الصحافة

“قانون المصارف”: تسوية تدفن الحقيقة والودائع!

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

أنهت حكومة نوّاف سلام مناقشة “مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها، وهو مطلب إصلاحي أساسيّ، وأقرّته لترسله إلى البرلمان، حيث لا بدّ من دعم موافقة مجلس الوزراء على المشروع، لكن بعد تسجيل سلسلة ملاحظات.

لم يبدأ الانهيار الماليّ في لبنان مع التخلّف عن السداد في عام 2020، بل هو نتيجة عمل تراكميّ عمره سنوات تسبّب بهذه الفوضى. لقد كان نتيجة المجازفة المتهوّرة من قبل البنوك، وعقود من الإهمال التنظيمي، وأداء الطبقة السياسية التي فضّلت الوهم على المساءلة.

الآن، بعد سنوات من التأخير والدمار، أقرّ لبنان مشروع قانون لإنقاذ المصارف وإعادة هيكلتها، لكن مع القليل من الاهتمام بالصحّة الفعليّة للقطاع المصرفي، وحتّى أقلّ اهتماماً باستعادة الثقة التي تحطّمت.

الثقة هي شريان الحياة لأيّ نظام ماليّ. في لبنان، تبخّرت هذه الثقة. لقد تمّت محاصرة المودعين وتجاهلهم. ومشروع القانون هذا، المؤرّخ في 12 نيسان 2025، لا يفعل شيئاً لاستعادة ما فُقد. يقدّم آليّات قانونية من دون وضوح أخلاقي، أي عمليّة بلا هدف ترتدي زيّ الإصلاح لتكون غطاءً قانونيّاً لواحدة من أكبر الخيانات الماليّة في تاريخ البلاد.

يجري تقديم مشروع القانون هذا حلّاً يقترح إطاراً قانونياً لإعادة هيكلة أو تصفية البنوك الفاشلة، ويقدّم أدوات “الإنقاذ”، ويعطي الأولويّة للودائع المؤتمن عليها. وينشئ نسخة جديدة من الهيئة المصرفيّة العليا، باعتبارها السلطة الرائدة، كاملة مع خبراء مستقلّين وصلاحيّات موسعة.

للوهلة الأولى، يبدو هذا وكأنّه تقدّمٌ. لكنّ نظرة فاحصة تكشف عن إغفال خطير: لا مساءلة ولا حساب ولا حقيقة. يتعامل مشروع القانون مع الانهيار المصرفي في لبنان على أنّه حادث تقنيّ وليس نتيجة فشل تنظيمي هائل وفساد مؤسّسي، ويوفّر أدوات من دون ثقة، وعمليّة من دون عدالة.

كانت الأدوات موجودة دائماً

ما يجعل هذا الأمر أكثر إثارة للقلق هو أنّ لبنان كان يمتلك بالفعل الأدوات اللازمة لمنع هذا الانهيار، أو على الأقلّ لاحتواء أضراره. عام 2020، أصدر مصرف لبنان التعميم الأساسي الرقم 154، الذي يطالب المصارف بإعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج وتعزيز رؤوس أموالها. وفي الوقت نفسه، كان نظام تصنيف .C.A.M.E.L.S، وهو معيار ذهبيّ لتقويم أداء البنوك، متاحاً للمصارف المركزية في لبنان والعالم. يقوّم هذا الإطار المعتمد عالميّاً كفاية رأس المال وجودة الأصول وفعّالية الإدارة والأرباح والسيولة والحساسيّة لمخاطر السوق.

كانت هذه الأدوات أكثر من كافية لتحديد البنوك الفاشلة مبكراً، وفصل المصارف القابلة للاستمرار عن المتعثّرة، ورسم مسار التعافي المسؤول.

لكن تمّ تجاهلهم…

لكنّ هذه الأدوات، التعميم 154، والـ C.A.M.E.L.S، والمعايير الدولية لإعداد التقارير المالية مثل المعيار الدولي للتقارير المالية I.F.R.S. رقم 9، تمّ تجاهلها أو تسليحها بشكل انتقائي. وقفت لجنة الرقابة على المصارف في لبنان، التي كان من المفترض أن تعمل حارساً للنزاهة المالية، مكتوفة الأيدي بينما تهرب المصارف من الإصلاحات الحاسمة.

طالب التعميم 154 الصادر عام 2020 بإعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج وتعزيز أوضاع السيولة. كان من المفترض أن يكون خطّاً في الرمال يميّز البنوك التي لا تزال قادرة على خدمة الاقتصاد من تلك التي فشلت. ومع ذلك، لم تنفّذ أيّ متابعة، ولم تطبّق أيّ عواقب على أولئك الذين تحدّوها. تعاملت البنوك مع ذلك على أنّه استشاري، وسمحت لهم لجنة الرقابة على المصارف بالقيام بذلك.

نظام تصنيف C.A.M.E.L.S الذي كان ينبغي أن يكون أداة تشخيصيّة لتحديد المصارف الضعيفة أو المتعثّرة، إمّا لم يطبَّق أو ظلّ سرّيّاً عمداً. في أيّ نظام صحيح، كان من شأن هذا أن ينتج تصنيفاً عامّاً لصحّة البنوك، وتمكين المودعين، وإبلاغ صانعي السياسات، وإطلاق إجراءات تصحيحيّة. في لبنان، تمّ دفنه.

ثمّ هناك المعيار الدولي للتقارير المالية رقم 9، وهو المعيار العالمي للاعتراف بخسائر الائتمان المتوقّعة. ولو تمّ تطبيقه بشكل صحيح لكانت على البنوك مواجهة واقع ميزانيّاتها العمومية، وتوفير القروض المعدومة، والاعتراف بعمق الأزمة في وقت مبكر. بدلاً من ذلك، كان الامتثال اختياريّاً من الناحية العملية. نظرت الهيئات الرقابية في الاتّجاه الآخر بينما استمرّت البنوك في رسم صور خياليّة للملاءة.

فشل أم تواطؤ؟

مرّت سنوات ولم تصدر أيّ تصنيفات ولم تتمّ مراجعة أيّ بيانات مالية بشكل هادف ولم يتمّ رسم أيّ مسار لاستعادة الودائع أو استعادة الثقة.

هذا ليس فشلاً تنظيميّاً بسيطاً. هذا تواطؤ وتخلٍّ متعمّد عن الواجب من أولئك الذين كُلّفوا حماية مدّخرات الجمهور ونزاهة النظام الماليّ.

بالنظر إلى هذا النمط من التقاعس والصمت، لم يعد السؤال: ما إذا كان الفشل التنظيمي قد حدث؟ بل لماذا سُمح له بالاستمرار؟ ومن استفاد منه؟

حان وقت المساءلة

لم تعد كافيةً المطالبة بالإصلاح. لقد حان الوقت للمطالبة بالمساءلة.

يجب أن يكون هناك تحقيق رسمي ومستقلّ في سلوك لجنة الرقابة على المصارف في لبنان، بما في ذلك فشلها في تطبيق التعميم 154، وقمعها الواضح للتقويمات المصرفية القائمة على .C.A.M.E.L.S، وتجاهلها للمعايير الدولية لإعداد التقارير المالية مثل المعيار الدولي للتقارير المالية رقم 9.

يجب أن يسأل هذا التحقيق:

– لماذا لم تضطرّ البنوك إلى إعادة الأموال إلى الوطن أو زيادة رأس المال وفقا للتعميم 154؟

– لماذا لم يتمّ الكشف علناً عن تصنيفات البنوك في A.M.E.L.S، حتّى مع بقاء المودعين مغلقين من حساباتهم؟

– لماذا لم يتمّ الاعتراف بخسائر الائتمان وفقاً للمعيار الدولي للتقارير المالية رقم 9، على الرغم من التعرّض الهائل للموجودات المتعثّرة؟

– مَن داخل السلطة الإشرافية اتّخذ أو تجنّب القرارات التي سمحت لهذه الإخفاقات بالتراكم دون رادع؟

ليس الشعب اللبناني ضحيّة للمصائب الاقتصادية وحسب، بل إنّه ضحيّة خيانة مؤسّسيّة. وأيّ حلّ يستبعد هذا الحساب ليس ذا مصداقية ولن يعيد الثقة وسيقوم فقط بإعادة تدوير الخلل الوظيفي نفسه في ظلّ واجهة قانونية جديدة.

يجب أن تبدأ العدالة بالحقيقة. ويجب أن تبدأ الحقيقة بتحقيق كامل لا يشمل البنوك فقط، بل والمنظّمين الذين تخلّوا عن مناصبهم.

قانون يضفي الشّرعيّة على الإخفاقات

بدلاً من مواجهة الانهيار المؤسّساتيّ الذي أركع لبنان، يكرّر مشروع القانون الجديد المسار نفسه ويضفي عليه الشرعيّة. إنّه يضع مصرف لبنان، المؤسّسة نفسها التي هندست الانهيار المالي في لبنان وأطالت أمده، في قلب الحلّ. والأسوأ من ذلك أنّه لا يقدّم أيّ فحص ذا مغزى لدور مصرف لبنان أو دور لجنة الرقابة على المصارف في لبنان التي فشلت فشلاً ذريعاً في الوفاء بولايتها الإشرافية.

النظام السياسي ذاته الذي كان يحمي البنوك غير المسؤولة ويتجاهل المودعين، تُعهد إليه الآن إدارة إعادة الهيكلة. هذا ليس انفصالاً عن الماضي بل استمرار للخلل الوظيفي نفسه تحت قناع قانوني.

مواقع الفشل

لا يزال القانون يفشل في:

– تصنيف البنوك بشفافيّة بناء على المخاطر أو الملاءة.

– تقديم خارطة طريق موثوقة لاسترداد الودائع أو تعويض المودعين.

– الاعتراف، علاوة على المقاضاة، بالإهمال التنظيمي الذي مكّن الأزمة.

– توضيح معايير توزيع الخسائر بين المساهمين والدائنين والمودعين.

– ضمان تعيينات مستقلّة وخالية من النزاعات في سلطة الحلّ.

يتجاهل كيف أساءت البنوك إدارة المخاطر وكيف نظر المنظّمون في الاتّجاه الآخر. لا يوجد حتّى الآن دور للجنة التحقيق الخاصّة (S.I.C)، وهي الهيئة نفسها التي كان ينبغي أن تقود مكافحة الجريمة الماليّة.

هذا ليس إصلاحاً. هذا فقدان الذاكرة المؤسّساتي المقونن في قانون.

أنهت حكومة نوّاف سلام مناقشة “مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها، وهو مطلب إصلاحي أساسيّ

ما يحتاج إليه لبنان

لا يمكن أن يبدأ حلّ ذو مصداقية بالجهات الفاعلة نفسها التي فشلت في منع الأزمة. يجب أن يبنى على:

– الشفافيّة: تصنيف عامّ للبنوك إلى فئات قابلة للتطبيق وقابلة للاسترداد وغير قابلة للاسترداد.

– المساءلة: تحقيق رسمي في C.C.L ومصرف لبنان والسلطات المختصّة الأخرى المشاركة في الإشراف على الاستقرار الماليّ.

– قول الحقيقة: تدقيق جنائيّ كامل في الأداء وليس في الأرقام يتناول كيفية تجاهل المخاطر وإخفاء الخسائر واختفاء الودائع.

– العدالة: إطار تعويض يحمي المودعين الصغار والمتوسّطين ولا يكافئ أولئك الذين استغلّوا النظام.

لا يمكننا إعادة بناء الثقة في صمت. ولا يمكننا استعادة الثقة بالإفلات من العقاب. لن يؤدّي القانون الذي يتغلّب على التعفّن إلّا إلى تأخير التعافي وتعميق خيبة الأمل العامّة.

أخيراً، قد يرضي مشروع القانون هذا المراقبين الدوليين من خلال تقديم مظهر النظام. وقد يساعد ذلك في إطلاق العنان للتمويل الخارجي أو استرضاء صندوق النقد الدولي. لكن بالنسبة للشعب اللبناني، يخاطر بدفن الحقيقة مع الودائع.

محمد فيحلي-اساس

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا