الصحافة

وداعًا لرزمات الليرات في الجيب

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

الكتلة النقدية ستبقى تحت السيطرة طالما تمّ سحب ما يُعادِل الفئات الجديدة من السوق، وهو ما ينص عليه التعديل النيابي. من هنا، لن يُؤديَ إصدار فئاتٍ أكبر إلى زعزعة الاستقرار النقدي، بل قد يُساهم في تحقيق نوعٍ من التوازن، إذا ترافقت الخطوة مع إصلاحات اقتصادية أوسع.

كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:

في ظلّ الأزمة الاقتصادية والنقدية التي تعصف بلبنان منذ أعوام، تتجه البلاد نحو إصلاحاتٍ بنيويةٍ تطال جوهر النظام المالي. آخر هذه الخطوات تمثّل في إقرار مجلس النواب تعديلًا طال انتظاره على قانون النّقد والتسليف، يسمح للمصرف المركزي بإصدار عملاتٍ نقديةٍ بأحجامٍ وأرقامٍ أكبر من فئة المئة ألف ليرة. فهل نشهد نهاية عصر «رزمات» مئات الآلاف في الجيب؟ وماذا يعني هذا التعديل للمواطن العادي، والاقتصاد الوطني، والمستقبل المالي للبنان؟

منذ انهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار، أصبح حمل النقود الورقيّة عبئًا يوميًا على المواطنين، خصوصًا بعد تخطّي التضخّم حدود المعقول. ومع غياب العملات المعدنية وتراجع القدرة الشرائية، بات من الطبيعي أن يحمل الفرد ملايين الليرات لتغطية حاجيّات يوميّة بسيطة. وإزّاء هذا الواقع، اتجه الكثير من اللبنانيين إلى التعامل اليومي بالدولار الذي بات أكثر استقرارًا، لا سيما في ظلّ شحّ الليرة في السّوق وتفشّي ما يُعرف بـ”الدولرة النقدية”، حيث لم تعد الليرة متوافرة، بينما يُفضل المواطن الاحتفاظ بالدولار في محفظته، سواء للادّخار أو لإنجاز معاملاته الأساسية اليومية بدلًا من حمل رزمات الليرات.

ما هو التعديل الذي أقرّه مجلس النواب؟

في جلسته الأخيرة، أقرّ مجلس النواب اللبناني تعديلًا في قانون النقد والتسليف، وتحديدًا في المواد المتعلقة بصلاحيات مصرف لبنان في إصدار العملة، والتي كانت تُقيّده ضمن حدود فئاتٍ محددةٍ، أبرزها فئة المئة ألف ليرة كأعلى ورقة نقدية متداولة منذ التسعينيّات. هذا التعديل الجديد جاء ليسمح للمصرف المركزي بطباعة أوراقٍ نقديةٍ من فئاتٍ أكبر، تتماشى مع الواقع النقدي الجديد الذي فرضه التضخّم المُفرط والانهيار الحادّ في قيمة العملة الوطنية، حيث أصبحت الفئات الحالية غير كافيةٍ لتغطية حاجات السوق ولا لتسهيل التعاملات اليومية.

وبموجب التعديل، لم يعد إصدار فئات أكبر بحاجةٍ إلى قوانين جديدة أو استثناءات استثنائية من السلطة التشريعية، بل أصبح جزءًا من صلاحيات المصرف المركزي المباشرة، ما يُمكّنه من التحرّك السريع لمواكبة التطورات النقدية. وتُعَدُّ هذه الخطوة من الناحية التقنية محاولةً لتحديث الإطار القانوني للنقد اللبناني ليتواءم مع متطلّبات الاقتصاد المُتغيّر وظروف التضخّم العالية، كما هي الحال في عددٍ من الدول التي شهدت أزماتٍ مماثلةً مثل فنزويلا وزيمبابوي.

لكنّ أهمية هذا التعديل لا تقتصر فقط على طباعة أوراق أكبر، بل تكمن أيضًا في فتح الباب أمام تحديثٍ شاملٍ للمنظومة النقدية. فقد تضمّن النقاش حول التعديل إشاراتٍ واضحةً إلى إمكانية اعتماد عملةٍ رقميةٍ لبنانيةٍ رسميةٍ في المستقبل، ما يُمثّل تحوّلًا جذريًا في فلسفة إدارة النقد. هذه العملة الرّقمية، في حال إقرارها وتفعيلها، يمكن أن تُسهم في خفض الاعتماد على الكتلة النقدية الورقية، وتعزيز الشفافية، ومحاربة التهرب الضريبي، كما تتيح تتبّع حركة الأموال بشكل أدقّ.

وعلى المدى القصير، يُتوقّع أن يسهم إصدار فئاتٍ نقديةٍ أكبر في تخفيف العبء النقدي اليومي عن المواطن، وتسهيل عمليات البيع والشراء، وتقليص الحاجة لحمل كميّاتٍ ضخمةٍ من الأوراق النقدية. إلّا أنّ نجاح هذا التعديل يظلّ مرهونًا بقدرة الدولة على ضبط الكتلة النقدية ومنع طباعة كميّات غير مدروسة قد تؤدّي إلى تضخمٍ أكبر، وهو تحدٍّ لا يُستهان به في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة.

وقد حرص المُشرّعون على تضمين التعديل ضوابط واضحة لتفادي أي آثارٍ تضخميّة إضافيةٍ قد تنجم عن إصدار فئاتٍ نقديةٍ أكبر. فنصّ القانون صراحةً على أنّ مصرف لبنان ملزم، عند ضخّ كل ورقة من فئة 500 ألف ليرة، بسحب ما يعادلها من السوق، أي خمس أوراق من فئة 100 ألف ليرة. وهذا يعني أنّ إصدار الفئات الجديدة لن يؤدّي إلى توسيع الكتلة النقدية بل سيُستبدل النقد الكبير بالصغير، ما يساهم في تبسيط التعاملات من دون التأثير في حجم السيولة المُتداولة.

بهذا الترتيب، يسعى التعديل إلى تفادي زعزعة سعر الصّرف أو خلق طلبٍ إضافيّ على الدولار، وهو أمر حيويّ في ظل هشاشة الاستقرار النقدي في البلاد. فالهدف ليس ضخّ أموالٍ جديدةٍ، بل إعادة هيكلة الشكل الفيزيائي للنقد المتداول بما يعكس الواقع المالي ويخفّف الأعباء اللوجستية على المواطنين والمؤسسات.

يرى الخبير الاقتصادي محمود جباعي، في حديث لمنصة “هنا لبنان”، أنّ التعديل الذي أقرّه مجلس النواب يُعدّ خطوةً إصلاحيةً تأخّر تنفيذها، خصوصًا أنّ فئات العملة المتوفّرة حاليًا لم تعد تتناسب مع سعر الصّرف الفعلي، إذ لم يعدْ منطقيًا أن تكون أكبر ورقة نقدية توازي بالكاد دولارًا واحدًا.

ويشير جباعي إلى أن إصدار فئاتٍ أكبر، مثل 500 ألف أو حتّى مليون ليرة، يُسهّل التعاملات اليومية ويُخفّف من الأعباء النقدية على المواطن، كما يُقلّص من كلفة الطباعة على مصرف لبنان. وعلى الرَّغم من الدولرة الواسعة في الاقتصاد، يلفت إلى أنّ هذه الخطوة قد تعيد بعض الحضور لليرة في التداول اليومي.

أمّا بالنسبة لتأثير الخطوة في سعر الصرف، فيؤكد أنّ الكتلة النقدية ستبقى تحت السيطرة طالما تمّ سحب ما يُعادِل الفئات الجديدة من السوق، وهو ما ينص عليه التعديل. من هنا، لا يتوقع جباعي أن يُؤديَ إصدار فئاتٍ أكبر إلى زعزعة الاستقرار النقدي، بل قد يُساهم في تحقيق نوعٍ من التوازن، إذا ترافقت الخطوة مع إصلاحات اقتصادية أوسع.

على الرَّغم من رمزيّة هذا التعديل، فإنّ فعّاليته مرهونة بسلسلة إصلاحات شاملة تتعدّى طباعة أوراق نقدية أكبر أو الترويج للعملة الرّقمية. يبقى السؤال: هل ستكون هذه الخطوة بداية نحو نظام نقدي أكثر عقلانية وحداثة، أم مجرد إجراء تجميلي يُضاف إلى سجلّ القرارات غير المجدية؟.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا