الدراجات النارية تغزو قطاع النقل في لبنان.. فهل يقترب تشريعها رسميا؟
لم يعد مشهد الدراجات النارية التي تتدفق في شوارع لبنان كأسراب من النحل المتطاير استثنائيا، بل أصبح من ملامح الحياة اليومية التي تعكس التحولات الاقتصادية والاجتماعية الحادة في البلاد. بين من يراها طوق نجاة يخفف أعباء التنقل، ومن يعتبرها قنبلة موقوتة تسرع الفوضى، يطرح السؤال نفسه: هل نحن أمام اعتراف رسمي بتحول الدراجات النارية إلى وسيلة نقل شرعية؟ وما التحديات التي تفرضها هذه الظاهرة؟
في موازاة ذلك، على جوانب الطرقات، حيث تتقاطع الأزقة مع الشوارع الرئيسية، يجلس بعض السائقين بجانب دراجاتهم النارية، بينما يركن آخرون مركباتهم الصغيرة في وضع استعداد دائم، وكأنها محطات انتظار غير رسمية لخدمة الركاب. يكفي أن يمر أحد المارة حتى يقترب منه أحدهم، عارضًا عليه التنقل عبر "تاكسي الدراجة النارية"، من دون حاجة الى مناداته أو السؤال.
جولة لـ "الديار" تكشف المستور!
أثناء جولتنا في المنطقة، استوقفنا أحد هؤلاء السائقين، الذي بادر بسؤالنا إن كنا نرغب في الذهاب إلى أي مكان، مشيرا إلى دراجته وكأنها سيارة أجرة نظامية. لم يكن يعلم، بطبيعة الحال، أننا في جريدة "الديار" نعمل على تحقيق حول انتشار الدراجات النارية كوسيلة نقل غير رسمية. لكن فضولنا دفعنا الى متابعة الجولة، ولم نحتج الى وقت طويل حتى اكتشفنا أن المشهد يتكرر؛ أكثر من ثلاثة أشخاص كانوا متوقفين على جانبي الطريق، يعرضون خدماتهم كـ "تاكسي" من دون أي تراخيص رسمية.
لوحة على دراجة نارية مكتوب عليها "تاكسي"!
في ضوء ما تقدم، لفت نظرنا شاب يجلس على دراجته النارية كما يفعل أصحاب التاكسي في المواقف المخصصة لهم، وقد وضع لوحة (شرعية) كتب عليها كلمة تاكسي؛ اقتربنا من صاحبها حيث كان يقف عند مفترق وزارة الخارجية اللبنانية في منطقة الاشرفية وسألناه عن الأجرة، فكان الرد سريعا وواضحا: "إذا باتجاه الحمراء، يعني وسط بيروت، فتبلغ التكلفة مثل سيارة الأجرة تماما اي حوالى 300 ألف ليرة لبنانية مع فارق بسيط ان الدراجة يمكنها السير او التنقل ما بين السيارات كما يقال "بتزورب" مما يوفر على الزبون الانتظار لساعات في سيارة الأجرة نظرا الى الاكتظاظ الذي تشهده معظم شوارع العاصمة بما في ذلك المناطق المحيطة بها. وهذا المبلغ قد يبدو زهيدا مقارنة بتكاليف النقل التقليدي، لكنه يعكس حجم الفجوة بين واقع النقل الرسمي وواقع الشارع الذي يخلق بدائله الخاصة بعيداً عن أي تنظيم. تجدر الإشارة الى ان أسعار النقل العام شهدت اضطراباً في الآونة الأخيرة لا سيما خلال الضربات الإسرائيلية المكثفة على امتداد مساحة الوطن. وعندما نقلت "الديار" الى المسؤولين في نقابات النقل البري التفاوت الكبير في التسعيرة ما بين سرفيس وآخر، كان الجواب توجد الاف سيارات التاكسي، ويستطيع المواطن الصعود مع السائق الذي تتوافق تسعيرته مع قدرته المادية".
سلامة مرورية مفقودة... الدراجات على طريق الموت!
بناء على ما تقدم، إذا كانت الدراجات النارية في المدن العالمية تعني السرعة والمرونة، فهي في لبنان تتحول إلى معادلة قاتلة، حيث يتصاعد عدد الاصطدامات الناجمة عنها بوتيرة تثير القلق. ورغم أن الأرقام الدقيقة لا تفصل الوفيات والإصابات بحسب وسيلة النقل، فان مشاهد الحوادث اليومية وعناوين الأخبار التي تكرر مفردات "وفاة شاب على دراجة"، تروي القصة بوضوح أشد من أي إحصاء.
لذا، في شوارع لبنان، تُشاهد الدراجات النارية تندفع كالسيل الجارف بين السيارات، تتسلل بين الممرات الضيقة، وتتجاوز الإشارات الحمراء بلا اكتراث، وأحيانا تحمل أكثر من شخص، بينهم أطفال، بلا أي التزام بالحد الأدنى من معايير السلامة. الخوذات التي تُفرض بقوة القانون في دول العالم، تتحول هنا إلى خيار شخصي، بينما تصبح مخالفة قوانين السير المحلية جريمة يلجأ اليها البعض دون رادع، ناهيكم بالسرعة الجنونية التي قد تودي بحياة أي هاوٍ مبتدئ.
الهروب من الأزمة.. عندما تصبح "الموتسيكلات" قشة النجاة
الى جانب كل ما ذكر، إذا كان ارتفاع أسعار المحروقات قد أقفل أبواب السيارات أمام أصحاب الدخل المحدود، فقد فتح في المقابل الأبواب أمام الدراجات النارية، التي أضحت بديلا أكثر جدوى في بلد ينهار فيه كل شيء إلا الحاجة إلى التنقل. إنها سبيل الفقراء والمعدمين، لكنها أيضا وسيلة صمود في وجه الانهيار الاقتصادي، حيث باتت تؤمّن فرص عمل جديدة، سواء في خدمات التوصيل أو التنقل الشخصي، وكأنها تحولت إلى سفينة صغيرة يحاول المواطن العادي أن يعبر بها بحار الأزمة.
فمنذ عام 2018، تسجل أعداد الدراجات النارية المستوردة قفزات هائلة، تعكس الإقبال الجماعي عليها كعوض عن وسائل النقل التقليدية، وكأن اللبنانيين قد وجدوا في عجلتيها طريقة للتغلب على جمود الأوضاع. لكن السؤال هنا: هل تتحول هذه الاداة إلى حل دائم أم أنها مجرد استجابة مؤقتة لأزمة طاحنة؟
بين الأمن والفوضى.. الموتوسيكل وجهان لعملة واحدة
لكن كما أن المركبات ذات العجلتين تحمل الركاب وتنقل البضائع، فإنها أيضا تنقل المخاطر. فهي وسيلة الهروب السريعة التي يعتمد عليها منفذو عمليات السرقة، وأداة فعالة في جرائم الخطف والتهريب، ما يجعلها على الدوام محلا للشك الأمني، وسبباً رئيسيا في ارتفاع وتيرة عمليات التفتيش الأمنية في الشوارع. لذا في بلد تتكدس فيه الأزمات، يصبح من الصعب تطبيق القوانين بصرامة، ما أدى إلى انتشار آلاف الدراجات النارية غير المسجلة، التي تسير بلا أرقام تعريفية، وكأنها أشباح تتجوّل بحرية بين الأزقة والطرقات. وحتى تلك المسجلة، لا تلتزم بالضرورة بالقوانين المرورية، ما يجعل ضبطها مهمة معقدة تتطلب أكثر من مجرد حملات أمنية موسمية كما حدث منذ فترة ليست ببعيدة.
هل تتحول ذات العجلتين إلى تاكسي جديد؟
يوضح، مصدر في هيئة إدارة السير والاليات لـ "الديار"، انه "في بعض الدول، تحوّلت الدراجات النارية إلى قطاع منظم، يعمل ضمن تطبيقات ذكية ويوفر خدمات نقل سريعة بأسعار معقولة. لكن هنا لا بد من طرح السؤال الآتي: هل يمكن للبنان أن يسلك هذا الطريق؟ يجيب المصدر، يبدو ذلك خياراً مثيراً للجدل، خاصة مع غياب البنية التحتية اللازمة، ووجود معارضة محتملة من نقابات النقل البري، التي قد تعتبره تهديدا مباشراً لمصدر رزقها".
ويضيف "فبينما تحتاج سيارات الأجرة إلى تراخيص ولوحات عمومية، لا يزال قطاع الدراجات النارية في لبنان يسير في المنطقة الرمادية، دون تنظيم واضح، وبلا معايير سلامة مفروضة على سائقيها". لكن في ظل التوسع المستمر لاستخدامها، هل يمكن أن نشهد يومًا لوحات حمراء خاصة بدراجات التاكسي، تماما كما هو الحال مع سيارات الأجرة التقليدية؟
من يدفع ثمن الفوضى المرورية؟ يجيب المصدر "في بلد حيث البنية التحتية تتهاوى تحت وطأة الإهمال، تصبح الدراجات النارية عبئا إضافيا على نظام مروري متصدع. فالشوارع المصممة للسيارات لم تُهَيَّأ لاستيعاب هذه الأعداد الهائلة من الدراجات، ولا توجد مسارات مخصصة لها، ما يجعلها تتشابك مع السيارات والمارة في مشهد فوضوي ينذر بكوارث مرورية يومية، مشيرا الى انه إذا كانت هذه العشوائية تزعج السائقين وتثير قلق المشاة، فإنها أيضا تمثل تحديا كبيرا للسلطات المعنية. فإما أن يتم تنظيم هذا القطاع ودمجه ضمن منظومة النقل، وإما أن يبقى عنصرا منفلتا يزيد من الهرج إلى المشهد اللبناني".
تجدر الإشارة هنا الى انه وفقا لدراسة أعدتها "الدولية للمعلومات"، تم استيراد حوالي 177 ألف دراجة نارية خلال السنوات الست الأخيرة. ففي عام 2021، بلغ عدد الدراجات النارية المستوردة حوالي 29,102 دراجة، بينما ارتفع العدد في الأشهر السبعة الأولى من عام 2022 إلى 47,077 دراجة. وبالنظر إلى حركة استيراد الدراجات النارية في السنوات العشر الأخيرة، يتبين أن العدد الإجمالي منذ عام 2014 وحتى 2023 بلغ حوالي 626 ألف دراجة، في حين لا يتجاوز عدد المركبات المسجلة 290 ألفًا، مما يشير إلى أن عدد الدراجات غير المسجلة قد يقترب من هذا الرقم. تسلط هذه الأرقام الضوء على التحديات المرتبطة بزيادة اعتماد الدراجات النارية في لبنان، والحاجة الملحة إلى تنظيم هذا القطاع لضمان السلامة المرورية.
بين الحل والتجاهل... ماذا بعد؟
يؤكد المصدر في هيئة إدارة السير انه "حتى الآن، لا يبدو أن هناك توجها رسميا واضحا لتنظيم قطاع الدراجات النارية، رغم انتشارها الكاسح. فضلا عن ان نقابات النقل البري لم تحسم موقفها، ووزارة الداخلية لم تضع خطة شاملة للتعامل مع الظاهرة، وكأن الجميع يتعامل معها على انها واقع مفروض يجب التعايش معه. لذلك، فان بقاء الوضع على ما هو عليه ليس خيارا مستداما ولا ينبغي ان يستمر على هذا النحو. فإما أن تتحول الدراجات النارية إلى جزء شرعي ومنظم من شبكة النقل وهذا الملف سيطرح على وزير الداخلية الجديد احمد الحجار، ليتم دمجه ضمن إطار قانوني يحفظ حقوق مستخدميها وسلامة المواطنين، وإما أن تظل كونها معضلة متفاقمة، تجلب معها المزيد من المشكلات الأمنية والمرورية".
في الخلاصة، مع تأليف الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة القاضي نواف سلام وإعلانها رسميا يوم السبت ٨ شباط، تبرز على الطاولة ملفات عالقة تتطلب حلولًا جذرية، من بينها تفشي الفساد والتحديات الإدارية، إضافةً إلى قضايا النقل العام، لا سيما مشكلة الدراجات النارية التي باتت تُستخدم كوسيلة لنقل الركاب. ورغم أن وزارة الداخلية والبلديات، ممثلة بهيئة إدارة السير والآليات والمركبات، ستبحث عن صيغة لمعالجة هذه الظاهرة، فإن الحلول لن تكون فورية، بل ستتطلب إصلاحات تدريجية، وربما استحداث قوانين جديدة. كما لا يمكن تجاهل المخاطر التي تشكلها هذه الوسيلة على السلامة العامة. لذلك، من المبكر الحكم على العهد الجديد قبل أن تتمكن كل وزارة من تفكيك الملفات العالقة ومعالجتها بفعالية.
وسط كل هذا الهرج على الطرقات، يبقى السؤال الجوهري: هل نحن أمام بداية عصر جديد في قطاع النقل، أم أننا ببساطة نشاهد فصلاً آخر من فصول الفوضى اللبنانية المستمرة؟
الديار - ندى عبد الرزاق
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|