عودة السعودية واستعادة لبنان... وقصّة العلاقة بين البلدين
كتب نجم الهاشم في "نداء الوطن":
أكثر من رسالة في أكثر من اتجاه حملتها زيارة وزير خارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان إلى بيروت أمس الخميس 23 كانون الثاني 2025. الحضور السعودي الجديد يأتي في وقت ينحسر فيه نفوذ إيران و"حزب الله" على القرار اللبناني بعدما كانت الساحة اللبنانية مجالاً لتصفية حساباتهما مع المملكة منذ العام 1982. فهل ستكون العودة ثابتة ودائمة من أجل استعادة لبنان من خاطفيه ومن غربته القسرية؟ وهل تعيد العلاقات اللبنانية السعودية إلى خطها التاريخي الصحيح؟
يروي سفير المملكة العربية السعودية في لبنان بين العامين 2004 و2009 الدكتور عبد العزيز خوجة في كتابه "التجربة" أنه تعرّض لثلاث محاولات اغتيال. في واحدة منها اكتشفت الأجهزة الأمنية سيارة مفخخة بالقرب من منزله، وعرف بمحاولة أخرى حين اتصل به الأمير مقرن بن عبد العزيز، وكان رئيسا للإستخبارات السعودية، قائلا له: "هناك طائرة تنتظرك في المطار. غادر فوراً. لدينا معلومات مؤكدة عن مؤامرة لاغتيالك". ويعلِّق السفير: "كانت تلك المحاولات نهاية علاقتي المباشرة بحسن نصرالله"، أمين عام "حزب الله".
لم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرّض فها حضور المملكة العربية السعودية في لبنان للخطر. منذ انطلاق "حزب الله" بعد العام 1982 كانت الساحة اللبنانية مجالاً لتصفية حسابات النظام الإيراني مع "آل سعود" كما يسمّيهم. ذلك أن استراتيجية طهران في تصدير الثورة إلى الدول المجاورة كانت تستهدف المملكة أولاً بسبب التاريخ والجغرافيا والدين، وكان "حزب الله" أداة تنفيذية في تنفيذ هذه الاستراتيجة.
غادر السفير خوجة وحلّ محله السفير علي عوض العسيري. ولكن طريقة التهديد التي تعرّض لها لم تكن مختلفة. أكثر من مرّة أُطلِقت النار على سيارته وسيارات تابعة للسفارة وعلى محيط السفارة، وأكثر من مرّة اضطرّ للمغادرة والابتعاد عن بيروت قبل أن ينتقل نهائياً ويحلّ محله بعد وقت السفير وليد البخاري.
جرافات الحريري بعد اجتياح 1982
تهديد خوجة ومحاولات اغتياله جاءت على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 الذي كان اغتيالاً لدور المملكة في لبنان باعتبار أنه كان يمثِّل ذلك الدور منذ بدأ عمله السياسي موفداً للملك فهد بن عبد العزيز أواخر السبعينات، وساهم في أكثر من استحقاق تاريخي عرفه لبنان قبل أن يصل إلى رئاسة الحكومة عام 1992 على أنقاض "اتفاق الطائف" الذي دمّره النظام السوري.
عام 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان كلّفت المملكة العربية السعودية رفيق الحريري بإزالة آثار الحرب. كانت مدرعات جيش النظام السوري تنسحب من بيروت نحو البقاع برّاً، وتصل عبر البحر إلى المرفأ جرافات تابعة لشركات الحريري لتبدأ العمل. ولكن تلك العودة لم تكتمل بعدما بدأ النظام السوري حرب العودة إلى بيروت عسكرياً وأمنياً ليتراجع دور المملكة وحضورها السياسي التاريخي مع الدولة اللبنانية. قبل عام 1970 كان هذا الحضور في مواجهة مع زعامة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وبعده صار في مواجهة مع نظام حافظ الأسد، ومن بعده مع ابنه بشّار، ومع نظام الجمهورية الإسلامية في إيران و"حزب الله" في لبنان.
