إقتصاد

لبنان وأزمته الاقتصادية: هل نملك ترف العدالة قبل الإنقاذ؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

منذ أسابيع، بدأت ترتسم بعض إشارات التحرّك في المشهد اللبناني: مشاريع قوانين تتنقّل بين اللجان، كلام عن إصلاحات، ووعود بتفعيل مؤسّسات الدولة لتحسين تقديم الخدمات العامّة. وها هو وفد رسمي مثّل لبنان وشارك في اجتماعات الربيع للبنك الدولي وصندوق النقد، محاولاً تفعيل التفاوض على برنامج إنقاذ بات مصيريّاً. في الظاهر، يدعو الحراك إلى التفاؤل. لكن في العمق لا يزال المشهد غارقاً في الضبابيّة.

الإعلام اللبناني، كعادته، منقسم عموديّاً بين من يرى في أيّ تسوية خيانة وطنية، ومن يروّج لقبول ما تيسّر من حلول لوقف النزيف. الأصوات كثيرة، والحديث عن العدالة والحقوق يتصدّر العناوين. لكنّ كثيراً ممّا يُقال إمّا غير قابل للتطبيق، أو يتجاهل حجم الخراب، أو يطلب المستحيل في لحظة دقيقة لا تحتمل الشعارات.

الحقيقة التي يصعب على البعض تقبُّلها أنّ لبنان اليوم ليس في موقع يسمح له بتحقيق العدالة الكاملة كما يتخيّلها الرأي العامّ، ولا ترف التفاوض من موقع قوّة كما تدّعي بعض الأطراف. فالبلد مأزوم على كلّ المستويات: انهيار ماليّ ومصرفيّ غير مسبوق، تفكّك نقديّ، تفشّي الفقر والبطالة، تدهور في نوعية الحياة، ومؤسّسات شبه معطّلة. ولم يأتِ هذا الانهيار من فراغ، بل كان نتيجة مباشرة لأداء سياسي فاسد ومترهّل، استُكمل بجائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، والعدوان الإسرائيلي الأخير، وكلّها ضربات متلاحقة وقاسية أصابت بنية الدولة والمجتمع على حدّ سواء.

المشكلة الكبرى أنّ من يُفترض بهم إيجاد الحلول هم أنفسهم من كانوا في صلب الأزمة، وشارفوا على جعل الدولة غير قابلة للحكم. هذه مفارقة خطيرة لم تجد طريقها بعد إلى المعالجة الجدّية. كيف يُطلب من المرتكبين أن يقودوا المسار الإصلاحي؟ وكيف نثق بأنّ المنظومة التي أغرقتنا قادرة على إنقاذنا؟

الإنعاش والتعافي والنمو

في لبنان، يقول المثل الشعبي: “إذا بتكبّر الحجر، ببطّل فيك تكبّو”. هذا تماماً ما نعيشه اليوم: مقاربات مثاليّة، مطالب عادلة من حيث المبدأ، لكنّها في غالبيّتها غير قابلة للتنفيذ في الواقع الحاليّ. وفي خضمّ هذه الفوضى، بات المواطن يعيش بين شِقّي رحى: خطاب عدالة لا يتحقّق، وممكنات واقعيّة لا ترويه.

واقع الحال أنّ الحلول لا تأتي دفعة واحدة، ولا بهزّة سياسية أو اتّفاق عابر، بل لا بدّ أن تكون على مراحل كما هي خطوات العلاج في غرفة العناية المركّزة. أوّلاً الإنقاذ، ثمّ الإنعاش، فالتعافي، وأخيراً النموّ.

مرحلة الإنقاذ: هي المرحلة التي نعيشها اليوم، حيث الأولويّة القصوى هي لوقف التدهور. يجب تصويب الأداء العامّ، تثبيت سعر الصرف، ترشيد النفقات، وتحقيق الحدّ الأدنى من الاستقرار الماليّ والنقديّ. لكن في هذه المرحلة، لا يجوز تحميل الناس كلفة إصلاحات مؤلمة. فأيّ محاولة لإصلاحات ضريبية أو ماليّة جذرية الآن ستُفاقم الفقر وتزيد من الانهيار الاجتماعي.
مرحلة الإنعاش: تتطلّب بناء شبكة أمان اجتماعي حقيقية تحمي الفئات الأكثر هشاشة، وتعيد الثقة تدريجياً. هنا يجب أن يلتقي الدعم الخارجي مع رؤية وطنية واضحة تضع نصب عينيها حماية المواطن قبل حماية الأسواق التجارية.
مرحلة التعافي: وفيها تبدأ الدولة بتصفية التركة الثقيلة: مراجعة السياسات العامّة، إعادة هيكلة القطاع المصرفي، محاسبة مسبّبي الانهيار، وتنظيف الإدارة العامّة من منظومات الزبائنيّة السياسية والفساد. في هذه المرحلة، تصبح العدالة جزءاً من الحلّ، وليست شعاراً فقط.
مرحلة النموّ: هي الأمل الذي يجب أن يُبنى عليه. وتتضمّن استثماراً في الإنتاج، دعم الابتكار، إصلاح التعليم، وتحفيز الاقتصاد الحقيقي. يملك لبنان طاقات بشرية واقتصادية هائلة، لكنّها معطّلة، مقموعة، أو مهاجِرة. لن يكون النهوض سهلاً، لكنّه ممكن، فقط إذا سبقه مسار من الواقعية والعقلانية.

لكن لا يكفي تحقيق النموّ الاقتصادي في حدّه الكمّي، بل لا بدّ أن يكون هذا النموّ مستداماً وعادلاً ومتماشياً مع أهداف التنمية المستدامة. النموّ الحقيقي ليس فقط في ارتفاع المؤشّرات والأرقام، بل في جودة الحياة والعدالة البيئية وتكافؤ الفرص وتمكين الأفراد والمناطق المهمّشة.

في هذا السياق، من الضروريّ أن يتحلّى صانعو السياسات الاقتصادية في لبنان بأعلى درجات الحيطة والحذر في خطابهم، لا سيما عند الحديث عن “استعادة النموّ”. فالنموّ لا يُستعاد بالشعارات، ولا يُبنى على أوهام، بل على جهوزيّة وطنية شاملة: بنى تحتيّة فعّالة، مؤسّسات نزيهة، بيئة قانونيّة حامية، وعدالة اجتماعية تُعيد التوازن بين المركز والأطراف.

إعادة ترتيب الأولويات

إنّ أيّ وعود غير مدروسة بالنهوض السريع أو جذب الاستثمارات الكبرى من دون ضمان أسس الاستقرار، ستنقلب وبالاً على الاقتصاد والمجتمع. لذلك الرهان الحقيقي يجب أن يكون على بناء قدرات الدولة والمجتمع للنموّ المستدام، لا على تسويق الوعود الرنّانة التي تتبخّر عند أوّل امتحان واقعي.

من المقلق أنّ كثيراً من النقاشات الحالية تتجاهل هذا التسلسل الضروري. فالمزايدات، مع شرعيّتها الأخلاقية، تؤخّر الحلول بدل أن تسرّعها. هناك من يريد تحقيق العدالة قبل تثبيت الاستقرار، ومن يطالب باستعادة كلّ الحقوق دفعة واحدة، فيما الدولة تُكافح لتسديد رواتب موظّفيها.

في الواقع، لا عدالة بلا استقرار، ولا محاسبة بلا دولة، ولا استرداد للحقوق من دون خطّة متكاملة تعترف بالممكن قبل أن تطالب بالمثاليّ.

ليس المطلوب إسقاط المطالب الشعبية أو التنازل عن المبادئ، بل إعادة ترتيب الأولويّات، وخلق إجماع وطنيّ حول خارطة طريق واقعيّة، تبدأ بالحدّ الأدنى وتبني عليه.

لا يحتمل البلد مغامرات جديدة ولا عناداً مدمّراً. نحن بحاجة إلى نضج سياسيّ، ومصارحة مع الناس، وإرادة صادقة لتجاوز الانهيار. ستأتي العدالة، نعم، لكنّها تحتاج إلى وقت ومؤسّسات فاعلة وبيئة سياسية جديدة ومجتمع لا يُعيد إنتاج أزماته كلّما اقترب من الحلّ.

ولنكن واقعيّين… في زمن التحوّلات الكبرى، لا يكفي أن نرفع سقف التوقّعات ونسقط في دوّامة المثاليّة. “الجمهورية الجديدة” التي يتشارك رئاستها الثنائي عون – سلام، لن تُقيم العدالة وحدها، ولن تنقذ لبنان بقرارات سحرية. المطلوب منها، قبل كلّ شيء، أن تؤسّس لمسار مختلف: إدارة واعية للأزمات، احترام لمبدأ الكفاية في التعيينات، والقبول بأن الإصلاح ليس قراراً ولا محطّة عابرة، بل مسار طويل ومعقّد. لن نحاسب الجمهورية الجديدة على تحقيق المعجزات، بل على مدى قدرتها على تخفيف الفشل، وتحويل الدولة من عبء إلى أداة خدمة. من هنا، فلنكن موضوعيّين في ما نريده، وواقعيّين في ما نطلبه، وأذكياء في ما نتوقّعه. ولنجعل من “الجمهورية الجديدة” فرصة تصحيح لا واجهة تجميل، ومن الإنقاذ محطّة انطلاق لا نقطة نهاية.

لبنان لا يحتاج إلى معجزات، بل إلى شجاعة الاعتراف بالحقيقة، والصدق في المقاربة، وخطّة واقعيّة تحاكي ما هو ممكن اليوم، من أجل تحقيق ما هو عادل غداً.

محمد فحيلي - اساس ميديا

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا