ما بعد المافيا والميليشيا: السلاح أوّلاً
وكأنّ النقاش في البلد عاد إلى المربّع الأول. إلى محاولة فصل عنوان السلاح عن سائر العناوين التي تهمّ اللبنانيّين، من النموّ الاقتصادي، وفرص العمل، والقطاع السياحيّ، والكهرباء، والاستثمارات الخارجيّة. تدريجياً، نرى محاولة قديمة - جديدة لإعطاء هذه العناوين الأولويّة، على اعتبارها سهلة المنال، وتأجيل عنوان سلاح "حزب اللّه"، على اعتباره إشكالياً، ويخضع لاعتبارات إقليميّة معقّدة، منها المفاوضات الأميركية - الإيرانيّة. لكنّ الواقع العمليّ – بغضّ النظر عن أيّ اعتبارات أيديولوجية – يقول عكس ذلك تماماً: لا نموّ، ولا فرص عمل، ولا سياحة، ولا كهرباء، ولا استثمارات، من دون حلّ نهائي لمسألة سلاح "حزب اللّه". إلّا إذا كان الهدف أن يعيش لبنان على الفتات، على بقايا التحوّلات الإقليميّة، ويرضى بالقليل القليل، تحت شعار تفادي "الحرب الأهليّة".
بين عامي 2011 و 2024، كانت المعضلة الأساسيّة التي تربط ملفّ السلاح بسائر الملفات الحياتيّة هي معادلة المافيا والميليشيا. كان السلاح يفرض واقعاً سياسياً يمنع أيّ تقدّم اقتصاديّ وسياسيّ، بحكم فرضه منظومة سياسيّة فاسدة وفاشلة، أوصلتنا تدريجياً إلى الانهيار الذي وقع في العام 2019، واستمرّ في السنوات التي تلت (إدارة الانهيار كانت أسوأ من إدارة ما أوصلنا إلى الانهيار). باتت تفاصيل هذا الترتيب معلومة للجميع: الطبقة السياسية تحتمي بالميليشيا لنهب قدرات الدولة وإهدارها، فيما يحتمي "حزب اللّه" بالمافيا لشرعنة وحماية تمدّده العسكري، من جنوب لبنان وصولاً إلى اليمن. أهدر ما يزيد عن مئة مليار دولار دفاعاً عن هذا التحالف الجهنّميّ، وهاجر ما يزيد عن 700 ألف لبناني إلى الخارج.
اليوم، بعد هزيمة "حزب اللّه" في الحرب الأخيرة، لم يعد هذا التحالف متحكّماً بالبلد بالشكل – أو المعادلة التبادليّة – التي كانت قائمة في العقد الذي سبق الانهيار. لا يمكن وفق أيّ معطيات موضوعية القول إن السلطة التنفيذيّة الحالية هي عبارة عن "مافيا" سياسيّة متحالفة مع السلاح غير الشرعي، أو إنها عبارة عن منظومة فساد وفشل استراتيجيين. ولا شكّ أنّ السلطة التنفيذيّة الحالية – بمعظم وجوهها – كانت لتكون قادرة على النهوض بالبلد ونقله من مرحلة إلى أخرى لو لم يكن هناك عائق لا يمكن تجاوزه مهما حاولنا: سلاح "حزب اللّه".
لكنّ الواقع الاستراتيجي تبدّل اليوم، وذلك لاعتبارين أساسيّين: الأول هو أنّ إسرائيل – في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر و "حرب الإسناد"، لن تسمح بتجاهل موضوع السلاح في ما يسمّى شمال الليطاني، وهو ما كان ممكناً منذ سنوات، لو طبّق القرار 1701 بحذافيره بعد حرب تموّز. وستظلّ الضربات الإسرائيليّة قائمة ومستمرّة (وقد ترتفع وتيرتها) في الجنوب والضاحية والبقاع طالما أنّ الحزب لم يعلن ليس فقط عن تسليم سلاحه بل عن حلّ جناحه العسكري. وذلك لا ارتباط له بمشيئة اللبنانيّين، أو موقف الدولة اللبنانيّة (الإدانات قد تزيد وتيرتها وليس العكس)، بل هو مسار قائم بحدّ ذاته ويحظى بدعم أميركي ودولي كامل متكامل. أما الاعتبار الثاني والأهمّ، فقائم على حقيقة أنّ لبنان لن يحصل على أيّ دعم دولي – على شكل هبات أو استثمارات استراتيجيّة – تسمح له بالنهوض باقتصاده ما لم يقارب موضوع سلاح "حزب اللّه" بشكل جدّي ورصين ومتماسك، بعيداً من محاولات المراوغة أو شراء الوقت، التي لم تعد تقنع أحداً في الخارج، خصوصاً في الخليج العربي. وتكفي هنا مقارنة التصرّف الدوليّ - العربيّ مع سوريا في الشهر الأخير بالتصرّف تجاه لبنان: هنا الكثير من الرعاية المعنويّة والزيارات البروتوكولية أمّا هناك فالكثير من الخطوات التاريخيّة والاستثمارات الاستراتيجيّة. وليس صحيحاً أبداً أن مجرّد أن يسير لبنان بالاتجاه نفسه – ولو بوتيرة أبطأ بكثير، يعني أنّه سيحصد المكاسب نفسها، ولو متأخراً. بل إنه قد لا يصل أبداً بفعل التأنّي المبالغ به.
حقيقة أن "حزب اللّه" بات ضعيفاً، ولا يمكنه إعاقة عمل الدولة اللبنانيّة في المواضيع الحياتيّة (مثلاً فرضه جبران باسيل على وزارة الطاقة أو منع القاضي البيطار من المضيّ قدماً في تحقيقاته)، إضافة إلى سيطرة الجيش اللبناني على منطقة جنوب الليطاني، لا تعنيان أبداً أنه باستطاعة لبنان النهوض من دون حلّ نهائيّ لموضوع السلاح. بل هذا يعني ببساطة أنه يستطيع أن يعيش (على وقع الضربات الإسرائيليّة المتكرّرة) على القليل من فتات الوضع شبه الطبيعي، وعلى هامش التطوّرات الكبرى التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط. لا شكّ أنّ إغراءات الاستقرار معطوفة على تحقيق بعض الإنجازات التكتيكيّة هنا وهناك قد تدفع البعض إلى تأجيل البحث بالسلاح إلى حين "إنضاج الظروف المؤاتية". ولكن "يلّي جرّب المجرّب"، من المفترض أن يكون "عقله مخرّب". سقطت المافيا ولو جزئياً، وبقيت الميليشيا ولو ضعيفة، وبتنا أمام واقع قديم - جديد: لبنان أسير السلاح، ولو في "شمال الليطاني".
صالح المشنوق - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|