"حقل ألغام" على الطريق من بيروت إلى دمشق!
يُدرك رئيس الحكومة نواف سلام ومعه المسؤولين الكبار أنّه بسلوكه طريق بيروت - دمشق، ولو قصدها جوّاً، فهو يمشي في حقل من الألغام سبقه إليه كثر ممَّن عبروها من موقع المسؤولية في لبنان على مدى العقود الماضية. وهو قبل أن يمشيها خطى كتبت عليه، يحتسب خطواته بدقة على خلفية نظرتَي المجتمعَين العربي والغربي إلى النظام السوري الجديد ليعرف كيف يتصرّف من دون إحراج أي منهما. وعليه ما هي المؤشرات الدالة إلى هذه القراءة والنتائج المرتقبة؟
قبل أن يتوجّه إلى دمشق أجرى رئيس الحكومة نواف سلام جولات من المناقشات والاستشارات الضرورية لمناقشة كل ما يحوط بالخطوة إن كان عليه أن يمشيها. فإلى المناقشات المعمّقة التي أجراها مع كل من رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ومجموعة من المستشارين والديبلوماسيِّين العرب والأجانب في لبنان لإجراء التقويم اللازم وتقدير ما يمكن أن تنتهي إليه أي مهمة من هذا النوع، إستمع بكثير من الإصغاء إلى كل من وزير الخارجية السفير يوسف رجّي والدفاع اللواء ميشال منسى اللذَين كانت لهما مناقشات أولية مع نظيرَيهما السوريَّين في بروكسل والرياض، وهما من أركان النظام الجديد وأعمدته والمكلفان بناء علاقاته الديبلوماسية، كما الأمنية والعسكرية، في الداخل والجوار السوري والعالم.
لم تكن الفكرة قد اختمرت بعد في رأس سلام قبل زيارته الأخيرة إلى الرياض، التي التقى خلالها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي نصحه بحماية علاقته المميّزة مع رئيس الجمهورية، ليكونا في موقع واحد لما فيه خير لبنان ولإنجاح المساعي المبذولة لتطبيق القرارات الدولية، بما هي أبعد من نتائج الحرب كما للخروج من مآزق استُدرج لبنان إليها. كما شجّعه على الخطوة في اتجاه دمشق داعياً إياه ليكون من بين الساعين إلى إعطاء النظام الجديد فرصة إلى حين تأمين الاعتراف الدولي والإقليمي الذي يحتاجه في هذه المرحلة بالذات. مطمئناً إلى أنّ ليس هناك من نظرة عربية ولا خليجية متناقضة تجاهه. فالرعاية القطرية التي حظي بها الرئيس أحمد الشرع إلى جانب الرعاية التركية لم تَعُد ثنائية، وقد توسعت، إذ حظيَ الرجل برعاية خليجية واسعة دفعت معظم دول المنطقة لتكون على تواصل معه من أجل ترسيخ سلطته وتعزيز قدراته لمواجهة حجم المؤامرات التي يتعرّض لها. فالتقارير الاستخبارية تُنبئ بأنّه ما زال في عَين العاصفة وهو مهدّد قبل عبوره مجموعة المطبات التي يواجهها في الشؤون الداخلية والخارجية وفي محيطه.
ولذلك، يعتقد الديبلوماسيّون الخليجيّون أنّ اطمئنانهم إلى الجانبَين العراقي والأردني، كما التركي، تجاه النظام السوري الجديد يحتاج إلى سَدّ الثغرة اللبنانية وأنّه مستعد لهذه المهمة، فلا أطماع له ولا مشاريع تتجاوز الحدود السورية وتوفير مقوّمات الإقلاع بالتركيبة الجديدة التي تحتاج إلى كثير من الرعاية، تعويضاً عن حجم الخسائر الكبرى التي مُنِيَت بها الدولة بكافة مؤسساتها على مدى 13 عاماً، وزاد من حدّتها فقدان القدرات العسكرية المختلفة التي أنهكتها الحرب، وقد قضت الاعتداءات الإسرائيلية على ما تبقى منها. فمعظم الثكن والقواعد والمطارات السورية دُمِّرت ومعها سلاح البحرية، فلم تنجو سوى بعض القطع الخاصة بخفر السواحل التي كانت إلى جانب القطع الروسية في ميناء طرطوس بعد تدمير القاعدة البحرية في اللاذقية.
وعليه بات النظام الجديد وما تسلّمه من مقوّمات الدولة بعد حَلّ الجيش السوري النظامي، بلا أي غطاء يُوفّر له الحدّ الأدنى من الحماية الخارجية والقدرة على تنفيذ مهماته الداخلية المستحقة بعد نجاح الإنقلاب على النظام وفرار رئيسه بشار الأسد، ولم يَعُد يستند في متطلباته الأمنية والاقتصادية سوى إلى الأسلحة التي تحملها الفصائل السورية المختلفة وما هو متوافر من الموارد الداخلية بعد شطب الديون الخارجية، ومنها الهالكة كالروسية والإيرانية، كما بالنسبة إلى تلك التي يمكن تأجيل سدادها إن لم يتخلّص منها. وعليه فإنّه، وفي مقابل التغطية والمساعدة الخليجية الكبيرة، لا تكتمل فصولها ما لم يُرتّب النظام علاقاته مع لبنان الذي يمكنه أن يعود ليُشكّل بوّابته على طرف كبير من حدوده الشرقية، لتسهيل بسط سلطة الدولة عليها ورعاية ملف النازحين السوريّين واستعادة المطلوبين من أركان النظام المنهار الذين فرّوا إلى دول الجوار، إذ إنّ لبنان كان وجهتهم المفضّلة ليس بسبب الفلتان الأمني فيه، بل لوجود بيئة ما زالت حاضنة لهم، وهم يعتقدون أنّ في استطاعتهم تعكير صفو الأمن في «الداخل المسلوب»، بعدما تبيّن أنّ للبعض منهم أيدٍ في أحداث الساحل وحمص وحماة وبعض أرياف دمشق.
وإلى هذه المعطيات، فقد عبّر الجانب السوري عن استعدادات مسبقة للتعاون مع لبنان إبّان الأحداث الأخيرة في الساحل وعلى الحدود الشرقية، فتعاون الجيش اللبناني مع الوحدات الشرعية السورية التي بدأت تتكوّن بصعوبة وسهّل مهمّتها وتمكّن من ضبط نقاط حدودية واسعة، قبل أن ترعى المملكة العربية السعودية لقاءً استثنائياً بين وزيرَي دفاع البلدَين، وتوصّل إلى اتفاق على التهدئة وترسيم الحدود وتعطيل أسباب التوتر على بعض النقاط الحساسة، وسدّ منافذ التهديد القائم، حيث كان للفلتان القائم منذ سنوات رعاية رسمية بكل الوجوه المطلوبة لاستدراج المنافع على أنواعها التي كان يحتاجها النظام.
وبناءً على ما تقدّم، فإنّه لم يَعُد أمام لبنان سوى قياس علاقات النظام السوري بالعالم الغربي، وقد بدأت بعض الخطوات الإيجابية بالظهور انطلاقاً من المساعي المبذولة دولياً لتخفيف العقوبات التي فُرِضت على النظام السابق، وهو ما يجعل لبنان قادراً على تنظيم علاقته بالسلطة الجديدة وفق معايير واضحة مطمئناً إلى المواقف الإيجابية الدولية التي تلاقت والخليجية خصوصاً والعربية عموماً، وبرعاية قائمة من جانب كل هذه القوى. فالاستقرار في لبنان كما في سوريا بات هدفاً عربياً وغربياً في انتظار حَلّ المشكلات الناجمة من الاحتلال الإسرائيلي وحاجة البلدَين إلى علاقات جيدة بينهما ليُبنى عليها الكثير لمصلحتهما.
وختاماً لا بُدّ من التأكيد أنّ كل ما سبق من المؤشرات لن تكتمل فصولها ولا يثبت وجودها ما لم تضع زيارة سلام لدمشق مدماكاً متيناً يُبنى عليه كثير من الخطوات الإيجابية على أكثر من مستوى. فسوريا كانت وستبقى بوّابة لبنان الوحيدة إلى العمق العربي ولا يُستهان بحجم ما يُشكّله لبنان لها من بوّابة في اتجاهات أخرى.
جورج شاهين -الجمهورية
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|