه إلى مؤتمر تأسيسي لن تخدم أهدافه تراجع عنها فوراً. فهو ليس مضطراً لكشف أوراقه إذا كانت أهدافه تعديلاً دستورياً يخدم استراتيجيته غيرَ قابل للتحقُّق. لا بل إن خطوة من هذا القبيل، ترتدّ عليه سلباً بتسليط الضوء على سلاحه ودوره وترفع منسوب المطالبات بتنازلات ليس أقلها وضع سلاحه بإمرة الدولة، فيما سلاحه بإمرته ويُمسك بواسطته مفاصل الدولة كلها.
لكن ما كان يصحّ في زمن سيطرة "حزب اللّه" على الدولة بواسطة سلاحه، لم يعد يصحّ مع انتهاء دوره العسكري. وقد أفقده نص قرار وقف إطلاق النار ورقتي سلاحه ومقاومته، فلم يعد باستطاعته تنفيذ عمليات عسكرية على الحدود مع إسرائيل. كما لم يعد باستطاعته الاحتفاظ بسلاحه.
إن وظيفة "الحزب" ودوره وصلاحية سلاحه انتهت. كما انتهت قدرته على إعادة تنظيم صفوفه مع سقوط المسرح السوري الذي سقط معه شريانه الحيوي مع مركز تمويله وتسليحه في إيران. وباتت مشكلته هذه المرة في أنه فقد ورقة المقايضة التي شكلت محور الانطباع الذي ساد طويلاً. فسقطت معادلة السلاح مقابل الصلاحيات مع السقوط المدوّي لسلاحه ودوره.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل سيسلِّم "حزب اللّه" بخسارته السلاح والدور وهل سيلتزم بسقف الدستور؟ أم سيعتبر أن التعديل الدستوري ضروري وفي أسرع وقت، قبل أن يخسر "المومنتم" السابق، ويتبخّر وهج السلاح ويفشل في تعويض دوره المسلّح بدور دستوري، خصوصاً بعد خروجه من حرب خاسرة بكلفة باهظة وسلاح انتهت وظيفته وصلاحيته؟
لم يقتنع "حزب اللّه" بعد بسقوط ورقة سلاحه. ولكن التطوّرات المتسارعة في غزة ولبنان وسوريا والمنطقة، ومع دخول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ومواصلة بنيامين نتنياهو حربه ضد إيران حتى كسرها، ستجعله يقتنع على مضض، عاجلاً أم آجلاً، بأن دوره العسكري انتهى. وعندما يصل إلى هذه القناعة، سينقل الأزمة في لبنان، من أزمة سلاح إلى أزمة نظام. لأنه من الصعب على "الحزب" أن يلتزم سقف الدستور لثلاثة أسباب رئيسية:
السبب الأول، يخشى "حزب اللّه" ذوبان مشروعه وسط دولة ودستور واستقرار وازدهار ونمط عيش، خصوصاً أن مشروعه ينمو ويكبر في الفوضى. كما يخشى تعويد بيئته على الرفاهية والاستقرار والازدهار، فتصبح ضد مشروعه.
السبب الثاني، يريد "حزب اللّه" ضرب الحديد وهو حامٍ، وما زال في أوج تمثيله. فيما عامل الوقت لا يعمل لمصلحته. كما أن خسارته ورقة السلاح ستنعكس على شعبيته وتمثيله مع تجرؤ شرائح شيعية واسعة على مواجهته وتحميله مسؤولية النكبة التي ألمّت بالطائفة بسبب نهجه ودوره.
السبب الثالث، إن "حزب اللّه" ما لم يحكم لبنان كلّه سيسعى إلى حكم ما تيسّر منه بهدف الحفاظ على مشروعه ضمن بيئة محصّنة. بينما سيؤدي تسليمه بسقف الدولة إلى تراجع هذا المشروع. ولذلك، إذا لم يكن لبنان كله تحت سيطرة "الحزب"، فلا بأس من اقتطاعه بقعة يحصِّن مشروعه داخلها بانتظار الظروف التي تسمح له بالتوسُّع مجدداً.
صحيح، أنه لا يمكن تشبيه أزمة النظام بأزمة السلاح، لأن الأخيرة حولّت لبنان إلى ساحة حروب وفوضى ودولة مخطوفة وشعب مغلوب على أمره. وصحيح أيضاً، أن التشبيه لا يصحّ بعدما تحرّر لبنان من السلاح ومن جيش الأسد ومن السطوة الإيرانية، وبعدما تحقّقت المساواة بين اللبنانيين. ولكن الأكيد أنه عندما يستيقظ "حزب اللّه" ويلمس أن سلاحه انتهى، وأن دوره العسكري الإقليمي انتهى، سينقل الأزمة فوراً وتلقائيّاً إلى داخل النظام. فطبيعة "الحزب" غير قادرة على الانتظام ضمن النظام، ولا التعايش بمساواة مع الآخرين.
إن الفارق الجوهري هذه المرة بخلاف المرات السابقة كلها، أن أزمة النظام أو غيرها لن تنعكس على الاستقرار المالي، ولا على نمط عيش الناس، حيث إن تعطُّل الدولة من فوق لن ينسحب على حياة الناس من تحت. خصوصاً مع انتقال "حزب اللّه" من الفعل إلى رد الفعل، ومن المبادر إلى المتلقي . وكبّل تبدُّل ميزان القوى الاستراتيجي هامش حركته وردود فعله التي لم تعد قادرة على إيقاف قطار الدولة الذي انطلق للمرة الأولى منذ العام 1990.
وتبقى الأسئلة التي تطرح نفسها: هل تعبّر التجاوزات البروتوكولية المستهجنة عن امتعاض "صبياني"؟ أم أنها تمثل ربط نزاع لإبقاء الحصة الشيعية في الحكومة بيد "حزب اللّه" وإمرته؟ أم أنها مقدّمة لنقل البلد إلى أزمة نظام؟
شارل جبور- نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|