محليات

الطائف والطوائف وطفّافات “الموقّت الدائم”

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

عندما نتحدث عن الميثاق الوطني نعني الوطن ممثلا ًبإرادة العيش معًا والشراكة والتوازن والمساواة بين مختلف المكوّنات بمعزل عن الأعداد والأرقام، وعندما نتحدث عن الدستور، نعني الإطار التنظيمي للدولة بما تمثل من مؤسسات وأنظمة وقوانين وآليات عمل.

ولذلك الميثاق هو الأسمى؛ ومن فكرة الوطن الذي تداعى اللبنانيون إلى بنائه تأسيسًا على الميثاق، تمظهرَ الكيان اللبناني دستورًا ودولة، فالميثاق ثابت والدستور خاضع للتعديل والتطوير بما لا يتعارض مع العناوين الكبرى للميثاق.


من هنا، أحسن المشرّعون، في ضوء وثيقة الوفاق الوطني أو إتفاق الطائف، بإدراج البنود الميثاقية في مقدمة الدستور، كجزء لا يتجزأ من هذا الدستور، وتاليًا يمكن إعتبار إتفاق الطائف هو الميثاق الوطني المتجدد، وخلاصته المعبّرة تتمثل في الفقرة «ي» من مقدمة الدستور والتي تنص على ما يلي: «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». وهذه الفقرة بحد ذاتها تشكل البوصلة للكثير من القضايا الخلافية والسجالية والمرجع الواضح الذي يمكن البناء عليه لمواجهة أو معالجة أي شطط أو إعتداء على الميثاق الوطني.

ويبدو أن الصيغة الميثاقية الفذة هي التي تزعج بشكل أساسي «حزب الله»، لأنها تناقض حساباته في الهيمنة وقراءته لوطن الأرز كجزء من الأمة بقيادة الولي الفقيه، ولو أظهر الحزب تفهمًا ظاهريًا للتركيبة اللبنانية. ففي عرفه الديموقراطية التي يريدها على قياسه هي الديموقراطية العددية، وإذا عجز حتى الآن عن فرضها، فهو يراهن على تثبيت مثالثة ضمنية تحترم المناصفة شكلاً. وهذا مغزى القبض على عدد من المواقع الأساسية في الدولة من الفئة الأولى مقابل ترك مواقع أقل أهمية لسائر الطوائف، في وقت بات الإمساك بوزارة المال أقرب إلى عرف ثابت في الحقبة الأخيرة، فضلاً عن التمسك بموقع المدير العام للأمن العام، على رغم إدعاء الرئيس ميشال عون قبل وصوله إلى قصر بعبدا إصراره على استعادة الموقع للمسيحيين.


ولعل مفاعيل المثالثة الضمنية تبرز على صعيد الأجهزة الأمنية في موقع نائب رئيس مخابرات الجيش مع ما يتمتع به من صلاحيات فعلية أو عرفاً، وهو المنصب الذي تكرّس نفوذ «حزب الله» وجماعة 8 آذار عليه عندما تسلّمه جميل السيد ومن ثم عباس إبراهيم. والأمر نفسه بالنسبة لموقع نائب المدير العام لجهاز أمن الدولة والذي يتمتع شاغله بقدرة التعطيل وحق الفيتو على قرارات عدة تختص بالمدير العام الكاثوليكي عرفاً.

هذا الواقع إن دل على شيء فعلى أن «حزب الله» ينفذ تدريجًا ما يشبه إنقلابًا ناعمًا في صلب الدولة والمؤسسات، مستفيدًا بشكل خاص من جشع حليفه المسيحي الأبرز، أي التيار الوطني الحر المستعد بحسب ما أثبتت التجارب للتخلّي عن الكثير مسيحيًا ليحرز بعض المكاسب له حصرًا تحت غطاء الضجيج المفتعل بالحفاظ على حقوق المسيحيين. والواقع أن هذه الحقوق لم تُنتهك كما انتُهكت في عهد الرئيس ميشال عون، وإلا ما معنى الحملات الشرسة من قبل التيار برئاسة النائب جبران باسيل على المواقع المسيحية الأبرز في إدارة الدولة، أي قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان ورئاسة مجلس القضاء الأعلى، فضلاً عن رئاسة دائرة المناقصات.

والطامة الكبرى تتجلّى في ظاهرة سلاح «حزب الله» وما يعنيه من إستقواء على الدولة ومؤسساتها ومن مظلة لدويلة رديفة تملك الكثير من المقوّمات، على حساب الدولة وسيادتها وحقوقها وحقوق اللبنانيين. فهذا السلاح هو التحدي الأبرز للوطن والميثاق الذي يرعاه قبل أن يكون تحديًا للدولة، لأنه يناقض مبدأ العيش المشترك القائم على الشراكة الحرة والفعلية والتوازن والمساواة، علمًا أن أحد نواب «حزب الله» ذهب به الصلف ذات مرة حد إعتبار المقاومة التي يمثلها الحزب ويسمّيها المقاومة الإسلامية، حالة ميثاقية.

والميثاق في الأصل لا يمكن أن يخضع للتأويل والإستنساب، فهو عقد اجتماعي أو تعاقد حر بين المكوّنين الأساسيين للبنان، أي المسيحيين والمسلمين، باعتبار أنهما حالتان متمايزتان في الكثير من الوجوه، وقد تمكنتا بالتجربة منذ مطلع عهد الإمارة من إثبات القدرة على العيش معًا، على رغم بعض الحقبات التي شابتها نقاط سود كانت غالبًا  نتيجة التحريض وزرع الفتنة من قبل الإحتلال العثماني.

ولذلك، فإن السعي للإيحاء بأن الميثاق هو بين المذاهب وليس بين المسيحيين والمسلمين يمثل إفتئاتاً على روح الميثاق وجوهره، فادعاء أن غياب ممثلي مذهب معيّن عن المشاركة في حكومة ما بداعي الإستقالة أو المقاطعة يشكل طعناً بالميثاقية، هو إدعاء خاطئ. والميثاقية على صعيد آخر هي نقيض الديموقراطية العددية البحتة وسيطرة أكثرية على أقلية أو على مجموعة من الأقليات، وإلا ما معنى تمسك البطريرك الياس الحويك بلبنان الكبير الذي ازدادت فيه نسبة المسلمين إلى أكثر من أربعين في المئة، فيما كانت بالكاد لا تتجاوز في لبنان الصغير نصف هذه النسبة؟ فهذا جوهر الميثاق والمعنى الحقيقي للمساواة بين اللبنانيين.

إن ما نشهد اليوم من تعطيل وترويج للفراغ، لم يكن ليحصل لولا غطاء «حزب الله»، لا سيما وأن التيار الوطني الحر بات يمثل أقلية موصوفة مسيحيًا، وبخاصة بعد الانتخابات الأخيرة، باعتبار أن الأكثرية انتقلت ألى المعسكر السيادي والإصلاحي الذي تمثل فيه «القوات اللبنانية» رأس الحربة، وهذا يعني في ما يعني إنتهاكاً لمبدأ العيش المشترك ومحاولة فرض معادلة على الموقع المسيحي الأول وما يمثل وعلى الأكثرية المسيحية، علمًا أن هذا الموقع يتميّز بطابع وطني أكثر منه سياسي وطائفي على غرار موقعي رئاسة المجلس ورئاسة الحكومة.


وعليه، لا يمكن بأي شكل من الأشكال التسليم بالدعوات المفخخة والمتذاكية الى مؤتمر تأسيسي أو إلى تغيير النظام وتطويره. ولذلك سقطت الدعوة الى عشاء السفارة السويسرية، إذ يبدو أن سويسرا سلّمت بمحاولات حثيثة قادها مستشارو وأساطين الظل في التيار البرتقالي وبالتنسيق من تحت الطاولة مع «حزب الله» لتمرير باكورة حوار ملغوم، باعتبار أن سويسرا لها سوابق في خدمة بعض المصالح الإيرانية، لكن بيدرالسيادة خذل حسابات حقل الممانعة.

وفي الخلاصة، لا بديل عن الطائف، لأن البديل إما الفوضى وإما إنفصال فئة معينة بإرادتها عن لبنان الميثاق، وهي ليست فئة مسيحية كما يظن البعض، بل فئة تصادر الطائفة الشيعية وتسعى إلى ابتلاع لبنان، لكن سعيها لن يصيب نجاحًا لأن لبنان بغالبية أبنائه يريد أن يبقى لبنان الميثاق والتنوّع والحرية والشراكة والحياد.

 

شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا