في وداع الحبر الأعظم: بين دموع الحزن ونور الرجاء
يرحل البابا فرنسيس، ويترك خلفه فراغاً لا يملؤه سوى الإيمان بأن الرسالة التي حملها ستبقى حيّة ومتمددة في العالم.
لحظة الفراق ليست مجرد حدث عاطفي عابر، بل هي حدث وجداني وإنساني وروحي يختزل في طياته أعظم معاني الحزن والرجاء معًا. ففي رحيل هذا الحبر الأعظم، تشعر الكنيسة الجامعة، ومعها الإنسانية جمعاء، أن صوته الذي طالما دافع عن الإنسان المظلوم، والمهمش، والمقهور، قد غاب عن الساحة، لكن في المقابل، يترسخ الإيمان بأن البذور التي زرعها ستنبت ثماراً تواصل مهمته التي كانت امتدادًا حياً لما بدأه القديس البابا يوحنا بولس الثاني، حين مد يده إلى الأديان الأخرى، وأسّس لنهج الأخوة والحوار العالمي.
البابا فرنسيس لم يكن مجرد رئيس للكنيسة الكاثوليكية، بل كان رسولاً حقيقياً للأخوة الإنسانية. بحضوره، وبكلماته البسيطة القوية، وبإيماءاته الصادقة، جعل من الحوار بين الأديان مساراً ثابتاً لا تراجع عنه، موقناً أن مستقبل العالم يتوقف على بناء الجسور لا الجدران. لم تكن لقاءاته مع شيخ الأزهر، ولا وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها، ولا زيارته التاريخية الى العراق ولقائه النوراني مع المرجع آية الله السيد علي السيستاني، ولا زياراته الجريئة إلى بلدان النزاعات سوى ترجمة عملية لهذا الإيمان العميق بأن الإنسان، مهما اختلفت معتقداته، هو أخ لأخيه الإنسان. وفي هذا الإصرار على الحوار، أكمل فرنسيس مسيرة سلفه القديس يوحنا بولس الثاني، لكن بإضافة بصمته الخاصة التي مزجت بين تواضع الفقير وثورة المصلح، بين حكمة الراهب وجرأة القائد.
ولبنان، كان له دائمًا مكان خاص في قلب البابا فرنسيس. أحبه حباً صادقاً، ورآه رسالة لا مجرد وطن، كما قال سلفه القديس يوحنا بولس الثاني. لم يتوقف عن الصلاة لأجله، ولم يتردد في قرع جرس الإنذار أمام الضميرين الديني والسياسي اللبناني. بأسىً عميق وحزم لافت، كان يوجه انتقاداته إلى رجال الدين الذين خانوا قدسية رسالتهم حين وقعوا في فخ السلطة والمال، وإلى السياسيين الذين غفلوا عن قدسية الأرض التي يعيشون عليها وفرّطوا في مستقبلها وشعبها. لم يخفِ استياءه من الذين يسهمون في تقويض أسس لبنان التعددي، مذكراً الجميع، بلا كلل، أن لبنان ليس ملك طائفة أو حزب، بل ملك رسالة إنسانية وروحية أوسع من حدود الطوائف والجغرافيا.
في لحظة الحزن العميق على رحيله، يبدو العالم كمن فقد جزءاً من ضميره الحي. تتراءى صورة البابا فرنسيس في ذهن المؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء، كصوت الحق وسط ضجيج المصالح، وكمرآة للضمير النقي وسط عالم مأزوم. لكن في عمق هذا الحزن، يضيء شعاع رجاء لا يخبو: رجاء بأن الرسالة لم تنته، بل بدأت طوراً جديداً، رجاء بأن من تبعوه في مسار الأخوة والرحمة والعدالة، سيواصلون الطريق بنفس الحب والإصرار.
ورحيل البابا فرنسيس، رغم وطأته العاطفية والروحية الثقيلة، هو تذكير صارخ بأن الكبار لا يغيبون فعلاً، بل يتحولون إلى تراث حي يغذي أجيالاً لاحقة. رسالته، المجبولة بدموع المظلومين، وصلاة الفقراء، وصبر الشعوب المتألمة، ستبقى حيّة، شاهدة على أن الحب أقوى من الموت، وأن الأخوة الإنسانية، التي كرس لها حياته، هي المستقبل الذي لا بد أن ينتصر.
داود رمال – "أخبار اليوم"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|