بين الملك سعود وكميل شمعون
شكّل لبنان في الزمن الجميل مساحة رحبة للحضور السعودي والعربي. ليس على صعيد السياحة فحسب بل على صعيد السياسة أيضاً. هذه المساحة جعلت من لبنان ملجأً آمناً ووطناً ثانياً للكثير من ملوك وأمراء وأبناء المملكة ودول الخليج، كما جعلت من هذه الدول ملاذاً آمناً للكثير من اللبنانيين الذين قصدوها للعمل وما زالوا.
في 8 أيلول 1957 مثلاً وصل إلى بيروت الملك سعود بن عبد العزيز في طريقه إلى ألمانيا للعلاج. في مقرّ إقامته في فندق البريستول أقام حفل عشاء على شرف رئيس الجمهورية كميل شمعون حضره رئيس الحكومة سامي بك الصلح ووزير الخارجية شارل مالك وسفراء المملكة في بيروت ودمشق وبغداد. في الوقت نفسه كان لبنان يعيش بين حدّي الازدهار والانفجار. بينما كانت تستمرّ مهرجانات بعلبك كانت تحصل عمليات تفجير ينفّذها عملاء للمكتب الثاني السوري وكان يسقط على الحدود مع سوريا في 12 أيلول 11 قتيلاً و40 جريحاً عندما تصدّى الجيش اللبناني لمحاولات دخول مسلحين إلى لبنان. في 10 تشرين الأول عاد الملك سعود إلى بيروت في زيارة رسمية استمرّت حتى 21 منه تخلّلتها استقبالات سياسية شملت قوى المعارضة وجولات في المناطق من بيروت إلى صيدا وبعلبك. تلك كانت صورة عن أمان العلاقة بين لبنان والمملكة عندما كان لبنان لا يزال يتمتّع بحضوره الكامل كدولة مستقلة. في 16 كانون الأول مثلاً كان الرئيس شمعون يستقبل شاه إيران محمد رضا بهلوي وكان يدشّن مشروع سد القرعون على نهر الليطاني.
بين الأمير فيصل والرئيس فؤاد شهاب
كان لبنان أيضاً ممرّاً للكثير من التطورات في المملكة العربية السعودية. في 16 أيلول 1962 وصل إلى مطار بيروت وليّ العهد السعودي الأمير فيصل بن عبد العزيز في طريقه إلى واشنطن تلبية لدعوة أميركية للقاء الرئيس جون كينيدي. في اليوم التالي التقى رئيس الجمهورية فؤاد شهاب وغادر بعد خمسة أيام. وهو في واشنطن حصل الإنقلاب في اليمن الذي استدعى تغييرات جذرية في الحكم في المملكة بحيث أقال الملك سعود الحكومة وكلّف وليّ العهد تشكيل حكومة جديدة. تلك الحكومة ستتولّى مواجهة الرئيس عبد الناصر على أرض اليمن. في 22 تشرين الأول كانت بيروت أيضاً محطة في طريق عودة الأمير فيصل إلى الرياض وإلى السلطة. بعد ثلاثة أيام التقى الرئيس شهاب قبل أن يعود إلى المملكة على متن طائرة ملكية خاصة أُرسِلت إلى روما لكي تنقله إلى بيروت. كان عهد قوة المملكة يولد مع الأمير فيصل قبل أن يتولّى العرش عام 1964 ويبقي على العلاقات الجيدة والاستراتيجية مع لبنان. في تلك المواجهة مع نفوذ عبد الناصر في اليمن كانت الغلبة للمملكة، وهي لم تكن أقلّ خطورة من المواجهة اللاحقة التي خاضتها وتخوضها المملكة مع النظام الإيراني وكانت اليمن كما لبنان ساحة لها.
الملك خالد وقمة الرياض
اغتيل الملك فيصل في 25 آذار 1975 قبل أن تندلع الحرب في لبنان في 13 نيسان. بعدما تولّى فيصل العرش أنهى زمن فوضى الحكم في المملكة وأمّن انتقال السلطة بطريقة سلسة ومنهجية.
وزاد من حضور المملكة ومكانتها الدولية القرار الذي اتّخذه في حرب تشرين 1973 بوقف تصدير النفط. كان تولّي الملك خالد العرش من بعده مسألة روتينية سُمِّي معها الأمير فهد وليّاً للعهد. مع الملك خالد ستلعب المملكة دوراً رئيسياً في إنهاء حرب السنتين في لبنان من خلال مؤتمر قمة الرياض في 16 تشرين الأول 1976، وهو مؤتمر طارئ ضم ستّ دول عربية هي: السعودية، ومصر، وسوريا، والكويت، ولبنان، ومنظمة التحرير الفلسطينية. ومن قراراته وقف الحرب وتعزيز قوات الأمن العربية لتصبح قوات ردع. كانت هذه القوات تتشكّل بمعظمها من جيش النظام السوري وأُلحقت بها قوات رمزية سعودية ويمنية وسودانية، بعدما تبنّت قمة القاهرة في 25 تشرين الأول مقرّرات قمة الرياض.
مؤتمر الطائف
بعد عامين فقط أخرج النظام السوري الحضور السعودي من لبنان بعدما استأنف الحرب ضد الجيش اللبناني و"القوات اللبنانية" فانسحبت الوحدات السعودية من قوات الردع التي صارت سورية فقط. العودة السعودية من أجل إعادة إعمار لبنان عام 1982 بقيت ظرفية أيضاً وانتهت لمصلحة تغليب تدخّل النظام السوري مرّة ثانية. العودة السعودية القوية لحل الأزمة اللبنالنية كانت بعد حرب التحرير التي شنّها العماد ميشال عون رئيس الحكومة العسكرية في 14 آذار 1989 وانتهت بكوارث عسكرية وأمنية واقتصادية أدّت إلى استضافة المملكة والملك فهد النواب اللبنانيين في الطائف في 30 ايلول 1989 ورعاية اتفاق تعديل الدستور الذي توصّلوا إليه لإنهاء الحرب اللبنانية وانتخاب النائب رينيه معوض رئيساً للجمهورية. مرّة ثالثة كان النظام السوري ينقضّ على الدور السعودي بعدما اعتبر أن اتفاق الطائف كان يهدف إلى إنهاء السيطرة السورية على لبنان وسحب جيشه منه. في هذه المرحلة اغتيل الرئيس رينيه معوض في 22 تشرين الثاني 1989 قبل أن ينتقل إلى قصر بعبدا الذي بقي العماد عون متحصّنا فيه.
مرحلة رفيق الحريري
كثيرون اعتبروا أن وصول رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة في لبنان عام 1992 بمثابة تقاسم النفوذ بين الرياض ودمشق. ولكن في الواقع كان الحريري دائماً موضع شك وتحت المراقبة والاختبار حتى لا يتمكّن من الخروج عن القرار السوري. هكذا كان يمكن السيطرة على القرار اللبناني من خلال تركيبة السلطة في مجلسي الوزراء والنواب، ومن خلال "حزب الله" والمخابرات السورية على الأرض. عندما شعر النظام السوري مع إيران أن الحريري يمكن أن يشكّل خطراً تمّت تصفيته من دون رحمة في 14 شباط 2005. بعد سحب جيش النظام السوري من لبنان في 26 نيسان 2005 تولّى "حزب الله" مباشرة مسألة المواجهة مع قوى 14 آذار المناهضة له ومعها المملكة العربية السعودية التي كانت تعمل من أجل تحقيق العدالة في قضية اغتيال الرئيس الحريري.
"حزب الله" وتفجيرات الخُبَر
لم تكن تلك المواجهة الكبرى بين "الحزب"، ومن ورائه إيران، وبين السعودية مفاجئة. فقد سبقتها سلسلة من المواجهات بعدما شعرت المملكة أنّها هدف دائم لتصدير الثورة الإسلامية في إيران وكانت حرب الخليج مع العراق من عام 1980 حتى عام 1988 إحدى تجلياتها. لم تكن أهداف تلك الحرب سرّية أو مخفيّة. وقد انتقلت إلى داخل المملكة عندما تمّ تنفيذ أكثر من عملية تفجير كان أضخمها في الخبر في 25 حزيران 1996 مستهدفاً مجمعاً سكنياً تشغله قوات أميركية من ضمن قوات التحالف الدولية المُكلّفة بعملية إقامة منطقة حظر طيران في جنوب العراق.
قُتل 19 من أفراد القوات الجوية الأميركية ومدني سعودي وأصيب 498 من جنسيات متعددة واتهمت واشنطن أعضاء من "حزب الله الحجاز" بالوقوف خلف الهجوم. في حزيران 2001، صدرت لائحة اتهام أميركية شملت القياديين في "حزب الله" عماد مغنية وطلال حمية والسعودي أحمد إبراهيم المغسل وعدداً آخر من السعوديين ولبنانياً مدرجاً بالاسم المستعار "جون دو". وفي 2006، أدانت محكمة أميركية إيران و"حزب الله لبنان" بتدبير الهجوم. منذ تلك التفجيرات اختفى المغسل. في آب 2015، كانت المفاجأة بخبر اعتقاله في بيروت ونقله إلى السعودية.
محاولة يائسة مع الأسد
على رغم الصراع الدموي مع "حزب الله" شكّل الحضور السعودي في لبنان عام 2002 علامة فارقة عبر القمة العربية في 27 آذار التي أقرَّت مبادرة السلام العربية التي طرحها ولي عهد المملكة الأمير عبدالله. حضر تلك القمة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل وقد حاول النظام السوري عرقلة أعمالها من خلال إدارة رئيس الجمهورية إميل لحود.
اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 شكل قمة المواجهة بين إيران و"حزب الله" والنظام السوري وبين السعودية في لبنان. هذه المواجهة تجلّت أيضاً في حدثين كبيرين: حرب تموز 2006 التي تسبّب بها "الحزب" وأدّت إلى دمار كبير. ولكن المملكة وجدت نفسها معنية بالمساهمة بإعادة الإعمار. وغزوة 7 أيار 2008 التي نفّذها الحزب في بيروت والشوف وعاليه وضد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وقوى 14 آذار وأدّت إلى "تفاهم الدوحة" الذي أسقط عملياً "اتفاق الطائف" وأوصلت العماد ميشال سليمان إلى رئاسة الجمهورية.
على رغم ذلك حاولت المملكة أن تثبت حضورها من خلال حدثين أيضاً: في 30 تموز 2010 اصطحب الملك عبدالله رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى بيروت في محاولة لتخطّي اتهامه باغتيال الرئيس رفيق الحريري وإبعاده عن المحور الإيراني. ولكن المحاولة فشلت وتحوّل الانفتاح السعودي على الأسد اتهاماً للمملكة بتغذية الثورة السورية ضدّه بعد اندلاعها في 15 آذار 2011. لم تستغ السعودية انقلاب "حزب الله" على حكومة الرئيس سعد الحريري في كانون الثاني 2011 وتسمية الرئيس نجيب ميقاتي لتأليف حكومة من قوى محور الممانعة. ومع ذلك تعهّدت بتقديم مساعدة لتسليح الجيش اللبناني بقيمة 3 مليارات دولار بالاتفاق مع فرنسا ولكنّ هجوم الأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصرالله عليها ألغى هذا التعهّد وأوقف المساعدة.
اليوم تأتي زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى بيروت زاخرة بالدلالات والرسائل لعدة أسباب: سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، واتفاق وقف النار بين "حزب الله" وإسرائيل واغتيال السيد حسن نصرالله، واتفاق وقف النار في غزة، ودخول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وانتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، وتسمية الدكتور نوّاف سلام لتأليف الحكومة. إنّه مشهد دولي وإقليمي يحمل تغيّرات وتطوّرات كبيرة وفي هذا المشهد يمكن ملاحظة انحسار النفوذ الإيراني مع توقّع عودة إيران إلى داخل إيران ووضع حد لأحلام تصدير الثورة بعد القضاء على معظم قوتها وأذرعها في المنطقة من "حزب الله" إلى "حماس" ونظام الأسد وتقليص دور التابعين لها في العراق واليمن.
إنها زيارة أرفع مسؤول سعودي إلى لبنان منذ عام 2010 وهي تؤسس لعودة السعودية إلى لبنان بعد طول غياب، وعودة لبنان إلى "الأجندة السعودية" واستعادته من قبضة النظام الإيراني وسطوة "حزب الله".
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|